الغنوشي: كفاح من أجل الكرامة واحترام الحقوق والحريات الفردية

التحديات التي تعترض المجتمع التونسي بعد هجمات سوسة وباردو تكمن بالدرجة الأولى في مواجهة أولئك الذين يعارضون التطور الديمقراطي في البلاد، حسب ما يكتب المفكر التونسي الإسلامي راشد الغنوشي ورئيس حركة النهضة التونسية في مقاله التحليلي التالي الذي خص به موقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Rachid al-Ghannouchi

احتفلت الولايات المتحدة الأمريكيَّة في الرابع من تموز/يوليو 2015 كما جرى التقليد بذكرى نيل الحريَّة والاستقلال؛ كذلك في تونس شكَّل يوم الرابع من تموز/يوليو 2015 نقطة انعطافٍ على طريق التحوُّل نحو الحريَّة والديمقراطيَّة – لكن ليس بالمعنى الإيجابي، فردًا على التهديد الإرهابي المتزايد، وجد الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي نفسه في هذا اليوم مضطرًا لإعلان حالة الطوارئ في البلاد وإلى الحدِّ من بعض الحريات الشخصيَّة الهامة.

وتبيّن مجددًا بوضوح من خلال الاعتداء الأخير على منتجع سوسة، مدى وعورة طريق تونس نحو ديمقراطيَّةٍ راسخةٍ، فالهجوم الإرهابي الأكثر دمويَّة في تاريخ بلادنا حتى تاريخ كتابة هذا المقال سعى إلى تقويض ما بنيناه في السنوات القليلة التي تلت سقوط بن علي: مجتمع منفتح ذو نظام حكمٍ تعدديٍ ودستور ديمقراطي يكفل حقوقًا وحريِّاتٍ أساسيَّةً ثابتة.

صراع من أجل كسب الجيل الشاب

الصور الفظيعة للسياح المقتولين على الشاطئ أصابتنا جميعًا بالارتياع، إلا أنها عززت أيضًا لدى المواطنين التونسيين ولدى ممثليهم السياسيين الإرادة لمواجهة أولئك الذين يعترضون طريقنا نحو الديمقراطيَّة. هذا الصراع هو صراعٌ من أجل الحريَّة والكرامة، لكنه بالمقام الأول صراعٌ من أجل كسب الجيل القادم، ومن أجل كسب الجيل الشاب في تونس كما في ليبيا وسوريا وفي العالم العربي أجمع.

بيد أنَّ هذا الصراع يخاض أيضًا في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وفي كافة أنحاء أوروبا، فهنا أيضًا يكمن خطر انزلاق بعض الشباب نحو التطرف والتعصب. 

Einschusslöcher im Merhaba-Hotel in Sousse; Foto: Reuters/Z. Souissi
Spuren des Terrors: Seit den jüngsten Terroranschlägen steht Tunesien unter Schock. Nach dem Attentat von Sousse verlängerte die Regierung Anfang August den Ausnahmezustand um weitere zwei Monate. Ein Präsidentensprecher begründete dies damit, dass die Ursachen für die Ausrufung der Ausnahmezustands Anfang Juli unverändert weiterbestünden. Tunesien sei "im Krieg gegen den Terrorismus".

مقاتلون كثُر في تنظيم الدولة الإسلاميَّة أتوا من بلدي، لكن يوميًا نجد كثيرين من الجيل الشاب في أوروبا الغربيَّة ممن يتوجهون للقتال في سوريا. وطبيعة التحديات هي نفسها في الأساس، سواء كان ذلك على جزيرة جربة التونسيَّة أو في مدينة دينسلاكن الألمانيَّة؛ ولا يمكننا التغلُّب عليها إلا سوية مع شركائنا الأوروبيين.

عن أيِّ تحدياتٍ أتحدث هنا؟ قام الربيع العربي على أكتاف الشباب، فهم الذين خرجوا إلى الشوارع خلال الثورة وطالبوا بنهاية النظام القديم، ولا بد من أنْ يشارك هؤلاء الشابات والشبان تحديدًا في بناء تونس الجديدة على أسس الديمقراطيَّة والحريَّة والعدالة الاجتماعيَّة.

الديمقراطيَّة والحريَّة باعتبارهما الأساس لمستقبلٍ أفضلَ

يجب علينا أن نبيِّن للجيل الشاب أنَّ الديمقراطيَّة والحريَّة سوف يكونا الأساس لمستقبلٍ أفضلَ، هذا يعني فرص عملٍ جيدةً، وحريَّة التعبير، ومؤسساتٍ حكوميَّةً تحترم حقوقهم، وكذلك نظام رعايةٍ اجتماعيَّةٍ يدعم تطورهم الشخصي، فقد انتشر الشعور بالتهميش الاجتماعي على خلفيَّة البطالة المزمنة وعدم المساواة الاجتماعيَّة والإقليميَّة. تنظيم الدولة الإسلاميَّة يستغل هذا الشعور ويستدرج الشباب بوعودٍ كاذبةٍ ورؤىً مروِّعة.

كيف يمكننا مواجهة هذا التهميش وضمان استفادة الشباب من الديمقراطيَّة في كافة أنحاء المنطقة؟ في المقام الأول، من خلال المشاركة والرخاء والأمن. بدأ العمل بعد الثورة في تونس مباشرةً على صياغة دستورٍ جديدٍ، وإصلاح المؤسسات، وتعديل القوانين القائمة. أساس هذا الدستور القوي يقوم على فصل السلطات، وسيادة دولة القانون، واحترام الحقوق والحريَّات الفرديَّة.

بناء هياكل فيدراليَّة، وتعزيز السلطات المحليَّة

مهمتنا الآن، جعل هذا الدستور الجديد ملحوظًا وملموسًا، ليس في وسط البلاد وحسب، بل بالذات أيضًا في المناطق الأخرى. تعمل الحكومة التونسيَّة على مشروع بعيد المدى لتحقيق اللامركزيَّة، يُرادُ من خلاله دفع بناء الهياكل الفيدراليَّة إلى الأمام وتعزيز السلطات المحليَّة.

ولا بدَّ للدولة التونسيَّة من التركيز على مشاركة واندماج جميع المناطق. لا نريد أنْ تبقى الديمقراطيَّة مفهومًا مجردًا ("فوق برجٍ عاجي"). يجب أنْ تكون الديمقراطيَّة محسوسةً، وأنْ تقدم لكلِّ فردٍ تونسيٍ نتائج وفوائد ملموسة.

Rachid al-Ghannouchi, Vorsitzender der Ennahdha-Partei; Foto: picture alliance/AA/Y. Gaidi
Rachid al-Ghannouchi: "Durch das jüngste Attentat von Sousse ist erneut deutlich geworden, wie steinig Tunesiens Weg zu einer gefestigten Demokratie noch immer ist. Denn mit dem bis dato blutigsten Terroranschlag in der Geschichte unseres Landes sollte das zerstört werden, was wir in den wenigen Jahren nach dem Sturz Ben Alis aufgebaut haben: eine offene Gesellschaft mit einem pluralistischen Regierungssystem"

من خلال تعزيز الهياكل الحكوميَّة المحليَّة سوف يتمكَّن عددٌ أكبرُ من التونسيين من التأثير مباشرةً على القرارات التي تعنيهم. بيد أنَّ المشاركة وحدها لن تحل المشكلة، بل ينبغي أنْ يرافقها نموٌ اقتصاديٌ يؤدي إلى الرخاء للجميع. تونس تسوِّق نفسها باعتبارها معجزةً اقتصاديَّةً منذ عقود، إلا أن معدلات النمو الجيدة حجبت الأنظار عن التوزيع غير العادل للثروة.

عبر بناء الهياكل الفيدراليَّة التي يُخطَّط لإنجازها في الانتخابات المحليَّة القادمة في سنة 2016، وتعزيز الإدارة الذاتية (اللامركزيَّة) المحليَّة، نتوقّع نشوء حوافز مهمة للنمو الاقتصادي. وهناك على وجه الخصوص أهميَّةٌ كبيرةٌ لتعزيز التنمية في الأرياف. وتعتبر ألمانيا بالنسبة لتونس نموذجًا هامًا في سياق بناء هذه الهياكل الفيدراليَّة فضلا عن نظام التعليم المهني المزدوج.

نعم للتسامح لكنْ بحدود

غير أنَّ كلَّ هذه الجهود والمشاريع سوف تبقى تـُعاني من هجمات تنظيم "الدولة الإسلاميَّة" ومناصريه المستمرة، وعليه يتخذ تحسين الوضع الأمني العام مكانةً في غاية الأهميَّة. تؤيد الحكومة التونسيَّة – وليس آخرًا حركة النهضة الذي أقودها – التسامح والتعاون بين مختلف المجموعات السياسيَّة في تونس.

بيد أنَّ لهذا التسامح حدودًا واضحةً، فمن يتحرك خارج نطاق دستورنا، ويدعو للكراهية، ويسيء استخدام الدين لأغراضه السياسيَّة، ويحاول فرض أفكاره بالعنف، فلا بدَّ له من أنْ يتوقَّع ملاحقته ومحاسبته بحزمٍ وشدّة.

لذا قررت الحكومة بعد الهجوم الأخير تكثيف جهودها من أجل إصلاح قانون مكافحة الإرهاب، وذلك لضمان حصول مؤسسات الدولة على الوسائل الضروريَّة التي تمكِّنها من التصدّي الحاسم لتنظيم الدولة الإسلاميَّة ومنعه من تجنيد المزيد من الشباب وتحريضهم على ممارسة العنف.

ينبغي لنا أنْ نستخلص دروسًا مؤلمةً من الهجمات الأخيرة في باردو وسوسة: لا بدَّ من تحسين التنسيق بين الجيش وقوات الأمن التابعة لوزارة الداخليَّة على نحوٍ واسعٍ، كما أنه لا غنىً عن إصلاح قوات الأمن وعلى وجه الخصوص إدخال منهجيات جديدةٍ على التدريب وعمل الشرطة على أرض الواقع.

Tunesische Sicherheitskräfte am Anschlagsort in Sousse, Foto: Getty Images/AFP/Fethi Belaid
Schwaches Militär, fragiler Sicherheitsapparat: "Angesichts der neuen Herausforderungen braucht Tunesien jedoch auch in Zukunft Hilfestellung bei der Vorbereitung der Sicherheitskräfte auf ihre neuen Herausforderungen in einem demokratischen Umfeld", fordert Rachid al-Ghannouchi..

المساعدة الضروريَّة والتعاون في المجال الأمني

نحن بحاجة في هذا المجال أيضًا إلى مساعدة شركائنا الأوروبيين لنا: الحكومة الألمانيَّة قدمت في إطار شراكة التحوُّل بين ألمانيا وتونس مساعداتٍ في مجال التعليم المهني وتطوير جهاز الشرطة؛ ومع ذلك ونظرًا للتحديات الجديدة تحتاج تونس إلى المساعدة في إعداد قوات الأمن لمواجهة التحديات الجديدة في بيئةٍ ديمقراطيَّةٍ في المستقبل أيضًا. وأفضل طريقة لتحقيق ذلك تكون من خلال نقل المعرفة والاستثمار بين الدول الشريكة.

لكن لا يجوز لمكافحة الإرهاب أنْ تكون ذريعةً للعودة إلى نظام قمعي سلطوي. ولا ينبغي أنْ تتراجع تونس وتصبح دولةً بوليسيَّةً مرة أخرى، فأيُّ تراجعٍ للحريات من شأنه أنْ يكون نصرًا كبيرًا للجماعات الإرهابيَّة؛ لذلك يجب أن تكون حالة الطوارئ إجراءً مقصورًا على فترةٍ محدودةٍ جدًا، ومن المهم إيجاد التوازن الصحيح بين حماية الحريَّات المنتزعة وأمن البلاد وأمن زوارها.

تونس بلدٌ صغيرةٌ على حافة أوروبا، ومع ذلك أثبتت للعالم أنَّه بوجود إرادةٍ موحدةٍ يمكن تحقيق ما يبدو مستحيلاً.

كانت الثورة التونسيَّة بالنسبة لنا بمثابة "سقوط جدار برلين"، ففي 14 كانون الثاني/يناير 2011 هُدم جدار الخوف في تونس. ولن نتخلى عن هذه الحريَّات المنتزعة بجهدٍ حثيث رغم كل التحديات. لذلك أود أن أختتم مقالتي بكلمات سياسيٍ ألمانيٍ: يا شعوب العالم، انظروا إلى تونس وأدركوا بأننا لن نستطيع حلَّ مشاكل العصر الكبرى إلا حين نحلها معًا!

 

راشد الغنوشي

ترجمة: يوسف حجازي

حقوق النشر: قنطرة 2015 ar.qantara.de