مجلة "فكر وفن"...حضور استثنائي في المشهد الثقافي السوداني

صدور العدد 103 من مجلة "فكر وفن" الألمانية مهد الطريق لإطلاق فعالية ثقافية مهمة في الخرطوم في الأسبوع الأخير من شهر آب (أغسطس) من عام 2015. وقد التقطت الندوة التي نظمها معهد غوته الألماني في العاصمة السودانية القفاز، الذي رمى به ملف المجلة الرئيس في عددها المحتفى به بالسودان وهو ملف "الكتابة والنشر والتحديات الرقمية"، لمناقشة عدد من القضايا التي تهم المبدعين والكتاب السودانيين. جمال طه غلاب حضر الاحتفالية ويسلط الضوء لموقع قنطرة على "الحضور الاستثنائي لمجلة 'فكر وفن' في المشهد الثقافي السوداني".

الكاتبة ، الكاتب: جمال طه غلاب

يتحدث البروفسور يوسف فضل وهو من أساتذة التاريخ المبرزين في السودان ومدير سابق لجامعة الخرطوم عن العلاقة المعرفية التي جمعته بمجلة "فكر وفن" على نحو خاص وبالاستشراق الألماني على وجه العموم ويشير إلى أن علاقته بالمجلة تعود للعام 1965، ويذكر أنه أفاد كثيراً من المصنفات والمؤلفات التي وضعها مستشرقون ألمان في فترة تحصيله الأكاديمي بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بلندن، حيث انتبه إلى أن المستشرقين الألمان كانوا من أوائل الذين اهتموا بوضع فهارس لألفاظ القرآن الكريم و الحديث النبوي والشوارد، ويستشهد بفهرس ألفاظ القرآن الكريم الذي وضعه غوستاف ليبرشت فْلوجِل (1802 - 1870) ومصنف عن الاسماء الأعلام في العالم العربي الذي وضعته آنا ماري شيمل (1922 - 2003).

ويشيد الدكتور فضل بالجهد الكبير الذي بذلته شيمل بصحبة ألبرت تايله في تأسيس مجلة "فكر وفن" للتبادل الثقافي بين ألمانيا والعالم الإسلامي في العام 1963.

و يذكر صاحب (العرب والسودان) الصادر في أربع طبعات باللغة الإنجليزية أن نُسخ مجلة "فكر وفن" التي كانت تصل إلى السودان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كانت تنفد في أقل من أسبوع رغم أن المجلة لم تنشر في ذلك الوقت سوى لعدد قليل من الكتاب السودانيين من بينهم الطيب صالح ومحمد مفتاح الفيتوري.

جانب من الندوة التي نظمها معهد غوتة الألماني في العاصمة السودانية الخرطوم لتدشين العدد 103 من مجلة فكرو فن يوم الثلاثاء الموافق 25 / 8 / 2015. Photo: Jamal Ghallap
التقطت الندوة التي نظمها معهد غوته الألماني في العاصمة السودانية الخرطوم القفاز، الذي رمى به ملف العدد 103 الرئيس من مجلة "فكر وفن" الألمانية - العدد المحتفى به بالسودان - وهو ملف "الكتابة والنشر والتحديات الرقمية"، من أجل مناقشة عدد من القضايا التي تهم المبدعين والكتاب السودانيين. واتسمت مداخلات الحضور بالتأكيد على الأثر الكبير الذي خلفه النشر الإلكتروني على مجمل العملية الإبداعية.

علاقة بـ "فكر وفن" منذ الطفولة الباكرة

ويقول إن الفرصة ما زالت مواتية أمام "فكر و فن" للتوسع في التعريف بالثقافة والأدب والكتاب في بلاد السودان وتقديمهم لقطاعات مختلفة من القراء في الشرق والغرب سيما وأن طبعاتها تصدر بلغات مختلفة.

الروائي عبد الغني كرم الله قال إن علاقته بفكر وفن ابتدأت منذ الطفولة الباكرة في قرية صغيرة تقع على النيل الأزرق جنوب الخرطوم في وقت لم يكن التحق فيه بالمدرسة بعد، وبطبيعة الحال سحرته الصور التي تنشرها المجلة التي كان أخوه الأكبر يحرص علي اقتناءها وقراءتها بانتظام، فكانت الأوقات التي يقضيها في الفرجة على الصور و اللوحات والزخارف والخطوط بداية لعلاقة حميمة بذلك الورق ذي الرائحة الخاصة امتدت حتى الآن، وقد نشرت المجلة مقالة ممتعة عن "أحوال الإبداع منذ القدم في السودان" لكرم الله في العدد محور الندوة.

الغلاف العربي للعدد الجديد رقم 103 من مجلة "فكر وفن"
يعمل ملف العدد الجديد 103 من مجلة "فكر وفن" على تقديم صورة الأدب والكتاب في عالم متعولم يقوم على الثقافة الرقمية والإلكترونية، وكيفية تفاعل المبدعين والناشرين مع هذه التغييرات، ومدى قدرة الأدب على الصمود في ظل هذه المتغيرات، وطريقته للاضطلاع بذلك.

حياد بعيد عن الأحكام المسبقة

يقول مؤلف "آلام ظهر حادة" إنه تعلم الحياد من مجلة فكر وفن، فعن طريقها تعلم قراءة ما يكتبه غير المسلمين من دون أحكام مسبقة. الناشر "نور الهدى محمد" قدم عرضاً موجزاً لتاريخ الطباعة والنشر في السودان فأكد أن وجود الكتاب والمكتبة في السودان ارتبطا ارتباطاً وثيقة بالصحافة، فقد استدعى دخول أول مطبعة حديثة للبلاد في العام 1902 صدور صحيفة السودان في العام الذي يليه و التي اقتصرت على نشر كل ما يتعلق بالمسائل الإدارية التي تهم سلطات الحكم الثنائي (الإنجليزي - المصري) الذي كان يسيطر على مقاليد الأمور بالبلاد.

ولكن ووفقاً لنور الهدى فإن أول ظهور احترافي للصحافة تمثل في صدور صحيفة الرائد في العام 1914 وقد ساهمت هذه الصحيفة في وجود أول منبر أدبي ورقي للكتاب السودانيين ومنذ صدورها اهتمت الصحيفة بإطلاق المسابقات الشعرية مثلما اهتمت بنشر المقالات والقصص والخواطر.

يرى نور الهدى أن أول كتاب أدبي مطبوع ظهر في السودان هو ديوان "نسمات الربيع" للصحافي والشاعر السوري ورئيس تحرير صحيفة الرائد المقيم في السودان حينذاك "عبد الرحيم مصطفى قليلات"، وقد طردت السلطات الاستعمارية "قليلات" من السودان بسبب كتابه المذكور والذى رأت أنه يتضمن تحريضاً و تشجيعاً للمواطنين للثورة ضد الاستعمار. وخلص نور الهدى أن تاريخ الطباعة والنشر في السودان هو أيضاً تاريخ للصراع المستمر بين المفكرين و الأدباء والفنانين مع السلطات السياسية التي ظلت تسير شؤون البلاد منذ عهد الاستعمار وصولاً إلى آخر حكومة وطنية بالبلاد.

"القراءة تعبير عن الأنا العميقة"

ويعزو نور الهدى تأخر صناعة الطباعة والنشر في السودان إلى غياب الحرية والديمقراطية ويشير إلى أن هناك قيودا كثيرة مفروضة على النشر، ولم ينسَ الإشارة إلى الدور المهم الذي لعبته "دار جامعة الخرطوم للطباعة و النشر" والتي تأسست في العام 1962 في تطوير وتشجيع حركة التأليف والنشر وفي تأسيس بنيات تحتية ممتازة لصناعة الكتاب لم تتم المحافظة عليها للأسف.

ابتدر الروائي والناقد المخضرم "عيسى الحلو" مشاركته في الندوة بسؤال: "لماذا نقرأ" وأجاب بأن القراءة هي تعبير عن الأنا العميقة للإنسان، وانتقل للحديث عن الدور الذي لعبه النقد الألماني في تأسيس "علم اجتماع القراءة" الذي أدخل القارئ كلاعب لا يقل أهمية عن الكاتب والناقد في إنتاج وإعادة إنتاج النصوص وبث حياة جديدة فيها، ويقلل صاحب "العجوز و الأرجوحة" من المخاوف الراهنة تجاه المهددات التي تحاصر فعل القراءة ويرى أن هذا الاتفاق السري المنعقد بين الكاتب و القارئ سيتجدد بتجدد حاجة الإنسان للتعرف على ضعفه وأحلامه وجراحه في مرآة النصوص.

تحديات تواجه النشر الإلكتروني

تطرقت ورقة الباحث الشاب "عبد السلام الحاج" إلى التحديات التي تواجه النشر الإلكتروني في السودان والتي أوجزتها الورقة في انتهاك حقوق الملكية الفكرية للناشرين والمؤلفين وفي انحصار استخدام الأجهزة الذكية في أوساط اجتماعية محددة بالبلاد بالإضافة إلى الدور السلبي الذي تلعبه العقوبات الاقتصادية والتقنية المفروضة على السودان في تأخير  نمو وتطور النشر الإلكتروني.

لكن الحاج يشير إلى بعض التجارب الناجحة التي تمكنت من تخطي مثل هذه العقبات كما هو الحال مع مجلة "جيل جديد الإلكترونية" التي أسسها نفر من الكتاب السودانيين الشباب، حيث تقوم المجلة بنشر نصوص كتاب الجيل الجديد كما تتعهد بتسويق كتبهم المنشورة إلكترونياً وورقياً. ومن أحدث الكتب التي سوقت لها مجلة جيل جديد كتاب بعنوان "السلطة الخامسة: من أين تأتي التكنولوجيا" للكاتب الشاب "قصي همرور".

جانب من الندوة التي نظمها معهد غوتة الألماني في العاصمة السودانية الخرطوم لتدشين العدد 103 من مجلة فكرو فن يوم الثلاثاء الموافق 25 / 8 / 2015. Photo: Jamal Ghallap
نوه أغلب المشاركين، في الفعالية الثقافية التي أطلقها معهد غوته في الخرطوم بمناسبة صدور العدد 103 من مجلة "فكر وفن" الألمانية، إلى أن مجلة "فكر و فن" ظل لها حضور استثنائي في المشهد الثقافي السوداني.

حرص على تطوير فنون الكتابة وتشجيع القراءة

واتسمت مداخلات الحضور بالتأكيد على الأثر الكبير الذي خلفه النشر الإلكتروني على مجمل العملية الإبداعية. لكن الناشر نور الهدى يؤكد أن النشر الإلكتروني هو مكمل للنشر الورقي وليس بديلاً له ويستشهد بأن الغرب وهو مهد الثورة التقنية ما زال يحتفي بالكتاب الورقي و ينظم له المعارض و يطبع منه ملايين النسخ. و قد دعا عدد من الحاضرين معهد غوته بالخرطوم إلى تبني مشروع إصدار عدد خاص بالأدب السوداني من مجلة فكر وفن.

وفي إفادته لموقع قنطرة عبّر مدير معهد غوته بالخرطوم السيد "مانفرد إيفل" عن سعادته بتنظيم المعهد لهذه الندوة، وقال إن مساهمة المحاضرين والجمهور عكست اهتمام السودانيين بالأدب وحرصهم على تطوير فنون الكتابة وتشجيع القراءة، وقال إن العقبات التي أشار إليها المشاركون والتي تعيق صناعة وتوزيع الكتاب لا يمكنها أن تثني الكتاب وجمهور القراء عن البحث عن طرق جديدة لإنتاج وتداول الأدب الرفيع.   

 

جمال طه غلاب - الخرطوم

حقوق النشر: قنطرة 2015   ar.qantara.de