إشكاليات فكرة الحرية عند التيارات السياسية العربية

يعتبر الكاتب ماجد كيالي أن الديمقراطية في البلدان العربية ستبقى ناقصة، إذا لم تتطعّم بحمولات ليبرالية تتعلق بمفاهيم الحرية والمواطنة والاستقلال عن الانتماءات القبلية، الجماعية، وإعلاء الإنسان الفرد، وضمن ذلك ضمان حقه في الاختيار والمساواة وتكافؤ الفرص.

الكاتبة ، الكاتب: ماجد كيالي

لم تكابد التيارات السياسية العربية، الدينية والقومية واليسارية والعلمانية والديمقراطية، مثلما كابد التيار الليبرالي، ونقصد هنا التيار الذي وضع فكرة الحرية على رأس جدول الأعمال، ونقصد بذلك فرض الاعتراف بمكانة المواطن الفرد، الحر والمستقل والمتساوي مع المواطنين الأخرين، من دون أي تمييز، لا اثني ولا ديني ولا مذهبي ولا جنسي.

أيضاً لم تتعرض الليبرالية العربية، التي ازدهرت ردحاً قليلاً من الزمن، في المجتمعات العربية، سيما في عهد الاستعمار، وفي المرحلة الأولى للاستقلال، للإزاحة أو المحو فقط من الأنظمة الاستبدادية، أو التسلطية، وإنما تعرضت لذلك أيضا من قبل التيارات الأخرى، التي كشفت عن ضعف تمثلها لهذا المعنى، وربما نبذها له، في إدراكاتها وسلوكياتها السياسية، وذلك رغم ميل معظمها نحو الديمقراطية.

يأخذنا ذلك نحو مسارين مختلفين ومتمايزين: الأول، يجري فيه التشديد على الديمقراطية، وتشكيل الأحزاب والانتخابات، وتداول السلطة والاحتكام لإرادة الشعب باعتباره مصدراً للسلطة، رغم التباينات في هذا الأمر بين تيار وأخر، بين الديمقراطية كاستفتاء والديمقراطية كانتخاب، أو بين ديمقراطية الجماعات الاثنية والطائفية وديمقراطية الأفراد.

والثاني يتم فيه الاشتراط على معنى الحرية وحدودها، بالنسبة للمواطن الفرد، المستقل، بدعوى خضوع الأقليّة للأكثرية، وبدعوى الحفاظ على الخصوصيات والعصبيات الهوياتية (الدينية أو الاثنية)، بما في ذلك من مصادرة وتقييد لحرية الفرد واستقلاليته.

الماركسية تنتج برجوازية طفيلية

فالتيار اليساري (الماركسي)، مثلاً، يرى المجتمع تكويناً منمّطاً من عدّة طبقات، فقط، بحسب الوضع الاقتصادي، أو بحسب المكانة في علاقات الإنتاج، لا باعتباره يتألف من مواطنين أحرار، مختلفين ومتعددين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الطبقية، على أساس أن الانتماء الطبقي يحدّد الوعي الطبقي، هكذا بشكل مسبق وبدون قراءة للواقع المتعيّن ومن دون دراسة لمعنى الانقسامات الطبقية في مجتمعات متخلفة اقتصاديا، وتفتقر للتكون الطبقي.

فضلاً عن ذلك فإن هذا التيار يعتقد بأن دوره التاريخي يتحدّد في القضاء على الملكية الخاصّة وإقامة المجتمع الاشتراكي، بغض النظر عن ملائمة الظروف والمعطيات والحاجات إلى ذلك من عدمه. وكنا شهدنا النتائج الكارثية للتأميمات الحاصلة في مصر وسورية والعراق وليبيا، على سبيل المثال، والتي قوّضت البنى الجنينية للبرجوازية الصناعية (الوطنية) في هذه البلدان وغيرها، في حين نشأ بدلاً عنها نوع من برجوازية طفيلية ناشئة في حضن الدولة التأميمية ذاتها؛ وحيث التهمت السلطة الدولة والمجتمع والموارد.

لا يتوقف موقف التيار اليساري عند هذا الحد، إذ ثمة في الثقافة اللينينية فكرة ديكتاتورية البروليتاريا، التي تبرر الاستبداد، والديكتاتورية، وحكم الحزب الواحد والرجل الواحد، وهذا ما يتعارض مع الحرية ومع الديمقراطية أيضا.

الإسلاميون العرب: تقسيم المجتمع على أساس ديني ...واستبداد الأكثرية

ولا يبدو التيار الإسلامي من جهته أحسن حالاً فهو بدوره يقسّم المجتمع على أساس ديني، إلى مسلمين وغير مسلمين، ما يقوّض مفهوم الهويّة الوطنية والمواطنة المدنية والوحدة المجتمعية، التي تفترض المجتمع تعبيراً عن مجموع المواطنين الأحرار المتساوين أمام القانون وإزاء الدولة.

وهذا التيار يعتقد بأن حصوله على أكثرية في الانتخابات (كما في مصر مثلاً)، تخوّله أخذ الدولة والمجتمع حيث يريد وفرض الدستور والتشريعات التي تتلاءم مع عقيدته الدينية على الدولة الدنيوية (مع ضمان حق «الملل» الأخرى في فرض شرائعها على اتباعها)، وهذا ينطبق على مناحي التعليم والإعلام.

وفي الواقع فإن فكرة الأكثرية هذه فكرة استبدادية وتعسفية ومضللة، إذ أن الأغلبية المسلمة في مصر، أيضا، تنطوي على تعددية، إذ ثمة مسلمون، بحسب الدين، ينتمون الى تيارات غير دينية، أي قومية وعلمانية وليبرالية ويسارية، كما أن المسلمين ذاتهم، ينضوون في تيارات إسلامية متعارضة او تختلف مع بعضها. ثم أن التيار الإسلامي، بشكل عام، يؤمن بفكرة الحاكمية، أي الحكم لله، في حين أن هذا أمر مضلل، ويحجب حقيقة أن ثمة بشر هم الذين يحكمون باسم الله، ويدعون الوصاية على الإسلام وعلى المسلمين، ويضفون على أنفسهم قدسية معينة، تجعلهم خارج المساءلة، فيما يسمى استبداد سياسي مقدس أو استبداد سياسي باسم الدين. 

القوميون من جهتهم يرون أن الأولوية لوحدة الأمة على أساس عرقي، أي أن هذا يشمل العصبية أو العنصرية، وتالياً، عدم الاعتراف بحقوق الآخرين، من الإثينيات الأخرى (الكرد في الحالة السورية والعراقية والتركية والإيرانية مثلا). كما أن هذا الأمر يجعلهم يقللون من أهمية الحرية، باعتبار أن الحرية عندهم هي حرية الوطن، أو الأمة، وهو كلام مخادع، لأن الحرية هي معطى فردي، وليس معطى جماعي، إذ الأفراد الأحرار يعطون الأمة حريتها، في حين العكس غير صحيح.

استمراء الاستبداد السياسي المغلّف بإطارات علمانية

العلمانيون، أيضاً، لا يشذّون كثيراً عن هذه القاعدة فلديهم تقسيماتهم ومخاوفهم وهواجسهم، رغم الاعتقاد الرائج أو المفترض بأنهم أقرب ميلاً إلى حرية التفكير والتعبير. ففي حيّز الممارسة يتكشف كثير من هؤلاء، مثلهم مثل قطاعات من اليساريين والإسلاميين والقوميين، عن مستبدين من نوع آخر، إذ يستكثرون على غيرهم الحرية وحتّى الديمقراطية، وحتى أن بعضهم يصل حدّ استمراء الاستبداد السياسي المغلّف بإطارات علمانية، كونه يضمن نمط عيشهم على الديمقراطية التي قد تحرمهم من ذلك (كما يحصل مع كيانات «يسارية» اليوم).

ومعلوم أن العلمانية تختلف عن الإلحاد، وهي سليلة ثورات الإصلاح الديني والعقلانية والحد من سلطة رجال الدين ومن تدخلهم في شؤون الدنيا، بإعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وعدم تسييس الدين أو تديين السياسة.

هذا يحصل مع التيار الديمقراطي الذي ينبذ الحرية بدعوى ان الديمقراطية هي مجرد حق الانتخاب، وحق اختيار الحكام، وأن الديمقراطية هي حكم الأغلبية، التي تبيح له التسلط على الأقلية، في حين أن الديمقراطية من دون حرية أفراد، ومن دون مكانة المواطنة الفردية والمستقلة، ومن دون احترام حقوق اية أقلية، أو أي فرد، تغدو مجرد ديمقراطية جماعات، طائفية أو اثنية، على نحو ما يجري في لبنان وفي العراق، أي انها مجرد غطاء لسلطة اقلية.

يستنتج من ذلك أن الديمقراطية في البلدان العربية ستبقى ناقصة، إذا لم تتطعّم بحمولات ليبرالية تتعلق بالحرية والمواطنة والاستقلال عن الانتماءات القبلية، الجماعية، وإعلاء الإنسان الفرد، وضمن ذلك ضمان حقه في الاختيار والمساواة وتكافؤ الفرص، بحيث يتم النص على ذلك في الدستور، ويعتبر في مكانة مركزية بالنسبة للتشريعات القانونية.

 الحرية في الفكر الإسلامي

لا ديمقراطية بدون حرية ليبرالية

وفي الواقع فإن هذا الاضطراب، أو النبذ، لفكرة الحرية (الليبرالية) عندنا، ونحن نقصرها هنا على الجانبين السياسي والحقوقي، أي بمعزل عن الليبرالية الاقتصادية المختلف عليها، هو نتاج حرمان المجتمعات العربية من السياسة، ومن الحقوق والحريات، والافتقاد لمجتمع المواطنين.

كما يمكن تفسير ذلك بأن المجتمعات العربية تتوخّى الدخول مباشرة في الثورة الديمقراطية، على خلاف التجربة الأوروبية، أي من دون المرور في ثورة العلمنة وتحرير العقل، ومن دون الدخول في الثورات الليبرالية التي أدّت إلى تحرير الفرد بوصفه قيمة عليا وإلى اعتبار المواطن الوحدة الأساسية في المجتمع، بعيداً عن أية تنمطيات أو انتماءات أخرى (على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو الوضع الطبقي)؛ وهما أمران لا يبدو أن بمقدور الثورات الراهنة تحقيقهما في ظل هيمنة سياسات الهوية والتنميطات الجمعية العمودية.

وإذا كان يمكن القول بأن الثورات التحريرية («الليبرالية») في أوروبا استوعبت أو هضمت العلمانية، أو هذبتها، فإن فكرتي الحرية والمواطنة الفردية/المدنية لم يكن بالإمكان هضمهما أو تجاوزهما في الديمقراطية، التي تتعلق بكيفية تنظيم العلاقات وإدارتها في المجتمع وبين المجتمع والدولة، إلا من خلال الديمقراطية الدستورية، أو من خلال ما بات يعرف بالديمقراطية الليبرالية، لأن الحمولات الليبرالية هي التي ترشّد الديمقراطية وتضبطها بحيث لا تتحوّل إلى نوع جديد من استبداد أكثرية، برلمانية أو تصويتية (دينية أو اثنية أو عرقية) بأقلية، وبحيث يتم ضمان حريات المواطنين الأفراد، ومساواتهم أمام القانون بصفتهم المدنية.

ماجد كيالي كاتب وباحث سوري معروف يكتب لعدد من الصحف العربية وله دراسات متنوعة حول الفكر السياسي المعاصر في العالم العربي.
ماجد كيالي كاتب وباحث سوري معروف يكتب لعدد من الصحف العربية وله دراسات متنوعة حول الفكر السياسي المعاصر في العالم العربي.

المعنى من ذلك أن الديمقراطية المتوخاة في البلدان العربية ستبقى ناقصة، وقد تنطوي على ما يثير المخاوف، إذا لم تتطعّم بحمولات ليبرالية، تتعلق بالحرية والمواطنة وإعلاء شأن الإنسان الفرد، وضمن ذلك ضمان حقه في الاختيار والمساواة وتكافؤ الفرص. طبعاً، هذا ليس مديحا أو إعلاء لشأن التيارات التحريرية («الليبرالية») التي تناضل من اجل الحرية والمواطنة المدنية، لأن هذه التيارات ثمة فيها أيضاً من ينتقص من قيمة الديمقراطية أو من قيمة العدالة الاجتماعية؛ لكن هذا يحتاج إلى نقاش آخر.

قصارى القول نحن هنا إزاء إشكالية كبيرة وعميقة بشأن معنى الحرية في الثورات العربية تنبثق من عدّة مستويات، بعضها سياسي نابع عن الغياب التاريخي للمشاركة السياسية ولتقاليد العمل السياسي والحزبي، وعن الخضوع لأنظمة استبدادية لقرون. وبعضها اجتماعي ـ اقتصادي ناجم عن ضعف التمدين وعن تخلّف الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات العربية. وبعضها ناجم عن سياسات «الهوية» في هذه المنطقة، التي تعمل على ترسيخ الانقسامات العمودية (الدينية والاثنية)، وإضعاف مسارات الاندماج المجتمعي في البلدان العربية، وتغييب المواطن الفرد.

هذا يعني أن التخلّص من النظم الاستبدادية شيء، وتحقيق المتوخّى شيء آخر، وأن النظم التي شكّلت حاجزاً أمام تطوّر الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العالم العربي قد ترحل، لكنه يفيد أيضا أن الأحوال لن تتغيّر بسهولة أو دون تعقيدات ومعوقات.

 

ماجد كيالي

حقوق النشر: قنطرة 2016