من المسؤول عن تشويه صورة الإسلام: المتطرفون أم أنصاف المسلمين وأعداؤه؟

لماذا يعتمد إرهابيون كالذين قاموا باعتداءات باريس على الإسلام مرجعيةً لهم؟ رغم أن أفعالهم لا تَمُتُّ بأية صلة إلى ما يؤمن به معظم المسلمين. الكاتب والصحفي الألماني دانيال باكس يسلط الضوء على ذلك لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Daniel Bax

كما هي الحال دائمًا بعد الاعتداءات ذات الدافع الإسلاموي، يؤكد المسلمون على أنَّ هكذا إرهاب "لا يمتُّ إلى الإسلام بأيَّة صلةٍ". ووزير الداخلية الألماني توماس دي ميزيير بدوره بات يستخدم الآن هذه الصيغة. الأمر مفهوم، لأنَّه ليس في هذا الإرهاب أيّ شيءٍ مشتركٍ مع الإسلام الذي تمارسه الغالبية العظمى من المسلمين، وخصوصًا في أوروبا. بيد أنَّه في الوقت ذاته تنمو ريبة في أوروبا تجاه الإسلام، لأنَّ الإرهابيين يعتمدونه في الواقع مرجعيةً لهم، كما حدث في فرنسا مثلاً، فكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟

بعبارة أخرى: أيُّ خاصية في الإسلام الحالي، تجعله عرضةً للاستغلال من قِبَلِ مرتكبي أعمال العنف؟ هناك ديانات أخرى يتم استغلالها أيضًا، كاليهودية في الشرق الأوسط من قِبَلِ المستوطنين المتطرفين، أو كالمسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية من قِبَلِ قتلة مناهضي الإجهاض، أو البوذية في ميانمار التي يتم استغلالها من قِبَلِ الرهبان الذين يُلاحِقون المسلمين. لكنْ فقط للإسلام المتطرّف قوة تجذب الشبَّان القابعين على هامش المجتمع، بحيث يسافر بعضهم ليشارك في الحرب الأهلية في سوريا أو يقوم بالاعتداءات في بلاده الأصلية، مثل ما حدث مؤخرًا في باريس. فلماذا يحصل ذلك؟

نظرًا للتاريخ، يثير هذا التطوُّر الدهشة، فالمجتمعات العربية إسلامية الطابع كانت حتى أواخر العصور الوسطى تسبق مجتمعات أوروبا على صعيد التسامح والثقافة والعلوم بأشواطٍ كبيرةٍ. وكانت لدى المفكرين المسلمين والقادة السياسيين رؤيتان لمواجهة الأزمة التي نجمت عن نهضة أوروبا العسكرية والثقافية، واستعمارها للبلدان ذات الطابع الإسلامي.

صورة رمزية. Quelle: picture-alliance/dpa/dpaweb/Fotolia/mysontuna/Jasmin Merdan
دوافع الإسلام المتطرف: "إنَّ التأويل السعودي للإسلام متطرِّفٌ للغاية، فهو تأويلٌ يفصل بشكلٍ صارمٍ بين الجنسين، ولا يتسامح مع أصحاب الرأي المختلف، ويطبق عقوبات بدنيَّة عفا عليها الزمن"، بحسب ما يكتب دانيال باكس.

إحدى الرؤيتين كانت تتمثل في الأخذ الجذري بالنماذج الأوروبية – القومية، والاشتراكية، والعلمانية باعتبارها الطريق إلى الخلاص. وكانت الأصوات الأخرى خافتة في البداية، فطالبت بالعودة إلى الإسلام لاستعادة النفوذ السابق.

فهمُ الإسلام بشكلٍ متزمِّتٍ

بعدما أخفقت الأنظمة العلمانيَّة في المنطقة في تحقيق الرخاء والمشاركة والعدالة لمواطنيها، نشطت الحركات الإسلامويَّة التي ألبست الخطاب المعادي للإمبريالية مصطلحاتٍ دينيةً وقدَّمت نفسها على أنَّها البديل. وكلما زاد القمع الذي تعرَّضت له عنفًا، زاد جزءٌ منها تطرُّفًا.

يضاف إلى ذلك، أنَّ المملكة العربية السعودية الشديدة المحافظة، قد تمكَّنت من جمع ثروة هائلة ومن الصعود لتكون أهم قوة إقليمية عربية في الشرق الأوسط حاليًا، وذلك من خلال الوفرة النفطية التي تكاد لا تنضب، وباتت المملكة تصدِّر فهمها المتزمِّت للإسلام إلى جميع أرجاء العالم.

إنَّ التأويل السعودي للإسلام متطرِّفٌ للغاية، فهو تأويلٌ يفصل بشكلٍ صارمٍ بين الجنسين، ولا يتسامح مع أصحاب الرأي المختلف، ويطبق عقوبات بدنيَّة عفا عليها الزمن. ومع أنَّ هذا يبدو وكأنه من العصور الوسطى، إلا أنَّه يعود في الواقع إلى مدرسةٍ فكريَّةٍ حديثةٍ نسبيًا، تأسَّست في القرن الثامن عشر على يد الداعية محمدٍ بن عبد الوهاب، ورُفع شأنها في القرن العشرين لتصبح دين الدولة في المملكة العربية السعودية، الأمر الذي يدفع إلى وصف هذه الطريقة في الإسلام بالوهابيَّة أو السلفيَّة.

هذا الإسلام السعودي المتصلِّب نُظر إليه في البداية في المجتمعات الأخرى ذات الطابع الإسلاميِّ باعتباره جسمًا غريبًا. بيد أنَّ هذه السلفيَّة حققت في العقود الأخيرة انتصاراتٍ متواصلةً ورسخت إيمانًا بوجوب النقاب، وفسَّرت القرآن بشكلٍ جامدٍ، ورفضت التديُّن الشعبيَّ التقليديَّ، واتـَّخذت منحىً إرهابيًا، يجد أشكاله الأكثر تطرُّفًا في أيديولوجيا حركة طالبان الأفغانيَّة، وميليشيات "تنظيم الدولة الإسلاميَّة" أو "بوكو حرام" في نيجيريا.

فاشلون في حياتهم في أغلب الأحيان

في الوقت ذاته سرعت التدخلات الغربيَّة في عملية تفتت دول في الشرق الأوسط على طول حدود دينية-عرقية، مثل ما حدث مؤخرًا في العراق وليبيا. والآن تتغلغل جماعات إرهابية سلفية كهذه في هذا الفراغ.

يوجد في ألمانيا آلاف السلفيين حاليًا، وحقًا لا تجنح إلى العنف سوى قلَّة منهم، إلا أنَّ هذه القلـَّة تشكل خطرًا كبيرًا، وبخاصَّةٍ بعد عودتها من الحرب الأهليَّة في سوريا. والملفت للنظر أنَّ هؤلاء ينتمون في كثيرٍ من الأحيان إلى صغار المجرمين السابقين والفاشلين في حياتهم، كما كانت حال المعتدين في باريس. وهم يستخدمون مصطلحاتٍ إسلاميَّةً مثل "الجهاد"، فيُسقِطون معناها الأصلي ويحوِّرون تفسيرها، لكي يبرروا فِعلاتهم وليرفعوا من شأنها.

بغية فهم هذا الإسلام، المصنوع على طريقة "افعل الأمر بنفسك" (do it yourself)، باعتباره التعبير الأصيل عن هذا الدين، أو حتى باعتباره حتمًا التأويل الصحيح للقرآن، لا بدَّ من تجاهل عدَّة قرونٍ من الفقه الإسلامي والممارسة الدينية – وهذا بالضبط ما يفعله الإرهابيون، ولكن أيضًا ما يفعله الكثير من "منتقدي الإسلام" المفرطين في حماستهم، الذين يقتطفون فقراتٍ من القرآن بشكلٍ اعتباطيٍ، بهدف وضع الدين الإسلامي برمَّته تحت الاشتباه العام.

Al-Zitouna-Moschee in Tunis; Foto  جامع الزيتونة في تونس
دوافع الإسلام المتطرف: "إنَّ التأويل السعودي للإسلام متطرِّفٌ للغاية، فهو تأويلٌ يفصل بشكلٍ صارمٍ بين الجنسين، ولا يتسامح مع أصحاب الرأي المختلف، ويطبق عقوبات بدنيَّة عفا عليها الزمن"، بحسب ما يكتب دانيال باكس.

معظم الضحايا من المسلمين

لا توجد في الإسلام كنيسةٌ من شأنها أنْ تطرد مثل هؤلاء الإرهابيين، ويخشى المسلمون من إعلان هؤلاء "كفَّارًا"، لأنَّ هذا بالضبط هو أسلوب الإرهابيين، أي حلَّ دم خصومهم. لكنَّ كلَّ المرجعيات الإسلامية المهمَّة، والسعودية منها أيضًا، وجميع الجمعيات الإسلامية في أوروبا، أدانت الإرهاب الذي وقع في باريس بالإجماع، وانتقدت استغلال معتقدها وهذا التشويه لدينها.

ذلك لأنَّ هؤلاء الإرهابيين يشكِّلون تهديدًا لتماسك المجتمعات التي يهاجمونها – وبخاصَّةٍ للأقليات المضطهدة مثل المسيحيين في الشرق الأوسط، أو اليهود في أوروبا، ولكنْ أيضا لكلِّ الآخرين. وتصبح الاستباحة التي يمارسونها باسم الإسلام ضربًا من العبث من خلال حقيقة أنَّ معظم ضحايا الإرهاب الإسلامويِّ هم من المسلمين.

إلى جانب إجراء التدابير الأمنيَّة اللازمة التي ينبغي اتـِّخاذها، يتوجَّب على الساسة في أوروبا المضي في دمج الإسلام هنا، بغية تعزيز قوة المسلمين المسالمين. ولا بدَّ لهم من عدم التوقف عن تبيان أنَّ خط المجابهة لا يقع بين المجتمعات الغربية والمسلمين، بل بين الديمقراطيين والإرهابيين.

 

 

دانيال باكس

ترجمة: يوسف حجازي

حقوق النشر محفوظة لموقع قنطرة ar.qantara.de