الفنون المعاصرة جزء من ثقافة المقاومة السلمية الفلسطينية

شهدت مدينتا البيرة وغزة ومدن فلسطينية أخرى -في الربع الأخير من عام 2014- فعاليات الدورة الثانية من بينالي "قلنديا الدولي"، الذي أثبت أن الفن غير التقليدي ممكن في الأراضي الفلسطينية، على الرغم من كل الظروف السياسية المعاكسة والصراع العنيف مع إسرائيل. الصحفي بيبيه إغَر حضر الفعاليات في رام الله ويسلط عليها الضوء لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Pepe Egger

في البدء نشأ بينالي "قلنديا الدولي" في عام 2012 من اندماج خمس جمعيَّات ثقافية ومؤسَّسات وغاليريهات فلسطينية، صار عددها في هذه الأثناء ثلاث عشرة جمعية مُنظِّمة. بيد أنَّ هذا البينالي لا يزال "مهرجانًا مشتركًا" لا يوجد له قيِّم واحد أو أمين عام، بل يتم فيه تحديد التوجهات والموضوعات والترتيبات بصورة مشتركة.

وكذلك لا يزال بينالي "قلنديا الدولي" يستحق تعريف نفسه باعتباره جزءًا من "ثقافة المقاومة". وحتى أنَّ اسمه يشير إلى "حاجز قلنديا"، الذي يعتبر المعبر الأهم بين القدس ورام الله، وتُذكِّرنا طبيعته الجرداء والمخيفة بسطح قمر مكوَّن من كتل خرسانية وأنفاق من أسوار معدنية وأبراج حراسة، يتوسطها الجدار العازل الذي يبلغ ارتفاعه ستة أمتار. وبين كل ذلك وفيما حوله توجد أنقاض ومخلَّفات. ولكن في الوقت نفسه لقد كان اسم "قلنديا الدولي" يُطلق حتى عام 1967 على مطار القدس - أي على بوابة إلى العالم.

فهل يمكن للفنِّ أن يمثِّل من جديد مثل هذا الانفتاح، وكذلك أن يواجه الواقع المادي للصراع في الشرق الأوسط؟ ما من شكّ في أنَّ اختيار شكل البينالي يمكن أن يكون ذا حدَّين: بينالي له شكل قابل للتغيير ومنذ البداية طموح في أن يصبح مركز جذب فنِّي عالمي جديد - بعد البندقية وكاسل وريو دي جانيرو واسطنبول والآن فلسطين.

Plakat Qalandiya International vom 22.10.-15.11.2014; Quelle: Qalandiya International
بينالي مشترك وجزء من ثقافة المقاومة - في الدورة الثانية من بينالي "قلنديا الدولي"، التي انتهت في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، تم عرض أعمال لأكثر من مائة فنَّان فلسطيني ودولي في عشرات من المعارض، التي امتدَّت من رام الله إلى غزة والقدس وحيفا وبير زيت.

لا توجد عشوائية

يمكننا القول مسبقًا إنَّ الانزلاق إلى العشوائية الهِيبية العالمية لا يحدث في هذا الحدث الفنِّي. وفي الدورة الثانية من بينالي "قلنديا الدولي" -التي انتهت في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2014- تم عرض أعمال لأكثر من مائة فنَّان فلسطيني ودولي في عشرات من المعارض، التي امتدَّت من رام الله إلى غزة والقدس وحيفا وبير زيت.

وفي هذه المعارض كان كلّ شيء تقريبًا يستحق المشاهدة: من المعرض الذي أقامه "غاليري الحوش" في القدس وكرَّسه بكامله من أجل غزة، وكذلك الأعمال المشاركة في معرض "مسابقة الفنَّان الشاب" (يايا) لعام 2014 برعاية مؤسَّسة عبد المحسن القطَّان في رام الله، بالإضافة إلى عرض شامل للفنِّ الفلسطيني أقيم تحت عنوان "منام" برعاية "الجمعية الثقافية العربية" في حيفا، وحتى الأبحاث الانعكاسية الذاتية التي تم إجراؤها في أرشيفات بلدية رام الله وذكريات تذكِّر بالانتفاضة الأولى تم عرضها في معارض في غزة وكذلك في حدث فنِّي في رام الله.

رفض الصور العدائية والفنِّ الدعائي

ولحسن الحظ فقد غابت تمامًا عن هذا البينالي جميع أشكال الخطابة القوموية وكذلك الفنّ الدعائي المروِّج لمقولة "نحن ضدهم"، بل على العكس من ذلك: فعلى سبيل المثال إنَّ موكب "الانتفاضة" الذي عبر مدينة رام الله (نظَّمته رولا خوري) - ومثَّل فيه المشاهدون دور المتظاهرين في مسيرة احتجاج من الانتفاضة الأولى - لم يستحضر بطبيعة الحال الماضي من أجل الماضي بحدِّ ذاته، بل لقد حوَّله في الحال ضدَّ الحاضر الكئيب، ضدَّ القيادة السياسية الفلسطينية الضعيفة ومناوراتها الدبلوماسية غير المثمرة.

وفي المقابل ساخرة وكئيبة: مساهمة الفنَّانة ألاء يونس "متحف أدوات ترد الغياب" MoMRtA؛ وهذا المتحف يعالج غياب مئات الآلاف من الفلسطينيين عن الكويت. فبعد إعلان ياسر عرفات عن تأييده غزو صدام حسين للكويت، اضطر معظم الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في الكويت وكان يزيد عددهم عن أربعمائة ألف شخص إلى مغادرتها مجبرين أو من تلقاء أنفسهم.

تعالج القطع التي جهزتها ألاء يونس موضوع استحالة انتمائها الآن من جديد - سواء كان ذلك عبارة عن زي تقليدي كويتي مطرَّز بشكل فني، جاءت فتحة رأسه أصغر بكثير من أن يتمكن من ارتدائه شخص ما، أو قطعة صابون مصبوبة بشكل أنيق وقد طبعت عليها عبارة "Vergissmeinnicht" (لا تنسَني)، وهي أوَّل ما يختفي مباشرة أثناء الغسل.

الفنّ في زمن الحرب

وفي المقابل كانت الأعمال الفنِّية موجودة في ظلِّ الأحداث الأخيرة لدى "غاليري الحوش" في القدس. وفي الصيف عندما كانت القنابل تتساقط على غزة، وكانت الصواريخ تطير من غزة إلى إسرائيل - عندما كانت الحرب مستعرة وكان عدد القتلى في غزة يرتفع بشكل متواصل، كانت التحضيرات لهذا البينالي تجري لتوِّها على قدم وساق.

لقد شكَّل هذا السؤال تقريبًا بالنسبة لجميع القيِّمين تحديًا كبيرًا: كيف يجب للفنِّ أن يرد على ذلك؟ وضمن هذا السياق لم يكن الأمر يتعلَّق فقط بكيفية التعامل مع قلقهم وعجزهم الخاصين. يقول محمود أبو هشهش، وهو أحد القيِّمين على بينالي قلنديا الدولي: "كان يوجد العديد من المؤسَّسات التي كنا نتعاون معها في غزة، بيد أنَّها الآن ببساطة لم تعد موجودة: فقد تم تدميرها تمامًا، ولم تعد توجد بنايات ولا مكاتب ولا ملفات وسجلات ولا أية قطعة أثاث".

وبالنسبة ليزيد عناني، وهو مهندس معماري وقيِّم على معرض "خارج الأرشيف" في رام الله، كانت توجد من أجل بينالي "قلنديا الدولي" ثلاثة خيارات للرد على الحرب: "إما إلغاء البينالي أو تأجيله أو الاستمرار مثل ذي قبل ... والإلغاء كان يمكن أن يكون بمثابة استسلام. وبذلك كنا سنعترف بأنَّنا لا نستطيع من خلال عملنا القيام بأي شيء. أمَّا التأجيل فكان سيعني أنَّنا نتظاهر وكأنَّما الحياة الطبيعية من الممكن أن تسود بعد بضعة أشهر أو في العام القادم. لكن في غزة لا توجد حياة طبيعية، فهي لم تعد موجودة منذ عهد الاستعمار. وبالتالي لم يبقَ لنا سوى خيار الاستمرار - ولكن بحيث لا يبدو الفنّ غير سياسي أو ممتع، بل بحيث يظهر كجزء من ثقافة المقاومة"، مثلما يقول يزيد عناني.

ومن جانبها أخذت المديرة الفنِّية لمؤسَّسة حوش الفنّ الفلسطيني علياء ريان كلامه على محمل الجد، واعتذرت قبل ثلاثة أشهر فقط من بدء البينالي لهذا القيِّم الملتزم بالفعل في عمله ونظَّمت برنامجًا جديدًا مكرَّسًا بكامله من أجل غزة.

لا وجود للفنّ القلق

وهكذا تحقَّق ما كان متوقعًا، حيث تجنَّبت الأعمال المعروضة الخطابة القوموية وكذلك الفنّ القلق. وقدَّمت بدلاً عن ذلك أربعة أساليب مختلفة تمام الاختلاف لإمكانية الردّ من خلال الفنِّ على الحرب. وعلى سبيل المثال تشهد صور المصوِّر إدواردو سوتيراس السوداء والثقيلة على الدمار، وعلى انعكاسه في وجوه الأهالي التي من الممكن أن نقرأ فيها قصة كاملة من الدمار والخراب.

ومقابل صور الحرب المتشابهة دائمًا والملتقطة في غزة، أطلق الفنَّان محمد حرب سيلاً كبيرة من الصورة المختلفة - بانوراما واسعة المساحة مكوَّنة من آلاف اللقطات الصغيرة الحجم، يفقد فيها المشاهد نفسه. وعلى هذا النحو لم نشاهد غزة من قبل قطّ: هذه الدمى خلف واجهات العرض وذلك الطفل وشجر النخيل وذلك الظلّ وذلك السياج.

وفي المقابل لقد وجد الفنَّان محمد الحواجري الألوان الزاهية داخل لون الدمار وأنقاض المباني والغبار والحطام الرمادي الموحَّد، الذي خلفته الحرب الأخيرة. وبين كلِّ ذلك تومض رغبة البقاء على قيد الحياة في ألوان متعددة وزاهية، حيث تُشاهد هنا سجادة تم إنقاذها وهناك دمية ساطعة اللون كبقع لونية للبداية الجديدة.

 

 

بيبيه إغَر

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: قنطرة 2015

 

بيبيه إغَر صحفي حرّ ومحلل سياسي يعمل في برلين. نشأ في إيطاليا ودرس في كلّ من فيينا وباريس ودمشق وعاش فترة في القاهرة ولندن. يكتب بصورة خاصة حول السياسة والثقافة في منطقة الشرق الأوسط.