حين ذهب الأمل بمصر ديمقراطية أدراج الرياح

خفة الدم أكثر الأسلحة حِدَّةً على فساد الحاكم ونزعاته السلطوية. بُعيد اندلاع ثورة 25 يناير المصرية، برز نجم الإعلامي الساخر، باسم يوسف، كناقد لاذع. بيد أن ربيع الحرية لم يدم طويلاً، إذ تم -فجأة- إيقاف برنامجه الشعبي في نهاية عام 2013، وذلك بعد وصول السيسي للسلطة. وحينها خسرت مصر باسم يوسف، لكنه اتجه إلى الولايات المتحدة حيث سلط سلاح نقده على الإسلاموفوبيا هناك. رينيه فيلدانغل يقدم لموقع قنطرة نظرة على فيلم وثائقي أمريكي تعريفي بهذا النجم المصري الإعلامي الساخر.

الكاتبة ، الكاتب: René Wildangel

عملت المنتجة والمخرجة الأمريكية، سارة تاكسلر، لسنوات طويلة مع جون ستيوارت في برنامجه الأسطوري "ديلي شو". وقد استوحى المصري باسم يوسف من برنامج جون ستيوارت الأسلوب التنويري والنقد اللاذع بلا حدود، وأطلق برنامجه الخاص به، "البرنامج". حصد "البرنامج" شعبية كاسحة خلال الربيع العربي، ليس في مصر فحسب، بل في كل العالم العربي. 

بعد ظهور باسم يوسف في برنامج جون ستيوارت في نيويورك، بدأ نجمه يلمع عالمياً وأُطلق عليه لقب "جون ستيوارت المصري". وشرعت تاكسلر في إنتاج فيلم وثائقي عن باسم، حمل عنوان "دغدغة العمالقة". نجحت تاكسلر في تقديم بورتريه شخصي مؤثر ويلامس شغاف القلب. وقد لاقى الفيلم احتفاء به في "مهرجان تريبيكا السينمائي" في الولايات المتحدة الامريكية. كما أتاح التعاون مع جمعية "سينما من أجل السلام" عرض الفيلم في "مؤسسة هاينرش بول"، المقربة من حزب الخضر، في العاصمة الألمانية برلين.

ميدان التحرير...الشرارة

يبدأ الفيلم بمقاطع فيديو من ميدان التحرير صورها باسم بنفسه للأيام الأولى من الثورة. "لم أرَ بحياتي مثل هذه الاحتجاجات. كان أمراً يصعب تصديقه"، يقول باسم. قرر باسم مع صديقه طارق البدء بتقديم برنامج الهجاء السياسي، "باسم يوسف شو"، على الانترنت، وذلك باستخدام جهاز كمبيوتر محمول في البيت. حقق البرنامج شعبية واسعة في كل أنحاء العالم العربي؛ إذ بلغ عدد المشاهدات 35 ألفاً في الأيام الأولى، ووصل العدد إلى ملايين المشاهدات بعد شهرين فقط من البدء من عرضه على موقع اليوتيوب يوم 8 آذار/مارس 2011.

بشخصيته الآسرة وبخفة دمه ونكاته نزل باسم، الذي ترك عمله كجراح للقلب، إلى الشارع وأجرى مقابلات مع المتظاهرين. دُهش باسم من الجماهير في ساحة التحرير وهو نفسه واحد منهم. آنذاك كان يحدوه الأمل، مثل كل المصريين، ببزوغ فجر عصر جديد. كان برنامجه جزءاً من معركة الحريات المكافحة للوصول لحرية التعبير وحرية الصحافة. جعل باسم من كليبتوقراطية (نظام حكم اللصوص) الحكومة والجيش العفنة موضع سخرية. كما أنه عرّى محاولات إعلام الحكومة تشويه سمعة المتظاهرين.

Sara Taksler und Bassem Youssef; Quelle: Sara Taksler
رسائل مزعجة للطغاة العرب: يرى باسم يوسف في السخرية أكثر الأسلحة مَضاءً ضد أهل السلطة، كما يرى فيها أيضاً مقياساً لحرية الرأي. وقد أدى ذلك لتزايد الخطورة على حياته. في الصورة المخرجة الأمريكية سارة تاكسلر منتجة الفيلم الوثائقي "دغدغة العمالقة" عن الإعلامي الساخر باسم يوسف.

ولكن وبينما كان باسم يصوب نار سلاحه الحاد، السخرية، على الرئيس السابق محمد حسني مبارك، كان الجيش يصوب نار سلاحه الحربي على المتظاهرين. شهد باسم بأم عينه قتل متظاهرين في ميدان التحرير. لذا فقد كان باسم واعياً، ومنذ البداية، بخطورة مهمته التهكمية.

وهذا ينطبق أيضاً على فريق عمله، الذي ينتج اليوم برنامج يتابعه غالبية المصريين. يعبر الشباب المصري المبدع من الجنسين ومن مختلف الطبقات الاجتماعية والاتجاهات السياسية، من الليبراليين وحتى المحافظين، عن أنفسهم بحرية، تصل حد الثمالة. صمم أحد رسامي الغرافيك من فريق باسم صورة لباسم وهو يدغدغ أسفل قدم عملاق بريشة، وبهذا الأمر فإنه يمنع العملاق من رفسه بقدمه. إنها دغدغة العمالقة.

الخوف من عودة العمالقة

لم يكن جميع أقارب باسم متحمسين للنقد اللاذع غير الهَيّاب. فقد كان القلق يعتريهم من أن العمالقة سيردون على النقد، وحتى بعد الإطاحة المحتفى بها بمبارك. إذ أن حكم الإخوان المسلمين لم يكن على قدر آمال فريق برنامج "البرنامج". على كل حال كان الرئيس الجديد صعب المراس، محمد مرسي، مادة دسمة للكثير من السخرية. غير أن النزعات السلطوية المتزايدة للإخوان المسلمين ضيقت على هامش الحركة للبرنامج وقُدم باسم للمحاكمة.

في حزيران/يونيو 2013 حصلت زيارة مميزة، فقد كرّم جون ستيوارت باسم وفريق برنامجه بظهوره كضيف في برنامج "البرنامج"، وذلك قبل فترة بسيطة من الانقلاب العسكري على الرئيس محمد مرسي. وفي حلقة البرنامج تلك، التي تستحق المشاهدة، ألقى حارسان شخصين القبض على جون ستيوارت بتهمة التجسس، وذلك في تلميح لنظرية المؤامرة التي تسيطر على الحكومة.

وقد بدا واضحاً في النقاش مدى قرب باسم وجون بعضهما من بعض. ولم يخفِ جون ستيوارت إعجابه بباسم. إذ أن نقد باسم لذوي السلطة يرتب عليه مخاطر أكثر وأكبر بكثير من المخاطر التي يحمله معه نقد جون للسلطات الأمريكية.

ولكن المستقبل القريب خبأ لباسم ولبرنامجه مصاعب أكبر؛ فبعد انقلاب السيسي العسكري المُحتفى به والفوضى التي أعقبته، بدأ النظام باتخاذ إجراءات أكثر راديكالية ضد أي قوة معارضة. وعلى الرغم من أن السيسي كان مادة للسخرية على غرار سلفه، مرسي، إلا أن موجة الهجمات الإرهابية والمجزرة الوحشية ضد الإخوان المسلمين المعارضين، والتي ذهب ضحيتها ما يقارب ألف إنسان، لم يعد بالإمكان تناولهما في برنامج كوميدي كبرنامج باسم. اُعتقل آلاف الأشخاص، من بينهم والد أحد العاملين في برنامج باسم. كم تم قمع منظمات المجتمع المدني والإعلام الناقد.

مديح الديكتاتور بدلاً من السخرية منه؟

أمام استديو تصوير البرنامج وتحت أعين القوة الأمنية، انطلقت مظاهرات عنيفة، على ما يبدو أن الحكومة هي من وقفت وراءها. بعد بث حلقتين بعد الانقلاب وصل البل إلى ذقن باسم وبرنامجه؛ فقد قيل له إن البرنامج لن يستمر، إذا تم التعرض للسيسي بالنقد.

طبعاً لم يوافق باسم على ذلك. إذ يقول إن لب برنامجه يقوم على تناول الحكومة من زاوية نقدية. فهو يرى في السخرية أكثر الأسلحة مضاءً حدة ضد أهل السلطة، كما يرى فيها أيضاً مقياساً لحرية الرأي. أدى ذلك لتزايد الخطورة على حياته.

فشلت محاولة الانتقال إلى محطة تلفزيونية جديدة؛ ففي مصر لم يعد بالإمكان توجيه أي شكل من أشكال النقد للسيسي. وفي مؤتمر صحفي وداعي أعلن في 2014 عن توقف برنامج "البرنامج". كان الإعلان محزناً، إذ كان ذلك يعني أن الأمل بمصر ديمقراطية قد ذهب أدراج الرياح، في الوقت الحاضر على الأقل. فرّ باسم بجلده إلى الولايات المتحدة الأمريكية لينجو من الاعتقال. وحتى عندما توفي والده، لم يكن بإمكانه العودة لأسباب أمنية.

"أمريكا، أعظم ديمقراطيات العالم، أليس كذلك؟"

رغم أن قصة باسم المؤثرة تنتهي في الفيلم بشكل محبط، غير أن طريق باسم لم ينتهِ بعد. فقد بدأ ومنذ مطلع عام 2016 بإنتاج برنامجه الكوميدي "كتيب الديمقراطية". يقول باسم في الشريط الدعائي لبرنامج "كتيب الديمقراطية": "قدمت برنامج كوميدي في مصر لوضع الأمة على الطريق الصحيح. أعجب الشعب بالبرنامج، بيد أنه لم ينل رضى الحكومة. لذا جئت إلى البلد، الذي يفتح أبواب الإمكانيات غير المحدودة أمامي. ففي النهاية، أمريكا أعظم الديمقراطيات في العالم. أليس كذلك؟".

في العشرين حلقة الأولى من البرنامج يجوب باسم أمريكا، البلد المنقسم بفعل الانتخابات الرئاسية الأمريكية. فقد شن المرشح الرئاسي آنذاك، دونالد ترامب، حملة على المسلمين، مما أدى لازدياد الإسلاموفوبيا. يرى باسم نفس النزعة في أمريكا كما كان الحال عليه في مصر: "لا ينتخب الناس؛ فقط مشاعرهم هي من تدلي بأصواتها. مشاعر الخوف هي سيدة العملية الانتخابية. هذا كل شيء". خسرت مصر باسم يوسف. ربما أمريكا بحاجة له الآن أكثر من أي وقت مضى.

 

رينيه فيلدانغل

الترجمة من الألمانية: خالد سلامة

حقوق النشر: موقع قنطرة 2017

 ar.Qantara.de