ثورات الحرية العربية... نقلة كوبرنيكية تمهد لانتهاء الاستثنائية العربية

في الرابع عشر من يناير 2011 فر الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي من بلاده وفي الحادي عشر من فبراير يتخلى حسني مبارك عن منصبه كرئيس للجمهورية المصرية، وشهورا بعد ذلك ينتهي الحكم الدموي لمعمر القذافي بمقتله على يد الثوار وثورات أخرى مازالت مشتعلة في بلدان عربية مختلفة، من البحرين واليمن وحتى سوريا وإن تأرجح سقف مطالبها بين المطالبة بالإصلاح أو رحيل النظام، فإنها تظل تصبو في النهاية إلى الهدف نقسه: الحرية. رشيد بوطيب يسلط الضوء على أهم أفكار الباحث في العلوم السياسية.

الكاتبة ، الكاتب: رشيد بوطيب

 

أول درس يستخلصه الباحث الفرنسي جان بيير فيليو جان بيير فيليو من الثورات العربية هو أن العرب ليسوا استثناء في عالم اليوم، فهم ليسوا بشعب يعيش خارج التاريخ أو شعب يملك جينات مختلفة تأنف من الدميقراطية والحرية وتستمرئ الذل والقهر، وليسوا بثقافة تبرر الإستبداد وتفرخ له.

 

الكل  تعود حسب فيليو على الحديث عن "محنة"  أو "مأزق" أو "يأس" عربي، بل وحتى عن "اللعنة" العربية، عن منطقة ترفض الديمقراطية من المحيط إلى الخليج والكل دأب على ربط ذلك بهوية عربية، بل وبالبعد النفسي لهذه الهوية، مستحضرا ما سطرته أقلام المستشرقين من كليشيهات عنها. لكن بعيدا عن هذه النظرة الثقافوية المبتسرة، فإن "العرب" كانوا ومازالوا يعيشون التخلف على جميع المستويات، وقد جاءت تقارير التنمية الأممية في بداية الألفية، شاهدة على الفساد المستحكم في العالم العربي وإخفاقات هذا العالم في جميع المجالات، التربوية والاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية.

 

العرب.. ليسوا استثناء

 

يرى فيليو أن هذه الأوضاع المأساوية ارتبطت بنظام ديكتاتوري كان يلقى وإلى وقت قريب كل الدعم من الولايات المتحدة الأمريكية وخصوصا بعد أن انخرطت الأنظمة العربية في الحرب الأمريكية على "الإرهاب". إذ لم يتأخر الحكام العرب عن "أداء واجبهم" فعمدوا إلى استغلال هذه الحرب من أجل القضاء على أي شكل من أشكال المعارضة، وليس فقط الإسلامية أو الإسلاموية منها، لكن برأي فيليو فإن العرب لم يبدأوا اليوم بالدفاع عن حقوقهم في المواطنة، بل الأمر "بدأ منذ ما يزيد على جيل، إلا أن الأحكام المسبقة والتحزبات السياسية منعت من أخذ ذلك بعين الاعتبار، أعني أهمية رفضهم للأنظمة التسلطية والديكتاتورية".

 

سقوط الأحكام المسبقة

 

أما الدرس الثاني الذي يستقيه فيليو من هذه الثورات فيتخلص في عنوان الفصل الثاني من كتابه "المسلمون ليسوا فقط مسلمين" إنه يبدأ في هذا الفصل بانتقاد القراءات التبسيطية والانتقائية للاسلام، التي غالبا ما تعمد إلى إخراج نصوصه وتقاليده من سياقها الذي ولدت فيه، لتصدر حكما نهائيا على ثقافة قي مجملها، وفي سياق هذه القراءات غير العلمية، تلك التي تدافع عن الكليشيه القائل بأن العالم الإسلامي لم يعرف قط فصلا بين الدين والدولة. يرى عالم السياسة الفرنسي أن هذا الحكم خاطئ في الماضي كما في الحاضر. ففي رأيه بدأ انفصال السياسة عن الدين في التاريخ الإسلامي منذ أواسط القرن الثامن، حين بدأ علماء الشرع بتحرير مؤسساتهم وتعاليمهم من سيطرة مؤسسة الخلافة، واستمر هذا الصراع على أشده مع الأمويين في دمشق والعباسيين في بغداد.  كما أنه برأي فيليو لم ولن يكون هناك بابا مسلم يتحدث بإسم المسلمين ويقرر نيابة عنهم. إن الإسلام برأيه دين تعدد ودين لامركزي وهو يغذي مواقف واتجاهات مختلفة ومتباينة، تتعارض مع  كل قراءة أحادية البعد. بل إنه يرى أن الاستعمار الغربي هو الذي سد البون الذي كان قائما بين المجالين السياسي والديني في البلدان الإسلامية. فقد سعت القوى الاستعمارية إلى مراقبة حرية الكلمة لدى علماء الدين ولهذا عمدت إلى بناء  بيروقراطية دينية تقع تحت سيطرتها وعلى رأسها مفتي، يساعده أئمة وقضاة شرعيون.

 

ولعل هذا ما دفع الإخوان المسلمين، بحسب فيليو، إلى الثورة على رؤية الدولة للدين، كما أن الشيعة ظلوا يرفضون أي مزج بين المجالين، ولهذا ينظر فيليو إلى الثورة الإيرانية كانقلاب للخميني أيضا ضد بقية آيات الله الذين رفضوا أي علاقة مباشرة بالسلطة السياسية. كما يرى أن هذه اليروقراطية الدينية هي التي  مازالت تبرر سياسات الديكاتوريين العرب وتدافع عنها كما هو الحال مع شيخ الأزهر في مصر ومفتي السعودية الذي حرم مظاهرات مصر معتبرا أنها فوضى يقف خلفها أعداء الإسلام. ويرى فيليو أن لا عجب في أن يكون الشباب من تصدر هذه الثورة، فما يقرب من مائة مليون شاب وشابة عربية من المحيط إلى الخليج يعيشون الخيبات والمشاكل نفسها، لكنهم شباب في اتصال مع العالم الخارجي بفعل العولمة وتدفق المعلومات وهم شباب تعرفوا على حياة الناس في البلدان المتقدمة ومن حقهم أن يطمحوا إلى حياة كريمة وحرة وهوما لم يوفره النظام العربي المريض. كما أن معرفة هؤلاء الشباب بأشكال الاتصال المعاصرة كالانترنت ساهمت كثيرا في إعداد الرأي العام للثورة  ومواكبتها.

 

نقلة كوبرنيكية

 

 لكن فيليو يرى مع ذلك أن أهم من الفيسبوك والانترنت هو الطابع اللارأسي للثورة، أي قيام الثورة وتحققها دونما حاجة إلى زعيم يقودها.  وهو يرى أن هذه النقلة الكوبرنيكية ليست مجرد نقلة رمزية. فالمشاعر السياسية للعرب ظلت ولعقود مرتبطة بالزعيم الكاريزمي الذي يضحي الناس من أجله بالروح والدم، وقد وصلت عبادة الزعيم أقصى مستوياتها مع جمال عبد الناصر، حين خرج الملايين إلى الشوارع في يونيو 1967 مطالبينه بالبقاء في السلطة رغم مسؤوليته الواضحة عن هزيمة مصر والعرب ضد إسرائيل، كما كان عددهم أكبر لحظة جنازته.

 

وهي الصور نفسها التي عاشها العربي في ليبيا  مع انقلاب القذافي عام 1970 أو في تونس بعد الإطاحة ببورقيبة. لكن الأمور تغيرت اليوم وبشكل راديكالي، كما يسجل فيليو، معتبرا أن الهدف من الثورة اليوم ليس تغيير زعيم بزعيم، بل الثورة على منطق الزعيم مرة وللأبد. "وهم اليوم لا ينتظرون حضور القوات الأمريكية حتى يبدأوا بحرق صور الزعيم وهدم تماثيله بل يقدمون على ذلك بأنفسهم".

 

لقد دفنت الثورات  العربية "صاحب الساعة" ومعه منطقه المانوي إما أنا أو الفوضى. أو: إما أنا أو الإرهابيين. لقد توضح للعالم من خلال هذه الثورات أن الديكتاتورية هي المسؤولة المباشرة عن الفوضى والعنف والتطرف الديني، وبذلك تكون الثورات العربية قد حققت على المستوى المعرفي هدفين على الأقل، لا يمكن البتة بعد اليوم التراجع عنهما: فمن جهة كشفت الوجه البشع للديكتاتور العربي، مصاص الدماء وقاتل الأطفال والنساء، ومن جهة ثانية فضحت الأساطير الغربية عن مجتمعات عربية ـ إسلامية معادية للديمقراطية والحرية. ما جعل الغرب يتحالف مع الديكتاتوريات، ليس فقط ضد الإسلاميين ولكن ضد شعوب المنطقة وإرادتها. وبذلك قلبت الثورات العربية المعادلة القائمة إلى معادلة جديدة: إما الديمقراطية أو الفوضى.

 

 يكتب جان بيير فيليو في مقدمة كتابه بأن الثورات العربية كان لها فعل الصدمة في المنطقة بأكملها وأنها أطلقت التاريخ من عقاله. لقد "سقط جدار برلين العربي"، والذي لم يكن سوى جدار الخوف الذي نجحت الديكتاتوريات ولعقود في بناءه وتسييجه. جدار أسقطته الثورة العربية الحالية التي يقرأها فيليو كامتداد لعصر النهضة العربي الأول، لآماله وأفكاره. قراءة قد نتفق معها وقد نختلف، لكنها تؤكد مرة أخرى بأن تاريخ العرب المعاصر، هو تاريخ البحث الطويل والمضني عن الحرية.

 

رشيد بو طيب

حقوق النشر: موقع قنطرة 2013