الثورة السورية حية

في سوريا لم تبدأ قبل 5 أعوام حرب أهلية بل ثورة ضد الدكتاتورية. بعد خمسة أعوام من الحرب والعنف والمعاناة غير المنتهية يرسل مجتمع سوريا المدني رسالة واضحة إلى جنيف: "نحن مستمرون إلى أن يرحل الأسد". ولكن مع ذلك فإن بشار الأسد لا يفكر بالتنازل عن السلطة، ويدّعي أنه يعتمد في حكمه على الشعب السوري بالذات، مثلما تبيِّن الخبيرة الألمانية في الشؤون السورية كريستين هيلبيرغ في تحليلها التالي لموقع قنطرة.

الكاتب، الكاتبة : Kristin Helberg

الأخبار الواردة في هذه الأيَّام (مارس/ آذار 2016) حول سوريا تبدو واعدة بالأمل: إذ إنَّ روسيا تسحب معظم قوَّاتها، وفي سوريا انخفض عدد القنابل، وفي جنيف تسير المفاوضات، بالإضافة إلى أنَّ الثورة مستمرة. الثورة؟ نعم هذا صحيح. فقبل خمسة أعوام لم تبدأ في سوريا حربٌ أهليةٌ، بل ثورة السوريين ضدَّ الدكتاتورية، حيث انتشرت الاحتجاجات خلال أسابيع في جميع أنحاء البلاد.

بعد خمسة أعوام وسقوط أربعمائة وسبعين ألف قتيل - لا نزال نرى الصورة نفسها: أشخاص يتظاهرون سلميًا. وبمجرَّد أن يتعرَّض أهالي المناطق المعارضة لغارات وقنابل أقل ويتم تموينهم بشكل أفضل، يبدؤون من جديد برسم الملصقات وبرفع أعلام الثورة وكذلك بالغناء والرقص. في أكثر من مائة موقع، من بلدة داعل في الجنوب إلى بلدة عزاز في الشمال، تشهد سوريا احتجاجات منذ وقف إطلاق النار في نهاية شهر شباط/فبراير 2016.

"لا يمكن قتل الأفكار"

وحتى في ريف دمشق، في مناطق مثل دوما وجوبر والمعضمية وداريا، المحاصرة منذ أعوام، والتي تعرَّضت في شهر آب/أغسطس 2013 للقصف بالغازات السامة، والتي تمطر فوقها في الأيَّام العادية براميل متفجرَّة ويتم فيها كلَّ أسبوع قصف الأسواق والمستشفيات والمدارس، صار آلاف الأهالي يخرجون إلى الشوارع للتظاهر. نقرأ على يافطة: "الثورة فكرة، ولا يمكن قتل الأفكار". وعلى يافطة أخرى: "الأسد يمكن أن يكسر الهدنة، ولكن لا يمكنه كسر روح الثورة التي لا تقهر".

أمَّا المجتمع الدولي، الذي لا يرى في سوريا سوى الإرهاب وقنابل الأسد وكذلك "موجات اللاجئين"، فهو يفرك عينينه بدهشة. ففي الواقع إنَّ المقاومة المدنية لا تزال حية في سوريا. المواطنون العاديون - الذين يعتبرهم الأسد "إرهابيين موجَّهين من الخارج" - لا يزالوا يطالبون بإسقاط النظام. وهم لا يتظاهرون من أجل أهداف قريبة، مثل الحصول على الطعام أو تحقيق السلام السريع، بل يتظاهرون من من أجل رؤية سياسية - أي من أجل "سوريا ديمقراطية" و"الحرية للجميع".

احتجاجات في حلب ضد الأسد. Picture alliace
"الأسد يمكن أن يكسر الهدنة، ولكن لا يمكنه كسر روح الثورة" - في مدن مثل إدلب وحلب يستغل أنصار المعارضة السورية وقف إطلاق النار من أجل استئناف احتجاجاتهم المعارضة للحكومة من جديد.

ولهذا السبب فإنَّ التطوُّر الإيجابي في سوريا يتمثَّل في وحدة جميع معارضي الأسد. جميع قوى المعارضة - داخل سوريا وفي الخارج، أي المعارضون المعتدلون وكذلك الأصوليون، العلمانيون والإسلاميون، المتمرِّدون والناشطون - متَّفقون على أنَّ عملية الانتقال السياسي في سوريا لا يمكن أن تنجح إلاَّ بغياب الأسد وقيادته.

وعلى ذلك يترتَّب الخبر السار الوحيد بالنسبة إلى جنيف. فبما أنَّ هناك الآن اتًّصالاً بين السياسيين والمقاتلين، وبين الدبلوماسية والشارع، فإنَّ الجميع يجلسون بصورة مباشرة أو غير مباشرة حول طاولة من الطاولات العديدة في جنيف. ونتيجة لذلك فإنَّ المحادثات لم تعد تُعقَد مثل ذي قبل بشكل معزول تمامًا عن الواقع في سوريا، بل لقد صارت لها علاقة بوضع الأهالي ميدانيًا.

وهذا ما أظهرته مؤخرًا جولة المحادثات الأخيرة في مطلع شهر شباط/فبراير 2016. وطالما أنَّ المدنيين يتعرَّضون للقصف والتجويع من دون رحمة، فإنَّ المفاوضات لم تعد تتم مطلقًا. والآن فقط - بعد أن بات عدد القنابل التي تسقط  على الناس أقل وصار يصل إلى المُجَوَّعين المزيد من المساعدات الإنسانية، بات من الممكن أن يتعلق الأمر بالسياسة.

مفاوضات عديمة الجدوى

ومع ذلك فإنَّ الخبر السيئ يكمن في كون هذه المفاوضات تعتبر ميؤوسًا منها تقريبًا. وذلك لأنَّ على الجانب الآخر تجلس حكومة لا ترى أي سبب للتفاوض. وهذه الحكومة ترفض أيّ تدخُّل من الخارج (حتى على أساس قرارات الأمم المتَّحدة) وتدَّعي باستمرار أنَّها تعتمد على "الشعب السوري"، بيد أنَّها مع ذلك تنكر أنَّ هناك جزءًا من هذا الشعب متمرِّدًا يِنْزَعِج منه النظام، علاوة على أنَّها تقوم بتشريد الأهالي وتدمير البلاد.

أعلنت دمشق عن أنَّها تريد التفاوض فقط مع السوريين الموالين، وهذا يعني مع الأشخاص الذين يعترفون بسلطة الأسد "الشرعية" (التي ورثها عن والده). ومن أجل ذلك لا يحتاج المرء في الواقع للسفر إلى جنيف، وذلك لأنَّ الدمى موجودة على الأرجح في دمشق.

وهنا يجب عدم الخلط بينهم وبين المعارضة الداخلية المقبولة من قبل النظام، والممثَّلة كعضو في لجنة المفاوضات العليا HNC في جنيف، التي دعت مؤخرًا إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية المقرَّر إجراؤها في شهر نيسان/أبريل القادم. ولا حتى بينها وبين حزب الاتِّحاد الديمقراطي السوري PYD الموالي لحزب العمال الكردستاني، والذي من المفترض أن يشارك في مفاوضات جنيف بصفته أقوى ممثِّل للأكراد السوريين حاليًا - وحتى على الرغم من معارضة أنقرة لمشاركته.

ستافان دي ميستورا. dpa
محاولة يائسة؟ - ترى كريستين هيلبيرغ أنَّ "فكرة المبعوث الأممي الخاص بسوريا ستافان دي ميستورا الداعية إلى استبعاد موضوع الأسد والبحث أولاً على جانب الحكومة والمعارضة عن أشخاص مناسبين لحكومة انتقالية، تبدو فكرة مستحيلة التطبيق تقريبًا.

ولذلك ففي المحادثات حول التحوُّل السياسي يتواجه مركزان متناقضان. الأسد يسعى إلى إيجاد حكومة وحدة وطنية تحت قيادته، يدمج فيها بعض النقادين المُرَوَّضين. ولجنة المفاوضات العليا تطالب بحكومة انتقالية ذات سلطة تنفيذية كاملة من دون الأسد وأتباعه. ولذلك فإنَّ فكرة المبعوث الأممي الخاص بسوريا ستافان دي ميستورا الداعية إلى استبعاد موضوع الأسد والبحث أولاً على جانب الحكومة والمعارضة عن أشخاص مناسبين لحكومة انتقالية، تبدو فكرة مستحيلة التطبيق تقريبًا.

ولكن ماذا سيحدث إذا فشلت المحادثات في جنيف؟ وهل ستتوقَّف عندئذ الهدنة؟ في هذا الصدد يجب علينا أن نعرف لماذا وإلى أي مدى تلتزم بهذه الهدنة حتى الآن الأطراف المشاركة. الأسد بات يشن غارات أقل من السابق، لأنَّ روسيا تطالب بذلك. إذ إنَّ موسكو تريد أن تبيِّن أنَّ لديها تأثير في دمشق ومصلحة في التوصُّل إلى حلّ عن طريق المفاوضات.

وكلاهما لم يعد يقصف ويقذف القنابل إلاَّ بقدر ما يعتبر ذلك "محتملاً" بالنسبة للمجتمع الدولي. والأسد وبوتين يقصفان مناطق منها على سبيل المثال مدينة تلبيسة في محافظة حمص ومنطقة المرج شرق دمشق، حيث لا يوجد حضور لا لجبهة النصرة ولا لتنظيم "الدولة الإسلامية". ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ أفراد المعارضة المسلحة يلتزمون هناك أيضًا بالهدنة بشكل مثير للدهشة. فمن الواضح أنَّ الثمن الذي يمكن أن يدفعوه نتيجة الانتقام يبدو لهم مرتفعًا للغاية: هجمات واسعة النطاق بالقنابل والبراميل المتفجِّرة.

وفي حالة الانتقام سوف يكونوا من وجهة نظر الأهالي هم المسؤولين عن تجدُّد الموت الجماعي، ولذلك فإنَّ الإسلاميين أيضًا مثل جماعة جيش الإسلام وجماعة أحرار الشام لم يسمحوا حتى الآن للقنابل الفردية بأن تستفزَّهم. كما أنَّ انسحاب روسيا الجزئي يمكن أن يُحفِّز جميع الأطراف المشاركة على المزيد من ضبط النفس.

استراتيجية بوتين للخروج من سوريا

تكمن خلف قرار بوتين - خاصة في هذا الوقت - رؤية وإرادة. إذ يبدو أنَّ زعيم الكرملين قد فهم أنَّ مشاركته في سوريا ستكون على المدى الطويل باهظة التكاليف (فبحسب خبراء روس تبلغ مليوني ونصف المليون دولار في اليوم) وستنتهي نهاية سيئة. وبدلاً من مساعدته الأسد -المسنود بإيران وحزب الله والميليشيات الشيعية الأخرى- على تحقيق النصر العسكري،  ليجعل حينئذ -كونه جزءًا من تحالف علوي وشيعي ومسيحي- الأغلبيةَ السنية تثور ضدَّه وتغرق في حرب كثيرة الخسائر، يراهن بوتين على حلّ سياسي في شكل استراتيجية خروج.

فلاديمير بوتين. Reuters
بوتين صانع الملوك - استخدم الرئيس الروسي هذه الورقة عسكريًا لصالح الأسد وساعده في تحويل موقفه إلى موقف تفاوضي قوي ورفع نفسه إلى مرتبة الوسيط القوي، وبهذا فقد حقَّق زعيم الكرملين في الوقت الراهن ما يكفي. والآن يكتفي بوتين في الحفاظ على القاعدة البحرية الروسية في طرطوس وإبقاء المطار العسكري في اللاذقية صالحًا للاستخدام.

استخدم بوتين هذه الورقة عسكريًا لصالح الأسد وساعده في تحويل موقفه إلى موقف تفاوضي قوي ورفع نفسه إلى مرتبة الوسيط القوي - وبهذا فقد حقَّق زعيم الكرملين في الوقت الراهن ما يكفي. والآن يكتفي بوتين في الحفاظ على القاعدة البحرية الروسية في طرطوس وإبقاء المطار العسكري في اللاذقية صالحًا للاستخدام.

هذه هي رؤية بوتين، وماذا عن إرادته؟ موسكو ستدعم الأسد إلى أن تصبح المصالح الروسية مضمونة أيضًا في أوضاع أخرى. وعندئذ يمكن لبوتين أن يساعد الرئيس السوري في الحصول على مخرج يحفظ ماء وجهه ويعرض نفسه كصانع سلام. من المؤكد: أنَّ أكبر قوة لدى الأسد -أي دعم روسيا وإيران- تمثِّل في الوقت نفسه أكبر نقاط ضعفه. وذلك لأنَّ الشروط التي تضعها كلا البلدين تقوِّض مركز سلطة الأسد.

تقوم إيران بتوسيع وجودها في سوريا على المستوى الديني والسياسي والعسكري والاجتماعي، وتثير بذلك الاستياء والمقاومة لدى رفاق الأسد السائرين معه منذ فترة طويلة، والذين يشعرون بتجريدهم وخيانتهم مقابل الحلفاء. وروسيا تسحب من النظام السوري رأس الحربة العسكرية في هذه اللحظة بالذات، التي يريد فيها ممثُّلوه الجلوس للتفاوض مع ستافان دي ميستورا وهم واثقون بالنصر.

فهل يستطيع الوسيط الأممي استغلال الوقت؟ ستافان دي ميستورا بحاجة إلى التعاون البنَّاء من قبل الجميع، ويجب كذلك أن يأخذ بعين الاعتبار إلى درجة معينة مصالح الدول المجاورة، وذلك لكي لا تحبط هذه الدول فيما بعد إتمام الصفقة.

ولكن بصرف النظر عما سيتَّفق عليه الأمريكيون والروس - سواء كان ذلك بقاء الأسد لشهرين أو ستة أشهر أو ثمانية عشر شهرًا - فإنَّ الكثيرين من السوريين لن يهدأ لهم بال إلى أن يرحل هذا الأخير. فمن دون إرادتهم لن يتمكَّن أي حلّ سياسي من تهدئة الأوضاع في سوريا. ولذلك يجب على المفاوضين في جنيف أن يردِّدوا في هذه الأيَّام هذا الهتاف: "الثورة متستمرة حتى يسقط النظام".

 

كريستين هيلبيرغ

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة ar.qantara.de 2016