زاوية "نايت الحساين": ذكاء إنساني في العمران وأمن اجتماعي وثقافيّ

قمة قرية "أكادير لِهنا" يعلوها ضريح لأحد المتصوفة، من حوله تنتشر قبور أهل القرية ويلاحظ عدم التكلّف في بناء القبور بل فقط استخدام الأحجار كعلامات.
قمة قرية "أكادير لِهنا" يعلوها ضريح لأحد المتصوفة، من حوله تنتشر قبور أهل القرية ويلاحظ عدم التكلّف في بناء القبور بل فقط استخدام الأحجار كعلامات.

يمكن للزائر لطاطا جنوب شرق المغرب أن يلمح في النواحي ضريحاً بقبّة بيضاء يقع فوق تلّة تُسمّى "طاز مكة" بالأمازيغية أو "مكة القريبة" بالعربية كما أطلق عليها الشيخ الرّحالة العبدلي. لكنّ الذهاب إلى قرية "أكادير لِهنا" الوادعة يتفاجأ المرء بالهندسة المعمارية البشرية المتفردة التي بُنيت وفقها بيوت قرية انطلاقاً من المركز بيت الشيخ "نايت الحساين". وصال الشيخ تنقل لموقع قنطرة انطباعاتها حول عمران طاطا.

الكاتبة ، الكاتب: وصال الشيخ

صُمّمت القرية على شكل دائرة، أو أجنحة، مركزها بيت شيخ الزاوية "نايت الحساين" أو آيت الحسين ثم تتوسع من القريب حتى البعيد/ الغريب، وفقاً للعلاقات الأسرية ومركز السلطة/ الشيخ، كما قال المندوب الثقافيّ السابق في طاطا، محمد المحمدي. وشرح: "للقرية باب رئيسيّ يٌسمى "إمي تِلباب نِتلات" يقع بقاع التلّة ويصل بزقاق إلى أعلاها. يفتتح صباحاَ ويقفل مساء ويخرج منه الأهالي بعد صلاة الفجر إلى مآربهم ثم يعودون ظهراً للصلاة في الجامع بعدها يتفرقون في الأزقة الطويلة والمستقيمة، أو يخرجون الجنازات من المسجد صعوداً إلى قمة التلّة، وتدفن بجانب الضريح".

هندسة "بوتحيات" الأمازيغية
 

يُقال بأنّ هندسة القرية هي هندسة أمازيغيّة، فريدة واستثنائية تصبغ الطابع المعماري للمنطقة ويُطلق عليه "بويحيات"، ويدلّ ذلك على الوجود الأمازيغيّ بالمنطقة الممتدة لغةً وآثاراً حتى اليوم، ويعرفون بـ"الشُلّح" إلى جانب القبائل العربية القادمة مع فتوحات المغرب العربي وصولاً إلى الأندلس، واندمج الطرفان على مرّ العصور لدرجة اختفى فيها الاختلاف، إلّا في اللباس واللغة، فالنساء الأمازيغيات لا زلن يرتدين تنورة زرقاء أو بيضاء إضافة لملحفة سوداء فوق رؤوسهنّ على عكس النساء العربيات اللواتي ينوّعن في ألوان الملحفات المرتادة، كذلك يظهر الاختلاف وبشكل منسجم باللغات أو الدارجة اللسانية.

تقع زاوية "آيت حساين" بقرية "مدشر" "أكادير الهناء" الواقعة بمنطقة "أفرا" شمال مركز طاطا، ولا يزال مقرها قائماً ومعروفاً ويؤدي وظائفه إلى اليوم، وكانت أشهر زاوية خلال القرن 13 هجري ببلاد "جزولة" إلى جانب زاوية "تمكدشت" التي تربطهما علاقة وطيدة.


صورة لأحد البيوت.. أقواس وسقف خشبي وفق البناء الصديق للبيئة. الصورة: وصال الشيخ
لعبت الزاوية الصوفية في القرية دوراً في تحقيق الأمن الاجتماعي والسياسي بالمنطقة. الصورة: وصال الشيخ

وأسسها سيدي محمد بن أحمد وكنيته بالأعرج بن محمد بن محمد بن موسى بن عبد الرحمن من بني حساين المستقرين بمنطقة "أفرا" شمال مدينة طاطا، ونشأ سيدي محمد في أسرة متعلمة عُرفت بالصلاح، وولّى من أشهر أقطاب الصوفية في عصره على صعيد المنطقة الجنوبية. إلى جانب العلم، اهتمّ آيت حساين بالزراعة، وتوّلى إدارة الأراضي الزراعية الخاصة بالزاوية وبمحاصيلها المخصصة لإطعام فقراء الزاوية، كما كانت القبائل تأتمر وتصطلح به وتوفي عن سن (90) عاما (1251) هجرية.

تمكنت الزاوية من حصولها على ظهير توقير واحترام بعد زيارة السلطان العلوي آنذاك المولى عبد الرحمن عندما زار مقرّها وسلّمها ظهيراً يقضي باحترامها، وأطلع "القنطرة" على بعض الظهائر والرسائل السلطانية والوثائق الرسمية "المخزنية"، التي تؤكد استمرار هذه العلاقة حيث حافظت الزاوية على دورها الاجتماعي وولاؤها للسلاطين، وترطيب العلاقات بين السلطة/ المخزن والقبائل الرافضة للحكم، بحيث أدت دوراً إصلاحياً في الحفاظ على الأمن والتعايش بين العرقيات والأديان الموجودة بالمنطقة، فقد كانت موئلاً لليهود وللوجود الأمازيغيّ من قبل، لهذا لا زلنا نرى دعم الدولة المغربية لمواسم الزوايا سنوياً بأموال طائلة تعزيزاً لدور الزوايا السياسي من جهة، إضافة إلى أهميتها الاجتماعية- الدينية.

وحسب المحمدي بأن نشاط زاوية "نايت الحساين" "استمرّ منذ القرن الـ12 هجري ولم يتراجع دورها إلّا بحلول الحماية الفرنسية بالمغرب".


أماكن للموسيقى وإطعام الفقير
 

في رحلتنا إلى القرية، دخلنا منزل الشيخ الرئيسي للتعرّف على هندسته، وجدنا فيها أنه راعى احتياجات الناس في العلم والطعام وحتى الموسيقى. بيته عبارة عن مساحة كبيرة مقسم على جزأين، قسم خاص بالشيخ ويسمى "الدورية" وقسم آخر خاص بالضيوف وإطعام الفقراء والمحتاجين يفصل بينهما مطبخاً.

في قسم الشيخ، خُصّصت غرفة لإعطاء الدروس ملحقة بطابق ثاني مفتوحاً على أشكال أقواس ومطلاً على البهو أو قاعة الدروس، وكان مخصصاً للنساء والفتيات حتى يجلسن ويستمعن للدروس حيث كان الاختلاط غير مقبول بداعي احترام الطرفين، أما في قسم الضيف بُنيت غرف الضيوف بجوار بعضها مع ساحة خُصّصت لغناء "الأحواش" أو لحظات "البسط"، بحيث كانت النساء يطللن من السطح وينثرن الحبق أو الورد على مغنيي "الأحواش" (عادة ما تُغنى الأذكار ومدح الرسول باستخدام البندير)، لكنّ المنزل تعرّض للإهمال بسبب أمور تتعلّق بالإرث والورثة.

يعمل أهل القرية بالفلاحة بحكم وقوع القرية في نطاق واحة طاطا، وتتوفر حالياً على الخدمات الرئيسية مثل الماء والكهرباء ومدارس، وتوفرت لهم مشاهدة التلفاز في الثمانينات عندما كان رجل يجلب الأشرطة المسجلة ويبثها أسبوعياً لتلفزة المنطقة.

تقوم النساء في أكادير الهنا بأعمال شاقة داخل وخارج المنزل، نقل الحشائش يومياً من الحقول في السهول إلى أعلى تعتبر حملاً ثقيلاً. الصورة: وصال الشيخ
رغم توفر الخدمات والبنية التحتية للتعليم؛ عادة ما ينتهي الأمر بالفتيات بالزواج والعمل كربّات منزل بالإضافة إلى العمل في الحقول. الصورة: وصال الشيخ

أما الماء دخل عن طريق جمعية "زمزم" بينما كانت النساء قديماً يُنظمنَ خرجات لجلب الماء بشكل جماعيّ يومياً ثلاث مرّات يحملنه فوق ظهورهنّ ويصعدن به الأزقة، وكانت الأوعية إما نحاسية أو طينية، وعادة ما تخرج النساء بلباس أزرق وغطاء أسود لجلب الماء أو الحشائش من الحقول.

البناء الإيكولوجي: طين ونخيل

 

قرية "أكادير لِهنا" هي مثال للشكل الهندسيّ القديم للقرى الذي ساد على امتداد الواحات وتُسمّى القرية بـ"لِقْصر" أو "أمغار" بالأمازيغية وتحاط عادة بسور وتُبنى من الطين وخشب النخيل، ورغم أنه أصبح بناءَ هشّاً اليوم إلّا أنه ما يزال يقدّم أجوبة على مشاكل المناخ والاقتصاد واستهلاك الطاقات. دروبها وبيوتها وأسقفها وأبوابها تشكلت من الطين والشجر.

ورسماً لذلك، بُنيت الأزقة على شكل دروب متقاطعة طولاً وعرضاً، أما الأحياء بُنيت وفق القرب من بيت الشيخ على شكل دائرة. أولاً منزل الشيخ وزوجاته، الحي التالي هم أولاده، يلحقه أحفاده، والتالي للأقارب، الحي الرابع للغرباء وهكذا، في دلالة على تجذير العلاقات الاجتماعية ودور الزاوية والدين والعلم بالمنطقة.

كل باب رئيسيّ لزقاق معيّن بُني له قوس، وسُقفت الدروب بخشب النخيل والقصب والجريد حماية من حرارة الصيف القائظة، وطالما أن البيوت بنيت بالتسلسل من القاع صعوداً إلى القمة وبالالتفاف حولها، كانت مصارف ماء الشتاء تخرج من بيت إلى آخر حتى لا تفيض المياه في بيت أحدهم وتتسبب في هدمه.


يُرّجح أن القرية بُنيت في القرن الخامس هجريّ حسب المحمديّ، وتقديراً لحاجات الإنسان الاجتماعية والنفسية وُضعت في الأزقة حجارة مستطيلة تشبه مقاعد الجلوس وأجدت بذلك مكاناً لالتقاء الناس وتبادل الأخبار والأحاديث، من الأزقة ما كان مخصص للرجال وسُميّ بـ" نيركاسن"، ودرب للنساء أتى مقابلاً للمصلى الخاص بهنّ لمنحهنّ مجالاً أوسع من الحرية، وإلى جانب العلم ساهم الطلبة أو التلاميذ ببناء بعض الأزقة عندما كانوا يتعلّمون عند الشيخ أحمد بن محمد الطاطي مؤسسة الزاوية التيجانية بالقرية، ولم تختلف طريقة هذه الأخيرة مع "آيت الحساين" من حيث المبدأ أو الطريقة، اثنتاهما تقدمان الولاء للعلم والدين.

سُمي درب الزاوية الرئيسيّ بـ"أوفولّا"، ويتصل ببابين، أحدهما رئيسي ومشترك لجميع أهل القرية والآخر خاص بدار الشيخ وعائلته المقربة. كما شملت القرية على بيوت خاصة بالفقهاء والعلماء "الطُلَبَة" المتزوجين من عائلة الشيخ والخادمين لعلمه ورسالته.
وزارة الثقافة بعيدة عن تمويل الواحات
 

تحضرّت القرية الزراعية عندما بدأ استبدال الحمار بالدراجة الهوائية وأسطوانات الغاز بدلاً من استخدام الخشب، لكن ذلك لم يمنع النساء حتى الآن من جلب الأخشاب والحطب من الحقول المجاورة.

وفي حالة غير متوازنة بدأ الإسمنت يزحف للقرية التاريخية بدلاً من الطين ولا أحد يوقفها، في حين بدأت بيوت هاجر أهلها بالخراب نتيجة الأمطار وقلّة العناية، ولم تتمكن المؤسسات الرسمية مثل وزارة الثقافة المغربية من إعداد ميزانية خاصة بإعادة إصلاح القرية واعتبارها تراثاً ثقافياً محلياً ينتمي للواحات ويعبّر عن طريقة المعيش فيها.

ارتفاع الدعوات بمطالبة وزارة الثقافة أو الحكومة المغربية لتصنيف منطقة طاطا أو منطقة الواحات كتراث محلي وعالمي وإعادة الاعتبار له بإعادة الاهتمام به وتوفير الميزانيات الخاصة بذلك. الصورة: وصال الشيخ
ارتفاع الدعوات بمطالبة وزارة الثقافة أو الحكومة المغربية لتصنيف منطقة طاطا أو منطقة الواحات كتراث محلي وعالمي وإعادة الاعتبار له بإعادة الاهتمام به وتوفير الميزانيات الخاصة بذلك. الصورة: وصال الشيخ

ويشعّ دور القرية من الامتداد الجغرافي الهامّ لطاطا، الذي يصل حضارات جنوب إفريقيا بشمالها، وتجلّى دورها في التقاء القوافل التجارية عن طريق "الجلد" التي تصل تامدولت وأقّا بالصويرة، وطريق تصل بـ"الريصاني" جنوب شرق المغرب، وسُميّ هذا الخط التجاريّ بـ"باني"، ونتيجة حركة القوافل، استقرّ الناس وأصحاب الشأن الديني بطاطا والنواحي قبل تأسيس الزوايا.


وانتشرت الزوايا بالمنطقة إلى جانب "نايت الحساين" ومنها زاوية بني يعقوب، زاوية "مغينيما" زاوية "مرّيف"، زاوية "سيدي عبد الله مبارك" وهو أحد المساعدين على تأسيس الدولة السعدية في المنطقة الجنوبية، كذلك زاوية محمد التمنارتي، مبنية على الأصول العلمية الدينية.


يقول المحمدي: "اشتهرت الزوايا كونها بيوتاً للتعايش، يأتي إليها طلاب العلم وأصحاب الكفاف والمسافرين عابري السبيل والفقراء، وتوفر لهم جو التعليم بحيث تأسست المدرسة العتيقة في الزاوية تخرج منها الفقهاء عُرفوا بمنطقة سوس، كذلك وفرّت الطعام من نظام العُشر في محاصيلها الزراعية، كما أتاحت الزاوية تنفساً للـ"البسط"، ولم تعارض غناء "الأحواش"، الذي خرج من ساحات قريبة منها القائم على ذكر الله ومدح الرسول، وخُصص لها موسماً دينيا سنوياً، وساعدت على محو العنصرية على أساس اللون بالمنطقة، حيث يكثر فيها السكانّ ذوو البشرة السوداء بحكم موجات الهجرة التي شهدتها المنطقة، كمّا وفرّت مساحات لتعليم النساء أمور الفقه والشريعة الإسلامية، ويوجد حالياً في المدرسة العتيقة التابعة للزاوية 140 طالباً من المنطقة توّفر لهم المبيت والطعام والعلم.
 

"لِكسور" في الواحات
 

يختلف السكن بالواحات عن السكن بالجبال المحيطة بها كما يقول الباحث الأنثروبولوجي إبراهيم أوبّلّا، ويوضح: "ينتمي السكن الجبلي للتجمعات الجبلية التي تبنى على سفوح الجبال وملاصقة لبعضها بهندسة ذات مقومات معينة، وتوجد القرى الجبلية في جميع مناطق الأطلس الكبير والصغير.

أما في الواحات يوجد ما يسمى بالقصور "لِكسور" وأشار إليها الفرنسي دو فوكو في كتابه "التعرف على المغرب" حينما تجول بالمنطقة في القرن التاسع عشر، ويتميز القصر بأنه قرية أسسها أهل المنطقة لتواجه الظروف المناخية، فهي قرية أزقتها مغطاة ومسوّرة وداخل السور المساكن والمسجد وإسطبلات، وتوجد لكل قصر (قرية) أربعة أبواب، الدار بالقصر تُسمى بـ"تادواريت" هي بناء مربع الشكل يمتاز بالطبقة السفلى وثانية وبعض أصناف يوجد بها طبقة رابعة وتغطى وقاية من الشمس.

وبنيت جميع القرى بطريقة واحدة، أي بالطمى والحجارة الجيرية المعروفة بـ"أفزق"، واشتهرت قبيلة "آيت بو يحيى" الأمازيغية ببناء هذه القصور وحتى القصبات مثل "إيالة الكَلاوي" لدرجة عرفت "التادواريت" بين الأهالي بـ"بويحيات" نسبة لعراقة القبيلة في هذا الفنّ.



وصال الشيخ- طاطا- المغرب

حقوق النشر: قنطرة 2017