الثورة: أصل استعادة الحكايات

 أصدرت الكاتبة المصرية منصورة عزّ الدين بعد مذبحة رابعة والإطاحة بحكم الإخوان المسلمين ثلاث روايات جديدة، هي "جبل الزّمرد" وأخيلة الظلّ" وتتأمل سردية الثورة المصرية برواية جديدة تنتهي منها قريباً.
أصدرت الكاتبة المصرية منصورة عزّ الدين بعد مذبحة رابعة والإطاحة بحكم الإخوان المسلمين ثلاث روايات جديدة، هي "جبل الزّمرد" وأخيلة الظلّ" وتتأمل سردية الثورة المصرية برواية جديدة تنتهي منها قريباً.

هل يمكن للخيال أن يشيد الذاكرة المتهالكة؟ الكاتبة المصرية منصورة عزّ الدين ترصد لموقع قنطرة محاولاتها للعودة إلى الكتابة بعد ثورة يناير 2011 لمساعدتها في فهم ما تقوم به الأنظمة السلطوية. فهي عادت بعد انقطاعها الكئيب عن الكتابة للتشافي من الواقع بالقراءة والكتابة وترميم ذاكرتها الضبابية.

الكاتبة ، الكاتب: Mansura Eseddin

بعد قرابة شهر على مذبحة "رابعة"، وأقل من ثلاثة أشهر على الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين، كنت أقود سيارتي على مقربة من جامعة القاهرة ومعي ابنتي الصغيرة، وفجأة توقف المرور، وبدت السيارات كأنما تتراكم فوق بعضها بعضًا من فرط الازدحام.

من شوارع حي "بين السرايات" القريب وصلتنا ضجة اشتباكات بالأسلحة النارية. كلاشينكوف ربما. في تلك الفترة كنت قد أصبحت قادرة إلى حد ما على تمييز الرصاص الحي عن الخرطوش والآلي. عادة ما كان يصلني ضجيج اشتباك ما دون رؤية تفاصيله عن قرب.

في الغالب أكون في البيت فأنشغل بتشتيت انتباه طفلَيَّ عما يحدث بالخارج. لكن في ذلك اليوم كنت قريبة جدًا من مواجهة فهمت من المارة أنها بين إسلاميين والسلطة. تركز همّي في محاولة الابتعاد بابنتي عن هذا المشهد الخطر. بعد دقائق، مرت كأنها الأبد، عاد الهدوء ولم يبق سوى همهمات قائدي السيارات المجاورة، وصراخ هستيري لشخص يتوعد الجميع بالقتل والهلاك عقابًا على ما يفترضه من تواطؤهم بالصمت مع السلطة على مذبحة رابعة. لا يهمَ إن كان بين من يهددهم من أدان المذبحة أو من كان ضحية للإسلاميين مرة وللسلطة أخرى. فالغضب الجنوني لا يترك مجالًا للكلام، وحين يتعالى صوت الرصاص يتحول أي نقاش إلى محض لغو.

سارعت بالابتعاد ما إن عاد المرور للسريان، وكان أول ما فعلته حين عدت لبيتي أن دونت المشهد.

الثورة أساس الكتابة

قبل 2011 لم أواظب قط على كتابة يومياتي، لكن بدايةً منها صرت مولعة بتدوين ما يستوقفني من أحداث ومشاهد. شذرات عديدة راحت تتراكم، كان الأمر خاليًا من الغرض، أو ربما كنت ألجأ للكتابة لأنها النشاط الذي بمقدوره مساعدتي على الفهم. أتذكر أنني بمجرد العودة لبيتي بعد مشاركتي في جمعة الغضب (28 يناير 2011) عكفت على تسجيل شهادتي على أحداث ذاك اليوم العنيف بينما أبكي لشعوري بالعجز وقلة الحيلة أمام بطش الرصاص.

هذا ما حدث مع كل مظاهرة أو حدث مهم خلال 2011، وقتها كانت الثورة لا تزال مزدهرة على الأرض وقادرة على تحريك الواقع الراكد، ومجرد المشاركة في التظاهرات والكتابة عنها كان يمنحني إحساسًا بالجدوى.

مع بدايات 2012 بات من الواضح أن الأنظمة السلطوية مستعدة لحرق الأخضر واليابس كي لا يحدث تغيير جوهري في المنطقة.

الدم المراق على يد هذه الأنظمة كان يلون الأفق بأكمله. في سوريا وليبيا واليمن على وجه التحديد كان الخراب هائلًا: آلاف القتلى الأبرياء، مدن تُدمَّر ولاجئين يتضاعف عددهم كل يوم.

في تلك الفترة كانت حركتي محدودة جدًا بأوامر الطبيب. كنت مكتئبة وأشعر بقلة الحيلة، والأخطر أنّي كنت على حافة الكفر بالكلمات وبجدوى الكتابة طالما تعجز عن إنقاذ حياة إنسان. لكن للغرابة بدلًا من أن يوقفني هذا عن القراءة والكتابة دفعني لانغماس هوسي فيهما. عدت لمسودات روايتي "جبل الزمرد" بعد أن كنت أهملتها طوال 2011، ومع هذه العودة غرقت بالكامل في إعادة قراءة "ألف ليلة وليلة".

ظاهر الأمر أنّي عشت داخل الليالي من أجل إكمال روايتي المشتبكة معها، لكن باطنه أنّي - دون دراية مني - كنت أبحث عن ما يعيد لي إيماني بالأدب، وما يعطي لوجودي معناه. فـ"الليالي" أكثر النصوص مديحًا للخيال والكلمات. الحكاية المروية ببراعة فيها قادرة على إنقاذ حيوات البشر، وتغيير المصائر وفك السحر الأسود. في "جبل الزمرد" الحكاية هي الحياة، استعادة الحكاية المفقودة كفيل بإعادة الاتزان إلى العالم، والطاقة السحرية للحروف قادرة على بعث الموتى من رماد احتراقهم.

في "جبل الزمرد" لم أسع إلى مديح ساذج للكتابة لهدهدة الذات، بل إلى تفحص علاقة الكتابي بالشفاهي انطلاقًا من أفكار جاك دريدا وأفلاطون المتصادمة مع قصة اختراع الإله تحوت للكتابة في الميثولوجيا الفرعونية. وإلى تأمَل آليات التحريف وعلاقة الأصل بالنسخ المحرفة عنه كأني بهذا كنت أقرأ تحريف سردية الثورة المصرية بينما أبحث في تحريف حدوتة الأميرة زمردة في "جبل الزمرد".

يقول فرناندو بيسوا إن "الأدب أجمل طريقة لتجاهل العالم"، لكن الأجمل في الأدب أنه – في الغالب – يعيننا على فهم العالم وتمّثُله بينما نظن أننا نتجاهله. يعيننا على النجاة (مجازيًا على الأقل) في أوقات التحولات التاريخية المهلكة.

خلال السنوات الست السابقة، اكتشفت أن الكتب هي الملاذ الذي ألجأ إليه حين يخذلني الواقع. هل أبحث فيها عن تفسير؟ عن عزاء؟ لا أظن. فقط أنغمس في نشاط أستلذ به. حين غصت في الكتابة والقراءة خلال هذه الفترة لم أفعل هذا انطلاقًا من إيمان بالكلمات ولا تبشير بدور الأدب، بل على العكس انطلاقًا من كفري بالكلمات ومن تشككي في دور الأدب. كانت حركة يأس أكثر منها تشبثًا بأمل.

"جِدْ ما تُحبّ ودعه يقتلك"

"جد ما تحب ودعه يقتلك" يقول تشارلز بوكوفسكي، ويبدو أنني كنت – بشكل غير واعٍ أحاول الغرق في ما أحب، أخدِّر مشاعر الخيبة من الواقع العام وفشله، وأخمد فوران اكتئابي بالقراءة والكتابة. غير أن الأدب لم يفلح قط في أن يكون مخدرًا. دون أن ندري نجده يشحذ الحواس، يضاعف إحساسنا بأخفت الأفعال والحركات، يفكك واقعنا ويعيد تركيبه بحيث يرينا المخفي والمسكوت عنه.

في "جبل الزمرد" توهمنا الكاتبة "منصورة عز الدين" أن ثمة حكاية ناقصة من كتاب "ألف ليلة وليلة"، وأن هذه الحكاية هي المفضّلة لدى "شهرزاد"
في رواد "جبل الزمرد" تشتبك منصورة عز الدين مع "ألف ليلة وليلة" اشتباكا يتجاوز العنوان، لتقدم عملا يلعب مع "الليالي" ويحاورها متبنيا بعض أساليب السرد المستلهمة منها. عمل يتفحص بحساسية علاقة الكتابي بالشفاهي، والوعي بكتابة رواية منبثقة من قلب "ألف ليلة"، ومتماسة مع الموروث الديني في آن.

حين أعاود النظر إلى قائمة قراءاتي من خريف 2011 حتى الآن، أكتشف أنني كنت، دون قصد، أتداوَى بالقراءة. إضافة إلى "ألف ليلة وليلة" ساعدتني – على الأخص – العودة لحنّة آرنت وبريمو ليفي وف. ج. زيبالد. الأخير تحديدًا تمس كتابته شيئًا عميقًا في روحي لأن الناجين في أعماله لم ينجوا فعلًا، بل أهلكتهم الذاكرة (ربما كما أهلكت بريمو ليفي في الواقع أيضًا). لدى زيبالد طيف الهولوكست يخيم أبدًا، وتسكن الحرب الذاكرة بعد عقود من انتهائها، كما أن عينيه تريان الخرائب الكامنة خلف عمران المدن. يكتب مثلًا في "المغتربون": " منذ زرت ميونيخ لم أشعر بشيء مرتبط بكلمة "مدينة" بشكل شديد الوضوح مثل وجود أكوام الأنقاض، وجدران أكلتها النيران، وفجوات النوافذ التي يمكن للمرء أن يرى من خلالها الهواء الفارغ".

بدا هذا العالم الأدبي ملائمًا لما أعايشه في الواقع حيث الركام (بمعناه الحرفي والمجازي) في كل مكان حولي. حيث أشعر أنني، خلال السنوات القليلة الماضية، غارقة بين مئات الصور والمشاهد القاتمة، مختنقة بالأنقاض وغبار الهدم، ومسكونة بمدن تتحول إلى قبور لأهلها، وجغرافيا مفخخة أقرب للورطات منها للأوطان. جغرافيا اخترت البقاء فيها بمحض إرادتي.

أتساءل أحيانًا: هل تصلح الكلمات لترميم الخرائب؟! ينعكس هذا السؤال في ما أكتب منذ 2011. يظهر بصور مختلفة في "جبل الزمرد" و"أخيلة الظل"، وفي رواية أخرى عن ثورة يناير أكاد أنتهي من كتابتها.

في الشعر الجاهلي كان البكاء على الأطلال غرضًا شعريًا لا غنى عنه، وأنا ككاتبة لا أنشغل بالرثاء ولا التباكي على حواضر عظيمة سُوِّيت بالأرض بقدر ما أطمح، بشكل طفولي، لإعادة تشييد الخرائب بقوة الخيال.

طموح مستحيل، لكن الكتابة عندي هي كما كتبت في روايتي الأحدث "أخيلة الظل": "محاولة لنحت تمثال ثلج عند خط الاستواء."، أو "مطاردة للسراب ولعب معه، بل واختراع له. تحويل الواقعي المؤكد إلى سراب مخاتل والإيهام بأن السرابي حقيقة ماثلة تنتظر أن نرتوي بمائها المتطاير."

وأنا كنت (وما زلت) أسعى للنجاة عبر الارتواء بماء متطاير هو سراب الكتابة. لكن: أنجوت حقًا؟! على المستوى الجسدي، نجوت من موت قريب يوم جمعة الغضب (28 يناير 2011) وخلال أحداث محمد محمود (نوفمبر 2011)، كما نجوت بمصادفة بحتة من تفجير مررت بموقعه قبل حدوثه بفترة وجيزة ومجرد التفكير في ذكراه يفزعني. لكن على المستوى النفسي لست واثقة من نجاتي. ربما، مثل شخصيات زيبالد، سوف أعيش بذاكرة مهلِكة، غير أنني أراوغ أشباح ذاكرتي بالكتابة، أو للدقة بوعد الكتابة. أواسي نفسي بقول:

سأكتب يومًا عن ذلك الهدوء الذي يلي التفجير، عن اختفاء الناس من الشوارع ومدينة تحبس أنفاسها وعربات تكاد تطير هربًا من مجاورة الركام. "بما أن تفجيرًا قد زلزل هذه البقعة اليوم فقد تنجو من تفجيرات أخرى لأيام تالية" أردد في سري، ثم لا ألبث أن أتذكر أن انفجارات مدينتي لا تأتي فرادى، أشرد في ما حولي، وأفكر في الجانب الإيجابي للأمر.. في ذلك الهدوء الذي يلي التفجير.

سأكتب يومًا عن ذعر العصافير الهاربة من مكمنها، فوق شجرة قريبة، ما إن يصلها صوت الرصاص، عن نهارات كاملة قضيتها في تشتيت انتباه طفلَيَّ عن ضجة اشتباكات في الخارج، وعن صغيري الذي لم يكن قد بلغ بعد عامه الثاني، وهو يجري نحوي خوفًا من ضجيج ألعاب نارية واثقًا، لسبب غامض، من قدرتي على وقفها.

 

منصورة عز الدين

حقوق النشر: موقع قنطرة 2017

ولدت منصورة عز الدين في عام 1976 بمنطقة دلتا النيل في مصر. درست الصحافة في جامعة القاهرة وعملت حتى آب/ أغسطس 2011 لدى صحيفة "أخبار الأدب" إحدى أهم الصحف الأدبية في مصر. تُرجِمت رواياتها إلى لغات عدِّة، واختيرت في عام 2010 كواحدة من أفضل الكتاب باللغة العربية ممن هم دون سن الأربعين. وكانت منصورة عز الدين المرأة الوحيدة التي تم ترشيحها للجائزة العالمية للرواية العربية في عام 2010. صدرت ترجمة روايتها "وراء الفردوس" بالألمانية في عام 2011 عن دار أونيون للنشر في زيوريخ. في روايتها الأخيرة "جبل الزمرد" تنسج منصور عز الدين مسارات قصصية من حكايات ألف ليلة وليلة والصوفية الفارسية في القرن الثالث عشر بوقائع حدثت في أماكن حديثة في وقتنا الراهن، من بينها العاصمة المصرية خلال ثورة 25 يناير 2011. كما صدرت روايتها "أخيلة الظل" فى 2011، بالتزامن مع كتابة رواية "جبل الزمرد".