لورانس العرب في نسخته الأنثوية...نعمة على العراق ونقمة

يشهد نظام الدولة الوطنية في الشرق الأوسط عملية تفكيك منذ أن اجتاحت قوات تنظيم "الدولة الإسلامية" في صيف عام 2014 ومن دون أية عوائق الحدود العراقية السورية، التي يعود تاريخها إلى اتفاقية سايكس بيكو في عام 1916. وفي تلك الفترة ساهمت في رسم هذه الحدود امرأة أيضا: هي البريطانية غيرترود بيل. الصحفية الألمانية بيرغيت سفينسون زارت ضريحها في بغداد وتعرّف موقع قنطرة أكثر بالنسخة المؤنثة للورانس العرب.

تم دفنها في بغداد - بهذه الجملة القصيرة تنتهي سيرة حياة واحدة من النساء الأكثر أهميةً في التاريخ الحديث لمنطقة الشرق الأوسط. عالمة الآثار والمستكشفة البريطانية غيرترود بيل، أو "ملكة الصحراء" - مثلما يصفها المخرج الألماني فيرنر هيرتسوغ في فيلم حول حياتها يحمل هذا العنوان. أو "أمُّ العراق"، مثلما يسمي سكَّانُ بلاد الرافدين هذه المرأة، التي منحتهم النعمة والنقمة في الوقت نفسه.

البحث عن قبرها في العاصمة العراقية بغداد يشبه ملحمة صغيرة. "لا، هي ليست هنا"، مثلما ادَّعى حارس المقبرة البريطانية في قلب بغداد، في منطقة باب المعظَّم، وراح يمشي بين صفوف القبور مع الزائرة. وهنا يرقد جنود صاحب الجلالة، الملك جورج الخامس ملك بريطانيا العظمى. ومعظمهم سقطوا في عام 1917.

وفي موقع واسع النطاق تم بناء ضريح صغير من أجل الـ"سير فريدريك ستانلي مود". هذا الجنرال صنع لنفسه اسمًا لامعًا كفاتح بغداد في الحملة البريطانية على الجبهة في بلاد الرافدين خلال الحرب العالمية الأولى. وبعد غزو العراق في عام 2003 من قبل القوَّات البريطانية والأمريكية، أطلق البريطانيون على مقرِّهم في المنطقة الخضراء في بغداد اسم "بيت مود".

إعادة تنظيم الشرق الأوسط

"انظري في المقبرة الأرمنية، إذا كنتِ تريدين العثور على قبر الآنسة بيل"، مثلما نصحني أخيرًا حارس المقبرة البريطانية. ولكنها لم تكن ترقد هناك أيضًا. هذه المرأة التي "خلقت" العراق - عندما توفيت في الثاني عشر من شهر تموز/يوليو في عام 1926 في وطنها الذي اختارته لنفسها بغداد في ظلِّ ظروف لا تزال غير واضحة، كانت قد فقدت بالفعل الكثير من تأثيرها.

Gertrude Bells Grab; Foto: Birgit Svensson
Die Erfinderin des Iraks: Nach der Rolle der Toten für sein Land befragt, sagt Grabwächter Ali Mansour diplomatisch: „Einerseits war sie verantwortlich für die unglückliche Grenzziehung und das Gebilde Irak, das so vorher nicht existierte. Andererseits hat sie sich stets für das kulturelle Erbe des Landes eingesetzt und das irakische Nationalmuseum begründet.“

تم التوصُّل إلى اتِّفاقية سرية بين حكومتي بريطانيا وفرنسا، وقد تقرَّر في هذه الاتِّفاقية بالفعل في السادس عشر من شهر أيَّار/مايو 1916 تقسيم غنيمة الحرب التي كان لا يزال يجب احتلالها من العثمانيين. ولكن مع ذلك استغرق تدمير الدولة العثمانية النهائي عامين آخرين. غير أنَّ إعادة تنظيم منطقة الشرق الأوسط كانت أمرًا مفروغًا منه وقد قُدِّر لعملية إعادة تنظيم الشرق الأوسط منذ تلك اللحظة أن تحمل توقيع غيرترود بيل.

وبصفتها في البداية موظفةً غير رسمية في جهاز المخابرات البريطانية، وفي وقت لاحق ضابط ارتباط سياسي برتبة رائد ومستشارة لشؤون الشرق، لعبت دورًا حاسمًا في تأسيس العراق الحديث وقد كانت من المقرَّبين لملك العراق فيصل الأوَّل. كان الملك فيصل في البداية ملك سوريا، إلى أن طرده الفرنسيون من سوريا وقام البريطانيون بتنصيبه في بغداد بناءً على طلب غيرترود بيل وإصرارها.

وبعد ذلك لم تعد لدى هذا الملك الهاشمي حاجة للبريطانيين، وكذلك فقد ابتعد الإنكليز عن هذه السيدة غير العادية في ذلك الوقت. وهذا يُفسِّر عدم وجود مثواها الأخير في المقبرة البريطانية في بغداد.

كانت تربط غيرترود بيل عداوةٌ شديدةٌ مع مارك سايكس، وهو أحد المفاوضَيْن في الاتِّفاقية السرية بين فرنسا وبريطانيا. وكان يصفها بأنَّها "امرأة كالرجل مسطحة الصدر، ورحالة تلعب بذيلها، وثرثارة رخيصة". أما هي فقد كانت تصفه من ناحية أخرى بأنَّه شخص يتَّسِم بعدم كفاءة بلا حدود.

وذلك لأنَّ الاتِّفاقية التي صاغها البريطاني مارك سايكس بالتعاون مع نظيره الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، كانت مثيرة للجدل إبَّان توقيعها. وكان بيكو مفاوضًا لديه خبرة أكثر بكثير من نظيره البريطاني وقد أدرك كيف يضمن لفرنسا أكثر بكثير مما كان متوقعًا. وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ هذه الاتِّفاقية تحتوي على تناقضات مهمة. ففي حين أنَّ بريطانيا كانت قد تعهَّدت في وقت سابق بأنَّها ستدعم العرب في حالة قيامهم بثورة ضدَّ الدولة العثمانية وستعترف باستقلال العرب لاحقًا، فقد تقاسمت فرنسا وبريطانيا حينئذٍ أجزاءً كبيرة من الأراضي العربية فيما بينهما وخلقتا دولاً مثل سوريا والعراق.

ولكن في الواقع فقد تضمَّنت اتِّفاقية سايكس بيكو في الفقرة الأولى إشارة إلى أنَّ كلاً من فرنسا وبريطانيا على استعداد للاعتراف بدولة عربية مستقلة وحمايتها في المناطق المحدَّدة بعلامة ألف وباء على الخريطة. غير أنَّ كِلتا الدولتين احتفظتا في مناطق نفوذهما بامتيازات استفادتا منها حتى الخمسينيات.

تشويه خَلْقيّ في تشكيل العراق الحديث

ولكن غيرترود بيل، التي صحيح أنَّها كانت تعمل في خدمة بريطانيا غير أنَّها كانت تسعى دائمًا من أجل مصلحة العرب، لم توافق على ذلك. ومن جانبه لم يكن مارك سايكس يعبأ بذلك، حيث أنَّه كان يهتم بمصير الأرمن - الذين كانوا يعانون من ضغط الدولة العثمانية - أكثر من اهتمامه بمستقبل العرب والأكراد. وكذلك كان مارك سايكس يعمل لصالح أطماع اليهود التي ظهرت حينها والهادفة إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

Grab von Gertrude Margaret Lowthian Bell. Foto: Birgit Svensson
Spurensuche in Bagdad: Inmitten von Moscheen, Kirchen, Ministeriumsgebäuden, löchrigen Straßen und endlosen Autoschlangen steht ein steinerner Sarkophag mit der Aufschrift: Gertrude Margaret Lowthian Bell. Auf ihm liegt ein kleines Bouquet mit roten und weißen Plastikrosen.

ثم أظهرت التطوُّرات اللاحقة كيف تنشأ من هذه المصالح المختلفة صراعاتٌ دمويةٌ وتتفاقم حدَّتُها في يومنا هذا. إذ لم يجلب تكوين دولة العراق من المناطق الثلاث المختلفة عرقيًا ودينيًا، أي الموصل وبغداد والبصرة، السعادة للعراق. فقد كانت دائمًا المملكة العراقية غير مستقرة، وفي عام 1958 قام الجيش بانقلاب عسكري ضدَّ الملك فيصل الثاني. وفي عام 1968 استولى حزب البعث الاشتراكي على السلطة، وفي عام 1979 أقام صدام حسين ديكتاتوريه، وحافظ على وحدة البلاد بوحشية يمكن وصفها بأنَّها قديمة.

في منطقة باب الشرجي الواقعة على الضفة الشرقية من نهر دجلة، يفتح علي منصور الباب المعدني الذي يفضي إلى المقبرة الإنجيلية. ومنذ نحو خمسين عامًا يُعْتَبَر هذا الرجل الشيعي البالغ من العمر اثنين وسبعين عامًا هو المسؤول هنا عن القبور القليلة.

وفي مقبرة تحيطها مساجدُ وكنائسُ ومباني وزارات وشوارعُ مليئةٌ بالحُفَر وطوابير سيَّارات لا نهاية لها، يوجد تابوت حجري يحمل النقش التالي: غيرترود مارغريت لوثيان بيل. وفوق هذا التابوت الحجري توجد باقةٌ صغيرةٌ من الورود البلاستيكية الحمراء والبيضاء.

وبعد سؤاله حول الدور الذي لعبته هذه المرأة الميِّتة بالنسبة لبلاده، أجاب حارس المقبرة علي منصور بشكل دبلوماسي: "إنَّ لكلِّ شخص حسناته وسيِّئاته". وأضاف أنَّ هذا ينطبق أيضًا على الآنسة غيرترود بيل. وأنَّها من ناحية هي المسؤولة عن رسم الحدود المشؤومة وكذلك عن تكوين العراق، الذي لم يكن موجودًا من قبل. ولكنها من ناحية أخرى كانت تعمل دائمًا من أجل التراث الثقافي في هذا البلد وقد أسَّست المتحف الوطني العراقي. "وكانت تتكلم لغتنا وتعرف قبائلنا وعاداتنا وتقاليدنا".

بيد أنَّها لم تكن تعرف الخلافات بين السُّنَّة والشيعة، وبين العرب والأكراد. "ولو عرفت ذلك لكان من الممكن تجنُّب الكثير من الأمور".

 

بيرغيت سفينسون

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة ar.qantara.de 2016