الرياض وطهران...وفن التسامح الإسلامي

الخصومات المتزايدة والعداوات بين إيران والسعودية لا شأن لها بالانقسام السني-الشيعي في العقيدة الإسلامية، ولا بالمصير والقدر المشتركين للإيرانيين والعرب بين الأمم الأخرى في المنطقة، بل إن هذه العداوات هي نتاج الغضب اللاهب لدولتين مصممتين على التفوق بعضهما على بعض مهما كان الثمن، بحسب ما يكتب حميد دباشي في رؤيته التالية.

الكاتبة ، الكاتب: Hamid Dabashi

قُدّر لي زيارة متحف الفن الإسلامي في العاصمة القطرية الدوحة في نفس الوقت الذي تأجج فيه الانقسام السني-الشيعي والعربي-الفارسي الزائف بين إيران والسعودية ووصل إلى انحدارات خطيرة. هذا المتحف في بلد يقع فعلياً بين إيران والسعودية، ولكنه عاطفياً كأنه في كوكب آخر.

أدى إعدام السعودية لـ47 شخصاً متهمين بـ"الإرهاب"، من بينهم القائد الديني الشيعي نمر النمر والقيادي في تنظيم القاعدة فارس الزهراني، إلى هجوم على وإحراق لمبنى السفارة السعودية في طهران، تبعه إعلان السعودية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران بشكل تام.

هذه الخصومة المستمرة منذ عقود بين القطبين الإقليميين وصلت مؤخراً إلى نقطة الغليان واتخذت شكل انقسام طائفي كاذب بين المسلمين السنة والشيعة، بل وبشكل أسوأ بين العرب والإيرانيين.

لكن في قلب فوضى هذه الصراعات المثيرة للجنون وبالضبط بين الفريقين المتحاربين، يقف متحف رائع يحمل في جنباته رسالة خفية ولكنها غامرة.

السكينة والجنون

لأولئك منكم ممن لم يزوروا هذا المتحف الرائع بعد، فإن عمارته المهيبة هي من تصميم المهندس المعماري الأمريكي الصيني آي إم باي، وهو قطعة منفردة من الأناقة وسط منطقة تفيض بأكثر عينات فن العمارة بهرجة وابتذالاً حول العالم تم تصديرها إلى قطر.

تصميم آي إم باي الممتاز، والذي تم بناؤه بحكمة وتواضع واحترام للبيئة المحلية وكلمسة تقدير للعمارة الإسلامية، لا يتجاهل هذا النشاز من الذوق السيء والتصميم الرديء، بل إنه يلتقط هذه البانوراما في ردهته الرئيسية بلطف وكرم وتسامح، واضعاً، حرفياً، بحراً بين سكينته وذلك الجنون.

خلال زيارتي الأخيرة، كان المتحف يضم معرضين متنقلين بالإضافة إلى مجموعته الدائمة العظيمة. أحد هذه المعارض حمل عنوان "القاجاريات: صورة المرأة في إيران القرن التاسع عشر"، بينما عُنون الآخر بـ"الصيد: هوايات الملوك في الأراضي الإسلامية"، والذي جمع فيه القائمون على المعرض مجموعة مذهلة من القطع الأثرية التي تتمحور حول موضوع الصيد الملكي.

تجربة زيارة متحف الفن الإسلامي في الدوحة المدهشة في هذه اللحظة بالذات تشكل الفارق اللافت والدراماتيكي بين واقع الحضارة الإسلامية ممثلة بأفضل صورها في الدرر الفنية، والأوهام المصطنعة التي هي الانقسام السني-الشيعي والعربي-الفارسي، الذي تمثله اليوم جملة من الخصومات الملتهبة بين السعودية وإيران.

 إذا كنت تريد أن ترى بأم عينيك سبب كون هذه العدوانية الخطيرة المتوهمة والمصطنعة والمفترضة بين العرب والإيرانيين أو بين السنة والشيعة غريبة كل الغرابة على نسيج الحضارة الإسلامية، فاقضِ بعض الساعات فقط في هذا المتحف.

لا وجود للأحكام المسبقة

The skyline of Doha from I.M. Pei′s Museum of Islamic Art in Qatar (photo: fotolia/philipus)
متحف الفن الإسلامي في الدوحة: هذا المجمع، الذي صممه آي إم باي، والآثار التي يحويها شاهد على التسامح الذي ساد الإسلام لعصور خلت، ويقع على جزيرة من السكينة في بحر من الجنون المعماري المعاصر.

في هذا المتحف، تتنقل بين قاعة وأخرى، ومن غرفة كنوز فنية إسلامية مبجّلة إلى أخرى، ولن ترَ أي إشارة على مشاعر مناهضة للإيرانيين أو مناوئة للعرب. وفي كرم روح مثير للإعجاب، يمكن رؤية أعمال فنية من إيران والهند وتركيا وآسيا الوسطى جنباً إلى جنب مع أعمال من مصر وسوريا والشام وشمال أفريقيا وبقية العالم العربي.

لا يوجد أدنى دليل على أن من حصلوا على تلك التحف الفنية الإسلامية واعتنوا بها وعرضوها بكل أناقة لم يكن شغلهم الشاغل سوى اعتناق الأوجه المتعددة للفن الإسلامي بغض النظر عن أصله، وذلك عن طريق وسم تلك الأعمال ونسبها إلى الدول التي أنتجتها. ففي إحدى الحالات، ستجد نسخة من القرآن من الهند موضوعة بعناية إلى جانب نسخة من "كلستان سعدي" (روضة الورد لسعدي شيرازي)، وتم تأريخهما وترقيمهما وتحديد مصدرهما بكل دقة، والأهم من ذلك، في غياب أي مؤشر على الأحكام المسبقة.

يقولون (بسخرية) إنه عندما شارفت القسطنطينية على السقوط في أيدي العثمانيين عام 1453، كان علماء اللاهوت المسيحي هناك مشغولين بمناقشة العدد الصحيح للملائكة الذين يستطيعون الرقص على رأس الإبرة.

لديّ حب كبير وإعجاب وود زمالة مع علماء اللاهوت هؤلاء، ولا أعتبر هذا السؤال الممتاز سوى معجزة من معجزات المنطق الجدلي. لا يسعني إلا تخيل صحبتهم النبيلة والمجيدة عندما كانوا يناقشون هذه المواضيع. أتمنى لو كنت هناك معهم.

والآن، في الوقت الذي تتأجج فيه نار الكراهية والعنف من طرف العالم العربي والإسلامي إلى طرفه الآخر، وجدت نفسي في صحبة هؤلاء العلماء الرائعين، وذلك عندما غرقت في معروضات متحف الفن الإسلامي بالدوحة، متسائلاً عن عدد أوجه أكثر الإنجازات الفنية والعلمية إعجازاً التي يمكن لحضارة ما أن تجمعها وأن تستطيع في نفس الوقت الرقص بسلام وتناغم على طرف هذه المساحة، التي لا تزيد كثيراً عن مساحة رأس إبرة بالمقارنة مع مساحة كوكبنا.

Protesters outside Saudi Arabia′s embassy in Tehran, 03.01.2016 (photo: picture-alliance/dpa/M.-R. Nadimi)
يكتب حميد دباشي: "في هذا الفضاء المجرد الذي أنتجه المعماري الفذّ، صنع آي إم باي صورة لتجمّع علماء اللاهوت ذاك، لا ليهرب من البرابرة على أبواب إنسانيتنا، بل ليروض هذه الوحشية الشيطانية الكامنة في لب نسيجنا الإنساني".

مثل علماء اللاهوت المسيحي هؤلاء أو نظرائهم المسلمين أو اليهود أو الهندوس، فإن تأملاتي في ذلك المتحف لم تكن عن إهمال متعمد، ولكنها كانت في تحد متعمد لنيران الكراهية والعنف والطائفية والقومية المتطرفة.

 وحشية شيطانية

في حقيقة الأمر، كان علماء اللاهوت هؤلاء يناقشون عدد ملائكتنا الجيدة المجردة النقية الذي يمكننا تحريكهم في سلام وتناغم من أجل الحياة على هذه الأرض، وهو عدد أقل بكثير ويشغل حيزاً أقل من رأس الإبرة على المستوى الكوني.

في هذا الفضاء المجرد الذي أنتجه المعماري الفذّ، صنَعَ آي إم باي صورة لتجمّع علماء اللاهوت ذاك، لا ليهرب من البرابرة على أبواب إنسانيتنا، بل ليروض هذه الوحشية الشيطانية الكامنة في لب نسيجنا الإنساني.

إن الخصومة المتزايدة والعداوات بين إيران والسعودية لا شأن لها بالانقسام السني-الشيعي في العقيدة الدينية الإسلامية، ولا شأن لها أيضاً بالقدر والمصير المشتركين للإيرانيين والعرب بين الشعوب الأخرى في المنطقة. هذه العداوات هي نتاج الغضب اللاهب لدولتين مصممتين على التفوق بعضهما على بعض مهما كان الثمن.

إن متحف الفن الإسلامي في الدوحة هو آخر آثار فن التسامح الإسلامي: التسامح الذي لا يعني البقاء واقفاً رغم الإرهاب الذي يحيط به من كل جانب، بل كمراقب حنون وطيب ورقيق يعلمنا كيف نلقي نظرة مخلّصة عليه.

 

حميد دباشي

ترجمة: ياسر أبو معيلق

حقوق النشر: الجزيرة  2016  /  قنطرة ar.qantara.de 2016

 

يشغل حميد دباشي منصب أستاذ  للدراسات الإيرانية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك.