أهالي غزة المدمرة...متروكون في البرد والحر والعراء

منزل أم فادي النجار في بلدة خزاعة الحدودية.
منزل أم فادي النجار في بلدة خزاعة الحدودية.

يذهب المئات يومياً إلى مستودع الشمالي في حي الشجاعية بقطاع غزة، أملاً في الحصول على الإسمنت اللازم لإعادة بناء منازلهم بعد الحرب المدمرة على غزة في صيف عام 2014. وبعد مضي شهور عديدة لم تبدأ عملية إعادة الإعمار بعد. وما زالت عائلات كثيرة في قطاع غزة تعيش فوق ركام منازلها المدمرة تدميرا شبه تام، دون أن تقدر على ترميمها بسبب نقص الإسمنت الناجم عن الحصار. إيلينيا غوستولي تطلع موقع قنطرة -من غزة- على أحوال إعادة البناء في هذا القطاع الفلسطيني.

الكاتبة ، الكاتب: Ylenia Gostoli

كانت رهف أبو عاصي تعيش مع عائلتها في منزلهم بمدينة رفح، جنوب قطاع غزة، عندما ضربت العاصفة "هدى" القطاع منتصف شهر يناير 2015. لقد دُمّر منزلهم بشكل شبه كامل خلال الحرب على غزة الصيف الماضي. وتفيد تقارير إعلامية فلسطينية أن رهف توفيت بسبب مشاكل في الرئة سببتها برودة الجو، عن عمر لم يتجاوز الشهرين. كما توفي طفلان آخران وصياد في الثانية والعشرين من العمر بسبب رداءة الأحوال الجوية في غزة إبان العاصفة. لقد أقيم على الأقل 49 مأوى متنقلاً مؤقتاً، كما تم إخلاء العديد من المنازل بمن فيها من سكان بسبب الفيضانات.

من إجمالي سكان غزة البالغ عددهم 1.8 مليون نسمة، عانى ما يقرب من 600 ألف منهم من أضرار لمنازلهم خلال الحرب في الصيف الماضي. وفي نهاية عام 2014، كشف مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية UNOCHA عن أن أكثر من 100 ألف شخص لا يزالون دون مأوى. وبعد مضي أكثر من أربعة شهور على سريان وقف إطلاق النار، ما تزال جهود إعادة الإعمار طفلاً يحبو، لاسيما وأن جزءاً ضئيلاً للغاية فقط من الـ4.5 مليار دولار، التي تعهد المانحون بتقديمها خلال مؤتمر القاهرة المقام في أكتوبر الماضي، قد تم تسليمه.

وفي بلدة خزاعة، جنوب قطاع غزة، كان الطابق الأرضي من منزل أم فادي النجار المبنى الوحيد الذي بقي قائماً في الشارع المدمر عن بكرة أبيه. وتعيش العائلة، التي تضم ثلاثة أطفال، في مساحة ضيقة تمكنت من إيجادها بعد إزالة جزء من الأنقاض، مع القليل من الأثاث الذي تمكنت من إنقاذه. وتوفر السجادات بعض الحماية ضد البرد والريح بدلاً من الأبواب والنوافذ التي دمرت.

أما داخل المنزل، فتجلس أم فادي أمام نار موقدة تخبز على لوح من الصفيح يستخدم تقليدياً للخبز. وتقول أم فادي: "كل ما نريده هو أن يعود منزلنا. كيف يمكننا أن نعيش من دون منزل؟ كيف نستطيع عمل أي شيء دون منزل؟" معظم سكان الشارع انتقلوا إلى منازل متنقلة في معسكر إيواء قريب ومحاط بحاجز مؤقت مصنوع من أكوام من الأكياس الرملية لمنع مياه الفيضانات من التسرب إلى المعسكر.

Mobile temporary shelters in Gaza (photo: Ylenia Gostoli)
According to the UN Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (OCHA), 600,000 people suffered damage to their homes as a result of last summer's offensive, known as Operation Protective Edge. Some 100,000 were still homeless at the end of 2014. Many people in Gaza have moved into temporary shelters such as the ones shown in this photo

قُتل في حرب صيف 2014، والتي تعتبر الأكثر دموية على غزة منذ عام 1967، 2145 شخصاً على الأقل، من بينهم 581 طفلاً. كما تسببت الحرب بأضرار لـ113500 منزل وعمارة سكنية، منها 22 ألفاً دُمرت بشكل كلي أو أصبحت غير صالحة للسكن.

آلية إعادة إعمار غزة

 في أكتوبر الماضي 2014، نجحت الأمم المتحدة في التوصل إلى اتفاق بين الحكومتين الفلسطينية والإسرائيلية، عُرف باسم "آلية إعادة إعمار غزة". هدف هذا الاتفاق هو تسهيل جهود إعادة الإعمار على الأرض وفي نفس الوقت تهدئة المخاوف الأمنية الإسرائيلية في ما يتعلق بما يسمى بـ"الاستخدام المزدوج" لبعض المواد، مثل الإسمنت والزلط (الحصمة) والأعمدة الحديدية، والتي تخشى إسرائيل من أنها قد تحوّل من إعادة الإعمار إلى بناء الأنفاق عبر الحدود أو تصنيع الصواريخ.

 ومنذ صعود حماس إلى السلطة عام 2007، قامت إسرائيل بفرض تقييدات شديدة على استيراد هذه المواد كجزء من الحصار المفروض على القطاع، ما أدى إلى تقييد حرية حركة السكان والبضائع القادمة والمغادرة.

 ويعترف نيكولاس هيركوليس، رئيس مكتب هيئة الأمم المتحدة الإنمائية UNDP في غزة، والذي شارك في تقييم الأضرار بالتعاون مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين UNRWA: "إنها عملية بطيئة للغاية". وفي ما تُدفع إعانات لتغطية إيجار السكن لبعض العائلات التي دمرت منازلها أو أصبحت غير صالحة للسكن، إلا أن أولئك الذين وُجدت منازلهم على أنها بحاجة إلى إصلاحات يتلقون قسائم من الأمم المتحدة لشراء مواد البناء اللازمة من خلال آلية إعادة الإعمار.

 وينص هذا الاتفاق على أن تقوم الحكومة الفلسطينية بشراء مواد البناء من باعة موافق عليهم مسبقاً، ومن ثم تخزين هذه المواد وتوزيعها من خلال مستودع آمن. كما تقوم وزارة الأشغال العامة والإسكان بنشر قوائم بأسماء من يحق لهم شراء الإسمنت عبر قسائم الأمم المتحدة على شكل دفعات، وذلك بعد فحص الأسماء والموافقة عليها من قبل كافة الأطراف. هذا وتتم مراقبة المواد وتتبعها عبر قاعدة بيانات يمكن للسلطات الإسرائيلية الاطلاع عليها في أي وقت.

وتشير التقديرات إلى أنه بعد الحرب، فإن قطاع غزة بحاجة إلى ستة أطنان من الإسمنت يومياً لإعادة الإعمار. ولكن مع منتصف ديسمبر، لم يدخل قطاع غزة سوى 18.177 طناً من الإسمنت، وحالياً تدخله مواد بناء أقل مما كان يدخل في الثلاثة شهور التي سبقت الحرب. وفي هذا الصدد، يقول وزير الأشغال العامة والإسكان، مفيد الحساينة، لموقع قنطرة: "على هذا المنوال، سيتطلب إعادة إعمار غزة 20 عاماً على الأقل".

Cement traders outside the Shamali warehouse in Shejaia, Gaza (photo: Ylenia Gostoli)
According to the reconstruction mechanism brokered by the UN, the Israeli government vets every family to which cement is assigned, and names are published only after careful screening. Nevertheless, cement is sometimes bought and re-sold to others on the street. Pictured here: cement traders outside the Shamali warehouse in Shejaia, Gaza

لذلك، تعرضت الآلية للكثير من الانتقادات، إذ قالت منظمة أوكسفام إنه لا ينبغي لهذه الآلية أن تصبح بديلاً عن إنهاء الحصار. وأضافت مديرة المؤسسة الإقليمية، كاثرين إسويان، أنه "إذا لم يكثف المانحون من الضغط لإنهاء الحصار، فإن الكثير من الأطفال المشردين بفعل الصراع مؤخراً سيكون لهم أحفاد عندما يُعاد بناء منازلهم ومدارسهم".

الحرب دمرت الحياة والمسكن

في حي الشجاعية، يقوم أحمد، البالغ من العمر 17 عاماً، وإخوته بانتشال قطع من بلاط الطابق العلوي لمنزل عائلتهم المدمر، بالإضافة إلى كل ما يمكنهم إعادة تدويره. وعلى بعد أمتار منهم، تَحلّقَ محمد العرعير وعماله حول الشاي خارج المنزل الذي يقومون بإصلاحه. إنه منزل أخيه، أما منزله فقد سوّي بالأرض. أخو محمد قُتل في العشرين من يوليو، وهو اليوم الذي شهد فيه الحي الآهل بالسكان إحدى أشرس معارك الشوارع خلال الحرب.

ويقول محمد، متحدثاً لموقع قنطرة: "لقد تقدمت بطلب للحصول على مواد البناء، ولكن دوري لم يحِن بعد ... الشتاء يزداد برداً، ولهذا سأقوم بشراء المواد من جيبي. يمكنك أن تجد الإسمنت، ولكنه غالٍ جداً".

وبحسب مدير مستودع الشمالي، ماهر خليل، يأتي المئات إلى المستودع يومياً على أمل الحصول على الإسمنت اللازم لإعادة بناء منازلهم. ويضيف خليل: "إنهم يأتون ليتأكدوا من وجود أسمائهم على القائمة وما إذا كان هناك أي إسمنت".

وتقوم كاميرات مراقبة بتصوير كل عملية شراء تشرف عليها الأمم المتحدة في المستودع، ولكن على بعد أمتار قليلة من مدخله، يتم إعادة بيع وشراء بعض الإسمنت من قبل "تجار" في السوق السوداء، حيث تصل الأسعار إلى 170 شيكل (نحو 36 يورو) لكل كيس يزن 50 كيلوغراماً، مع العلم أن سعر الكيس داخل المستودع هو 27 شيكل (حوالي ستة يورو).

ويتابع خليل بالقول إن "بعض أولئك الذين لم ينتظروا الأمم المتحدة واشتروا الإسمنت من جيبهم الخاص يحاولون استرجاع ما دفعوه. أما الآخرون فلا يوجد لديهم مال لشراء الإسمنت وإعادة بناء منازلهم، ولذلك يقومون ببيعه لدفع أجور العمال وتسديد ديونهم وشراء أشياء أخرى يحتاجونها". هذا واتهم تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية بعض المسؤولين بتلقي الرشوة لإصدار قسائم.

حسين، ذو المظهر الرث والبالغ من العمر 19 عاماً، يأتي إلى المستودع في الصباح الباكر كل يوم للحصول على أفضل الصفقات، إذ يقول: "بعض الناس يأتون وأسماؤهم ليست في القائمة. لذلك فهم يشترون الإسمنت منا". ويدعي حسين أنه لا يربح أكثر من 100 شيكل (حوالي 21 يورو) في كل طن إسمنت يعيد بيعه، مضيفاً: "لا يوجد هناك عمل، ولذلك نأتي إلى هنا للتجارة. الحرب لم تدمر منازلنا فحسب، بل وحياتنا أيضاً".

 

إيلينيا غوستولي

ترجمة: ياسر أبو معيلق

حقوق النشر: موقع قنطرة 2015 ar.qantara.de