بناء دولة ليبية مستقرة مرهون بخلق هوية موحدة لكل الليبيين

الأسرة والعشيرة والقبيلة هي الوحدات التقليدية للمجتمع الليبي. ولا يمكن حل أزمة ليبيا باعتراف المجتمع الدولي بحكومة طبرق فقط أو بحكومة طرابلس فقط، بل بتشكيل حكومة معترف بها من جميع الأطراف الليبية. لكن رسوخ المشاركة الديمقراطية في ثقافة الليبيين لا يمكنه النشوء بين ليلة وضحاها، في حين أن البنى القبلية المناطقية قد تكون فرصة لبناء دولة ليبية مستقبلية مستقرة معتمدة على مفهوم الدولة اللامركزية. الصحفية الألمانية لاورا أوفرماير تسلط الضوء لموقع قنطرة على معوقات استقرار ليبيا في ظل الحرب الأهلية الليبية.

الكاتبة ، الكاتب: Laura Overmeyer

"لا تزال ليبيا تعاني من استمرار النزاعات المسلحة وأعمال العنف، وكذلك من الانتهاكات المتواصلة للقانون الدولي، مما يؤدِّي في كثير من أنحاء البلاد إلى قتل مئات الأشخاص وتشريد جماعي وكذلك إلى أزمات إنسانية"، وفقًا لتقرير صادر عن مكتب المفوَّض السامي لحقوق الإنسان التابع لهيئة الأمم المتَّحدة، تم نشره في تحليل في أواخر شهر كانون الأوَّل/ ديسمبر 2014.

ومنذ عدة أشهر تصلنا أخبار مروِّعة من هذه الدولة الواقعة في شمال إفريقيا، التي كسرت قبل نحو ثلاثة أعوام وبكلِّ ثقة وتفاؤل قيود ديكتاتورية القذافي التي استمرت لأكثر من أربعين عامًا - وباتت الآن مهدَّدة بخطر الغرق في حرب أهلية مدمِّرة للبلاد.

حيث يقاتل الإسلاميون ضدَّ العلمانيين، والموالون للنظام القديم ضدَّ الثوَّار الشباب، وكذلك تلجأ المدن المتنافسة والقبائل المتعادية إلى قوة السلاح من أجل تسوية خلافاتها، وبالإضافة إلى كلِّ ذلك يبدو الآن أيضًا التنظيم المعروف باسم "الدولة الإسلامية" متورِّطًا في هذه الحرب، التي يتحارب فيها الجميع بعضهم ضد بعض. وعلى الأقل هكذا يبدو الوضع من النظرة الأولى.

معركة بين مركزي قوى

في تقرير حول "الشؤون الخارجية"، يحاول فولفرام لاخر، وهو خبير ألماني مختص في ليبيا لدى المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (SWP) في برلين، توضيح هذه الفوضى: "تتصدَّر هذا الصراع المعركة بين مركزي قوى يتكونان من شبكات من المدن والقبائل والميليشيات. وكلا الطرفين يتنافسان على السلطة السياسية والشرعية في بلد لا توجد فيه على أرض الواقع مؤسَّسات عاملة. وفي الأشهر الأخيرة اندمجت مختلف الفصائل المتحاربة مع واحد من هذين الطرفين المتنافسين".

Der abtrünnige Armeegeneral Khalifa Haftar, Foto: picture-alliance/dpa
Der abtrünnige Armeegeneral Khalifa Haftar hatte im Mai 2014 eine "Karama" (Würde) genannte Militäroffensive gegen islamistischen Milizen im Land gestartet. Seitdem baut er eine national gesinnte Armee auf und leistet vor allem den Islamisten in Bengasi Widerstand. Haftar unterstützt das Parlament in Tobruk; Libyens offizielle Streitkräfte sind im Land weitestgehend machtlos.

وكلّ مركز من مركزي السلطة يشكِّل حكومة ويتعاون مع مجموعة من الميليشيات. وتعتبر مدينة طبرق الشمالية الشرقية مقر الحكومة المعترف بها دوليًا برئاسة رئيس الوزراء عبد الله الثني. وتستمد هذه الحكومة شرعيتها من كونها قد انبثقت عن البرلمان المنتخب في شهر حزيران/ يونيو 2014. وهي مرتبطة مع ميليشيات الكرامة، التي يقودها جنرال القذافي السابق، اللواء خليفة حفتر الذي يسعى إلى السيطرة على العاصمة الليبية طرابلس.

وهذه العاصمة محتلة منذ شهر آب/ أغسطس من قبل الثوار، الذين أسَّسوا هناك حكومة موازية برئاسة عمر الحاسي. وبدورها ترتبط هذه الحكومة مع ميليشيات فجر ليبيا، التي توصف بأنَّها ذات توجه إسلامي متطرِّف. ولكن مع ذلك لا يمكن مساواتها مع تنظيم "أنصار الشريعة" المقرَّب من تنظيم "داعش" والذي يعمل بشكل مستقل في مدينة بنغازي.

"لا يتمتَّع أي طرف من الطرفين إذا نظرنا إليه من الخارج بشرعية ’كمؤسَّسة حكومية‘ أكثر من الطرف الآخر"، مثلما يرى الخبير فولفرام لاخر ويقول: "صحيح أنَّ حكومة عبد الله الثني كانت في الأصل سلطة تشريعية منتخبة، ولكن لقد تم في هذه الأثناء تقويضها ولا يكاد يوجد لها أي تمثيل - بصرف النظر تمامًا عن كون الانتخابات البرلمانية التي شهدتها البلاد في شهر حزيران/يونيو 2014 قد جرت على أية حال بصورة إشكالية. وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ كلا الطرفين يستخدما العنف ضدَّ المدنيين ويظهرا تزمّتهما المطلق فيما يتعلق بالدخول في حوار محتمل".

يرى الخبير فولفرام لاخر أنَّ الاعتراف الدولي بالحكومة الموجودة في طبرق كسلطة شرعية يعتبر أمرًا غير بنَّاء ونتائجه عكسية. ويقول لا يمكن حلُّ الأزمة إلاَّ من خلال تشكيل حكومة معترف بها من جميع الأطراف وهذا مستحيل بسبب انحياز الدول الأجنبية: "لا بدّ من الاعتراف بأنَّ الحكومة في طبرق هي جزء من الحلقة المفرغة".

الإمارات الليبية طرابلس وفزان وبرقة. Quelle: DW / qantara.de
الخلافات الإقليمية والقبلية في ليبيا تقف كحجر عثرة وعوائق تحول دون التوصُّل إلى اتِّفاق سياسي بين الليبيين - تقول أمل العبيدي: "من الناحية التاريخية لم يكن ينظر إلى ليبيا قطّ على أنَّها كيان موحَّد، بل باعتبارها ثلاث مناطق إقليمية كبيرة: طرابلس وفزان وبرقة".

ليبيا مُوحَّدة؟

ولكن كيف نشأت هذه الحلقة المفرغة؟ ألم يقاتل الليبيون متَّحدين ضدَّ القذافي؟ ألم يكونوا متفائلين برؤاهم حول الدولة الليبية الجديدة؟ فلماذا يا ترى كانت المحافظة على هذه الوحدة أمرًا مستحيلاً؟ ومن أين جاءت هذه الفتنة، التي أدَّت إلى تعرُّض المواطنين الليبيين للخطف أو الهجوم بشكل تعسُّفي بسبب انتمائهم الديني أو القبلي من قبل مواطنيهم؟

تُحمِّل أمل العبيدي، وهي أستاذة مختصة في السياسة المقارنة في جامعة بنغازي الليبية، المسؤولية عن الوضع الراهن في ليبيا بصورة خاصة لسببين تاريخيين: أي لعدم وجود هوية تُوحِّد الليبيين وكذلك لثقافة الليبيين السياسية ذات التوجُّهات القبلية.

"من الناحية التاريخية لم يكن يُنظر إلى ليبيا قطّ على أنَّها كيان موحَّد، بل باعتبارها ثلاث مناطق إقليمية كبيرة: طرابلس وفزان وبرقة. وهذا التقسيم ينعكس أيضًا من جديد في الوضع الراهن، وذلك لأنَّ كلَّ منطقة من هذه المناطق طوَّرت هياكلها وثقافاتها الخاصة"، مثلما ذكرت أمل العبيدي أثناء محاضرة قدَّمتها في شهر كانون الأوَّل/ ديسمبر 2014 في مقر "جمعية الصداقة الألمانية العربية" DAFG. وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت ليبيا حتى استقلالها في عام 1951 لا تزال جزءًا من إمبراطورية أخرى. ولذلك يمكن القول إنَّ المجتمع الليبي يعتبر إذا نظرنا إليه من الناحية التاريخية مجتمعًا ليس له انتماء إلى دولة".

وفي ظلِّ هذه الحقيقة فإنَّ الليبيين يعوِّلون دائمًا فيما يتعلق بالمسائل القانونية والاجتماعية والثقافية على المؤسَّسة الوحيدة المستقرة لديهم التي كانت منذ القدم مألوفة لديهم: أي الكيانات القبلية.

"الأسرة والعشيرة والقبيلة تمثِّل الوحدات التقليدية في المجتمع الليبي"، مثلما تقول أمل العبيدي: "كما أنَّها تحدِّد حتى يومنا هذا حياة الناس وسلوكهم. والليبيون يفتقدون الثقة الأساسية في المؤسَّسات السياسية المركزية. أمَّا المشاركة والديمقراطية فهما غير راسختين في ثقافتهم السياسية ولا يمكن بالتالي أن تنشآن أيضًا بين ليلة وضحاها".

ولكن مع ذلك فإنَّ أمل العبيدي لا ترى في البنى القبلية المناطقية الثابتة عائقًا فقط، بل ترى فيها أيضًا فرصة للدولة الليبية المستقبلية، التي من الممكن أن تعتمد على مفهوم الدولة اللامركزي.

Amal El-Obeidi, Professorin für vergleichende Politikwissenschaft an der Universität Bengasi; Foto: DAFG
Amal El-Obeidi, Professorin für vergleichende Politikwissenschaft an der Universität Bengasi: "Was wir für Libyen brauchen, ist eine Persönlichkeit wie Nelson Mandela"

"الليبيون لم يكونوا إطلاقًا ليبيين"

لقد كانت هناك نتيجة أخرى لهذا التقسيم التاريخي الجغرافي المذكور أعلاه، تمثَّلت في عدم وجود هوية وطنية ليبية، أو - مثلما عبَّر عن ذلك ذات مرة رئيس الوزراء الليبي الأسبق عبد الحميد البكوش: "الليبيون لم يكونوا إطلاقًا ليبيين".

كشفت دراسة أعدتها أمل العبيدي في التسعينيات في جامعة بنغازي حول موضوع "الهوية" (وقد تم حظر نشرها من قبل نظام القذافي) عن أنَّ الهوية الليبية قلّما حظيت بأهمية. وأنَّ الطلاب الخاضعين لهذه الدراسة كانوا  ينظرون إلى أنفسهم في المقام الأوَّل كمسلمين ومن ثم كأبناء قبيلة أو عائلة ما، وكذلك كعرب (لأسباب ليس أقلها القومية العربية التي كان يروِّج لها جمال الناصر وفي وقت لاحق معمر قذافي) أو كمغاربيين - ولكن ليس كليبيين.

وفي هذا الصدد تقول أمل العبيدي: "إذا كنا نريد بناء دولة، فعندئذ يجب علينا من أجل ذلك أن ننجح في خلق هوية مُوحِّدة لليبيين والتأكيد على القواسم المشتركة بيننا. وعلى هذا النحو فقط يمكننا على المدى الطويل أن نصبح دولة مستقرة وآمنة. وهذه الوحدة لا يمكن أن تأتي إلاَّ من الداخل ولا يمكن فرضها علينا من خلال التدخُّلات الخارجية".

ترى أمل العبيدي أنَّ العناصر المُوحِّدة لليبيين هي اللغة والدين - وتقصد بالدين على وجه التحديد إسلام الليبيين "الأصلي" السنِّي المالكي، وليست الإسلاموية الدخيلة. وبحسب رأيها فإنَّ لدى الموارد القيِّمة، أي النفط والماء، قدرة على توحيد الشعب الليبي على المدى الطويل، حتى وإن كانت هذه الموارد في الوقت الراهن تشعل الفتنة وقد تحوَّلت إلى موضوع خلاف تتنافس عليه جميع الأطراف.

وعلى الرغم من ذلك فإنَّ أمل العبيدي تأمل في أن يتمكَّن الليبيون في يوم ما من خلق هوية ليبية مُوَّحدة للشعب الليبيي، مثلما ذكرت، وقالت أثناء محاضرتها: "أنا شخصيًا فخورة بكوني ليبية" - وأضافت مبتسمة: "ما نحتاجه من أجل ليبيا هو شخصية مثل نيلسون مانديلا".

 

 

 

لاورا أوفرماير

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2015 ar.qantara.de