مقامرة إقليمية على بسط النفوذ في المنطقة العربية

تغير النظام الإقليمي بشكل دراماتيكي مع صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" في سوريا والعراق، ففي الوقت الذي ترتقي فيه إيران وتركيا لتصبحا لاعبين سياسيين مركزيين في مناطق الأزمات العربية، يستمر فقدان الغرب لنفوذه. الكاتب والصحفي كريم الجوهري يستقرئ لموقع قنطرة مشهد النفوذ الإقليمي في المنطقة العربية في عام 2014.

الكاتبة ، الكاتب: Karim El-Gawhary

مَنْ كان له توقع أنْ يرحب وزير خارجية أمريكي ذات يومًا بحماسةٍ بالغةٍ بعملٍ عسكريٍ إيراني؟ هذا بالضبط ما فعله جون كيري بعد أنْ قصفت طائرات حربية تابعة للجمهورية الإسلامية مطلع شهر كانون الأول/ ديسمبر 2014 بعض مواقع تنظيم "الدولة الإسلامية" في شرق العراق.

العروض الأمريكية تجاه طهران ليست بجديدة، إذ كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما قبل ذلك قد دعا المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي إلى التشارك في محاربة العدو الجديد تنظيم "الدولة الإسلامية" ولمَّح إلى إمكانية التقارب بخصوص النزاع النووي.

ومع أنَّ جوش إرنست المتحدث باسم البيت الأبيض قد نفى مؤخرًا أيَّ تعاونٍ عسكريٍ وأيَّ تبادلٍ للمعلومات الاستخبارية مع طهران، إلا أنَّ بعض أوساط الجيش الأمريكي أقرَّت منذ فترةٍ طويلةٍ بوجود تواصلٍ مع القيادة الإيرانية وذلك من خلال الحكومة العراقية في بغداد التي تعمل بمثابة همزة وصلٍ بين الطرفين.

منطقةٌ تشهدُ تغيُّراتٍ جذريةً

حصلت تغيُّراتٌ جذريةٌ في الشرق الأوسط في سنة 2014، فقبل ذلك كانت علاقات الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بإسرائيل والمملكة العربية السعودية جيدة على مدى عقود، وتركيا الشريكة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) كانت حليفةً على أية حال، أما إيران "الدولة المارقة" مثيرة الشغب فقد جرى عزلها منذ الثورة الإسلامية، ولبسط السيطرة على الشرق الأوسط بوصفه منطقة نزاع تمَّ نشر قواتٍ عسكريةٍ فيها ودُفِعَ بحاملات الطائرات لتذرعها ذهابًا وإيابًا.

ولكن بعد ذلك ظهرت فجأةً قوةٌ جهاديةٌ احتلت مساحةً كبيرةً من الأراضي في وسط هذه المنطقة وأعلنت قيام خلافة، فنشأت بذلك "الدولة الإسلامية" ولم يعُد أيُّ شيءٍ كما كان من قبل. ولم يحصل أيُّ حدثٍ في العقود الماضية يُظهر بهذا الوضوح أنَّ المصائر السياسية في المنطقة لم تعد تتشكَّل بالضرورة لصالح الغرب.

يصِفُ ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد سياسةَ الولايات المتحدة الحالية على النحو التالي: كان هنالك سعيٌ في عهد بوش للسيطرة المباشرة على المنطقة من خلال التدخل العسكري المباشر. وبعد اتضاح فشل هذه الاستراتيجية عبر حرب العراق تمَّ اتباع سياسة توازن القوى بين الجهات الفاعلة في المنطقة، في ظلِّ أدنى حدٍّ ممكنٍ من التدخُّل العسكري، حيث لم تعُد الولايات المتحدة الأمريكية ترى ضرورةً للهيمنة على المنطقة، بل ساد الاعتقاد لديها بأنَّه عليها العمل فقط على أنْ لا تُهيمِن جهةٌ أخرى على المنطقة.

أفلحت هذه الاستراتيجية إلى أنْ اتضح حدوث تغيُّراتٍ سياسيةٍ داخليةٍ في الدول الإقليمية التقليدية، وكان على الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا أنْ تستوعب أنَّها هي أكثر اعتمادًا على هذه السلطات من اعتماد الأخيرة عليها.

إيران باعتبارها خصمًا هامًا يواجه تنظيم "الدولة الإسلامية"

خريطة مناطق نفوذ تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق وسوريا.  Quelle: DW / Qantara

تتجلى هذه السياسة بأوضح أشكالها فيما يخص إيران، إذ لم تُثِبتْ الجمهوريةُ الإسلاميةُ فقط أنَّها الخصم السياسي والعسكري الأهم لتنظيم "الدولة الإسلامية"، فإيران كانت أول بلدٍ يسارع إلى مساعدة الحكومة المحاصرة في بغداد من قِبَلِ جهاديي تنظيم "الدولة الإسلامية"، وذلك من خلال إرسالها فيلق القدس الإيراني إلى العراق من أجل إيقاف تقدمه.

حتى أنَّ قاسم سليماني قائد فيلق القدس ظهر علنًا على التلفزيون الإيراني جنبًا إلى جنبٍ مع مقاتلي البشمركة الأكراد في العراق، والرسالة واضحة: تودُّ إيران أنْ تسوِّق نفسها باعتبارها عاملًا مهمًا في الحرب ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق. وتقول طهران: "لولا فيلق القدس لكانت بغداد الآن في أيدي التنظيم". كما يقول يد الله جواني مستشار المرشد الأعلى آية الله خامنئي إنَّه "لم يجرِ إيقاف عمليات التنظيم إلا من خلال خبرة ومشورة الجمهورية الإسلامية". ويتابع "لنْ نقبل بحصول أيِّ اضطراباتٍ على الحدود الإيرانية".

وضعت إيران في محافظة ديالى الواقعة شرقي العراق مرابض مدفعية وطواقم عسكرية بغية مهاجمة مواقع تنظيم "الدولة الإسلامية" هناك، وفي وقتٍ لاحقٍ ساعد مستشارون إيرانيون في كسر الحصار المفروض من قبل التنظيم على بلدة آمرلي الشيعية العراقية، وكانت الغارات الجوية بعد ذلك في كانون الأول/ ديسمبر 2014 ذروة الهجمات الإيرانية ضد التنظيم إلى ذلك الحين.

وعلى الرغم من أهمية إيران المتنامية باعتبارها قوَّةً مضادَّةً للتنظيم، إلا أنَّها لم تُدعَ إلى اجتماع دول التحالف المناهض لتنظيم "الدولة الإسلامية" في واشنطن الذي جمع قادةً عسكريين من عشرين دولةً غربيةً وعربيةً، فالاتفاق النووي الذي لم يتم بعد وصرخة إسرائيل الرافضة لإعادة دمج إيران في النظام الإقليمي حال حتى الآن دون اعتبار إيران رسميًا جزءًا من التحالف المناهض للتنظيم.

تحالف شيعي في الحرب ضد الجهاديين

وفي الوقت نفسه، تعلن إيران أنَّها "البلد الأكثر استقرارًا في المنطقة، المحاطة باضطرابات الدول العربية المجاورة التي تعمل جماعاتٌ متطرفةٌ على زعزعتها"، بحسب تعليق السفير الإيراني السابق لدى ألمانيا سيد حسين موسويان الذي يُدرِّس حاليًا في جامعة برينستون. ويشيد موسويان ببلاده بوصفها "أفضل حليفٍ للغرب"، ويقول إنَّ "تحالفًا شيعيًا يتألف من إيران والجيشين النظاميين العراقي والسوري وكذلك حزب الله يشكِّل بمعية البشمركة الكردية القوات البرية الأكثر فعاليةً ضد تنظيم "الدولة الإسلامية".

لكنْ ثمة أصواتاً تحذِّر أيضًا من الإفراط في الاستناد إلى إيران في محاربة التنظيم، حيث يخشى برنارد هيكل زميل سيد حسين موسويان في برينستون من أنْ يؤدي التعاون بين واشنطن وطهران إلى تكاتفٍ سُنِّيٍ تحت راية الجهاد، معتبرًا التنظيمَ من عدة نواحٍ تعبيرًا عن انتفاضةٍ سُنيِّةٍ في العراق بعد إقصاء السُنَّة سياسيًا على مدى عقدٍ من الزمن، ويرى أنَّ طهران والميليشيات الشيعية قد أججت العنف الطائفي في العراق إلى حدٍّ بعيد، مثلها مثل الجهاديين تمامًا. وبحسب هيكل: "من شأن السُنَّة أنْ يعتبروا تحالف الولايات المتحدة الأمريكية مع إيران بمثابة إعلان حرب".

القوة الإقليمية الهامة الثانية التي تشكل تأثيرًا متزايدًا على الشرق الأوسط هي تركيا، فهي تملك أكبر قوةٍ اقتصاديةٍ وأكبر جيشٍ في المنطقة. كما أنَّ حدود تركيا الطويلة مع سوريا والعراق معرَّضةٌ كما هي حال إيران لهجمات تنظيم "الدولة الإسلامية". وتهدف أنقرة إلى إسقاط نظام الأسد، وإقامة بديلٍ سياسيٍ عنه يمكنها التحكُّم به.

أدى هذا إلى تعاونٍ ضبابيٍ مع مختلف المجموعات السورية المتمردة، بالتزامن مع محاولة إبعاد الصراع السوري عن الأراضي التركية. ولكن لا يمكن بأية حالٍ من الأحوال اعتبار الدولة العضو في الناتو دولةً خادمةً للغرب، فتركيا تتبع مصالحها الإقليمية الخاصة بامتياز.

جنود إيرانيون في طهران.  AFP Getty Images
تدخل عسكري: تسعى إيران في حربها على تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى تحقيق مصالحها السياسية وبسط نفوذها ضمن المنافسة على النفوذ في المنطقة، ناهيك عن وجود حدودٍ بين الجمهورية الإسلامية في إيران والعراق غربًا بطول ألف وخمسمائة كيلومترٍ، هناك أيضًا مواقع حجٍ شيعيةٍ مهمةٍ في العراق مثل العتبات المقدسة في كربلاء.

تنظيم "الدولة الإسلامية" باعتباره خطرًا حدوديًا لا تمكن السيطرة عليه

أصبح تنظيم "الدولة الإسلامية" عاملاً جديدًا على الحدود الجنوبية لا تمكن السيطرة عليه. وتخشى تركيا على وجه الخصوص من أنْ يؤدي النجاح في دحر التنظيم إلى نشوء فراغٍ يملؤه خصومُها الأكراد تحديدًا. وتتمسَّك تركيا بمسألة الإطاحة بالأسد بعكس الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تودّ الإفراط في تحدِّي النظام، لكي تستغلّ إمكاناته في مواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية".

وتطالب تركيا الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا رسميًا بوضع استراتيجيةٍ شاملةٍ للمسألة السورية، قبل أنْ تلتزم فعليًا وبشكلٍ مكثَّفٍ في محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية". وهذا المطلب مشروعٌ من حيث أنَّ تركيا لا تستطيع الانسحاب ببساطة من هذا الصراع كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية في العراق من قبل.

ثم هناك المملكة العربية السعودية القوة الإقليمية الثالثة والقوية ماليًا. تشارك المملكة رسميًا منذ شهر أيلول/ سبتمبر 2014 بالتحالف المناهض لتنظيم "الدولة الإسلامية" الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. المملكة العربية السعودية بدورها تعمل على الإطاحة بالأسد، ويشكل التنافس مع إيران على الهيمنة على الخليج الدافع الحاسم لسياسة السعودية في سوريا، لذا يُعتبرُ التحالفُ بين النظام في دمشق وطهران شوكةً كبيرةً بعين الرياض.

تريد المملكة العربية السعودية اقتلاع سوريا من المدار الإيراني، وقد وفَّرت الانتفاضةُ على الأسد فرصة مؤاتيةً لتحقيق هذا الغرض، لذا دعمت المملكة جماعات متمرَّدةً إسلاميةً متطرِّفةً بالدرجة الأولى على أمل أنْ تنشأ قوةٌ تُشكل تحديًا جديًا للأسد ويمكن التحكُّم بها من قِبَلِ المملكة العربية السعودية في آنٍ واحد.

دعمت القيادة في الرياض في هذا السياق فقط تلك الجماعات المتمردة غير المقرَّبة من جماعة الإخوان المسلمين، إذ أنَّ السعوديين يعتبرون جماعة الإخوان المسلمين منافسين لهم أيضًا، لأن الإخوان من خلال مفهوم الحصول على الشرعية بواسطة الانتخابات في مصر قد وضعوا المفهوم السعودي للحكم الإسلامي الإلهي بواسطة فرد موضع شك، وبالتالي لا يدعم السعوديون سوى الجماعات المتمردة الإسلامية المتطرفة ضد نظام الأسد.

وفي نفس الوقت خدم وجودُ تنظيم الدولة الإسلامية حتمًا المصلحة السعودية في تخفيف إحكام القبضة الإيرانية على العراق وتعطيل طرق الإمداد بين إيران وسوريا وحزب الله في لبنان.

أكبر كابوسٍ للسعودية

بهذا المعنى فإنَّ المملكة العربية السعودية من ممهدي درب تنظيم "الدولة الإسلامية" بالتأكيد، حتى وإنْ خرج ماردٌ من القمقم الآن، ماردٌ لم تعُد المملكة قادرةً على السيطرة عليه. لكنَّ ورطة السعودية الأكبر تكمُن في أنَّ تمويلها ودعمها لتنظيم "الدولة الإسلامية" سينعكس سلبًا عليها، إنْ نتج عن ذلك تكاتفٌ إيرانيٌ أمريكيٌ مواجِه. ومن شأن ذلك أنْ يكون أكبر كابوسٍ للسعودية، التي ترى الآن أنَّ التنظيم يخدم نظام بشار الأسد وإيران. وهذا في الواقع السببُ الرئيس الذي دفع المملكة العربية السعودية للانضمام إلى التحالف الدولي المناهض للتنظيم بالرغم من كلِّ الاعتراضات الداخلية على الانضمام.

التعاون والائتلاف في مواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية" لا ينجح سوى حيث يكون القاسم المشترك بين الغرب والدول الإقليمية مرهونًا بمصالح مختلف الأطراف، إذ نجد تقاطعات بين المملكة العربية السعودية وتركيا وتناقضات على حدٍّ سواء، أما في حالة إيران، فمن شأن تسويةٍ في الملف النووي أن تُغيِّرَ الخارطة الجيوسياسية في المنطقة بشكلٍ مستدام. والقيادة في طهران تعرف تمامًا أنَّ التعاون على صعيد محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" يُمثِّلُ أنجع ورقةٍ لدفع الغرب للتنازل ضمن المفاوضات في الشأن النووي. ولكن طالما لا يوجد أفق لتحقيق اتفاقٍ يحل النزاع النووي لن يكون هناك تعاونٌ بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة التنظيم، وفي أفضل الحالات سيكون هناك تنسيقٌ تكتيكيٌ كما هو حاصلٌ اليوم.

كيري وسعود الفيصل في المملكة العربية السعودية. Foto: AFP/Getty Images
كيري وسعود الفيصل في المملكة العربية السعودية. Foto: AFP/Getty Images

وبينما تستمر أوروبا بالتطلع صوب أوباما على أمل حلِّ الأزمة التي نشأت مع تنظيم "الدولة الإسلامية" وذلك عسكريًا أو سياسيًا، تبقى دول المنطقة في الحقيقة قبل سواها ممسكةً بمفتاح الحلِّ، وفي اللحظة التي تتفق فيها إيران والمملكة العربية السعودية وتركيا على كيفية حلـِّها للأزمة في سوريا وفي العراق بالطرق السياسية وليس العسكرية، نكون أمام لحظة إعلان بداية نهاية هذه الأزمة.

تعقـُّد الوضع

لكنَّ المنطقة ما زالت بعيدةً كلَّ البُعد عن هذا التوافق، فتركيا لا تريد أنْ تـُجرَّ إلى الصراع قبل الحصول على تنازلاتٍ كبيرةٍ، وإيران تريد أنْ تتخلص من الملف النووي والعقوبات مقابل دعمها محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية"، والمملكة العربية السعودية تنظر بقلقٍ إلى التقارب الأمريكي الإيراني الحديث العهد.

كاتب العمود في "نيويورك تايمز" توماس فريدمان يرى في هذا التداخُّل الإقليمي فرصةً للولايات المتحدة الأمريكية لتقترب أكثر من المركز الاستراتيجي للمنظومة الإقليمية ولتدفع كعادتها بدول الإقليم للتناحر، هذه الدول التي ينبغي عليها أنْ تـُعيد تعريف علاقاتها بواشنطن.

لكن في الوقت الراهن نجد العكس قائمًا: فالشرق الأوسط لم يعُد يُدار من قِبَلِ "شرطي العالم" الولايات المتحدة الأمريكية بغطاءٍ أوروبي، بينما يزداد تحديد دول منطقة الشرق الأوسط والأدنى للمسار، وعلى الغرب أنْ يُعرِّفَ علاقاته بهذه القوى الإقليمية على نحوٍ جديد. وهذا ما يجعل المنظومة في الشرق الأوسط ضبابيةً ومعقدةً، وبخاصة فيما يتعلق بدول الإقليم مثل إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية في مواجهتها لتنظيم "الدولة الإسلامية"، فالطرفان جزءٌ من المشكلة وجزءٌ من الحلِّ على حدٍّ سواء.

 

 

كريم الجوهري

ترجمة: يوسف حجازي

حقوق النشر: قنطرة 2015