حملات تيئيس التونسيين من الديمقراطية

مواجهة محتدمة في تونس بين نقابات صحافية وجهات أمنية. وحملات تشويه طالت الصحافة الوطنية من قبل قنوات تلفزيونية خاصة، تغض الطرف عنها الحكومة. يلاحظها إسماعيل دبارة عضو هيئة مركز تونس لحرية الصحافة. وصمت للسلطات على التنصت على مكالمات الصحافيين، يرى فيها تكميما رسميا للأفواه وتبنيا لخيارات أمنية. لكنه يعيب على نقابات الصحافة عجزها عن حسم أمرها مع صحافيين بيضوا وجه الديكتاتورية.

الكاتبة ، الكاتب: إسماعيل دبارة

ينذر التصعيد الحاصل بين الجسم الصحافي في تونس والسلطة التنفيذية بأحداث قادحة جديدة قد تؤدي إلى رٍدّة تستهدف المربّع الأخير الذي مازال يذكّر التونسيين بثورتهم المتعثرة، ألا وهو مربّع التعبير الحرّ.

في الحقيقة، لم تتوقف المناوشات بين الصحافيين المطالبين بتقنين الحرية التي حصلوا عليها بعد الثورة، من أجل تثبيتها وضمانها دستوريا وقانونيا، والحكومات المتعاقبة بعد رحيل زين العابدين بن علي. ولكنّ خطّ التصعيد شهد منحى خطرا عندما احتدمت المواجهة مؤخرا بين نقابات الصحافة، والنقابات الأمنية شديدة السطوة والنفوذ والتي تكنّ عداء تاريخيا ومزمنا لحرية التعبير، ما دفع الصحافيين إلى اعلان "يوم الغضب" بداية فبراير / شباط 2018.

انتهاكات من كلّ صوب

يُحوصلُ الصحافيون في تونس أبرز التجاوزات التي استهدفتهم مؤخرا في الآتي:

أولا: تكرر الانتهاكات التي يتعرضون لها على الميدان، وهي انتهاكات تعدّ بالعشرات شهريا وبالمئات سنويا، بحسب مراجع موثوقة، وعددها الضخم ينفي عنها تماما تعلة "التجاوزات الفردية" وهو الردّ الوحيد للحكومة عليها، مع تنامي ظاهرة الإفلات من العقاب.

ثانيا، صمت وزارة الداخلية على اعتداءات أعوانها وتهديداتهم للصحافيين على أرض الواقع وعبر الفضاء الافتراضي الشاسع وغير المنضبط، وعدم التحرك في سبيل وضع حدّ لها، ويعتقد الصحافيون أن صمت السلطات على تحرّش أعوان الأمن بهم والتنصّت على مكالماتهم، يعتبر حماية لهم وتواطؤا معهم وتبنيًا للخيار الأمني وموقفا سياسيا واضحا لتكميم الأفواه.

صحف وجرائد ومجلات في أحد أكشاك تونس.
دقت نقابة الصحفيين التونسيين ناقوس الخطر بسبب تزايد وتيرة التضييق والقيود على الصحفيين، مشيرة إلى أن هذه الممارسات تهدد حرية التعبير والانتقال الديمقراطي في تونس. تظاهر العشرات من الصحفيين التونسيين يوم الجمعة (02 / 02 / 2018) أمام النقابة الوطنية التونسية للصحفيين بينما تجمع آخرون أمام مقرات المحافظات حاملين شارات حمراء تحت شعار "وقفة غضب" احتجاجاً على ما وصفوه بعمليات التضييق والانتهاكات التي تهدد حرية الصحافة.

ثالثا، حملات التشويه والتضليل التي طالت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين ونقابة الإعلام بالاتحاد العام التونسي للشغل من قبل قنوات تلفزيونية خاصة، يسيّرها من تحوم من حولهم شبهات فساد، وتغضّ الحكومة الطرف عنهم نظرا لتأثير القناتين الواسع على الرأي العام.

تقول نقابات الإعلام إنّ الحكومة تتحمل مسؤولية غضّ النظر عن ملفات الفساد داخل قطاع الإعلام ورسكلة الفاسدين لاستعمالهم ضمن أجندات سياسيّة ممّا جعل من بعض المؤسسات الإعلاميّة تتهرّب من كلّ التزاماتها المهنيّة والقانونيّة تجاه العاملين فيها، وسهّل عليها التحولّ إلى منابر لتضليل الرأي العام وإعلاء مصالح فئوية أو تجارية أو حزبية فوق المصلحة العامة في انتهاك لقواعد المهنة الصحفية وأخلاقيتاها.

رابعا، الوضعيات الاجتماعية الهشة للصحفيين وتواصل عمليات الطرد والعمل بالعقود المهينة وغير القانونية ما حوّل إعلاميي تونس إلى "الحلقة الأضعف" في العمليّة الإعلاميّة عبر تهميشهم وتفقيرهم، مما يشكل تهديدا جديا لحريّة الصحافة، إذ لا حرية وموضوعية واستقلالية مع الفقر والأجور الزهيدة.

خامسا: مشاريع القوانين الحكومية المتعلقة بحرية التعبير والصحافة والطباعة والنشر والاتصال السمعي البصري التي تتقدم بها، ويعتبرها الصحافيون خطرة للغاية وتلتف على طموحاتهم في سلطة رابعة قوية ومسؤولة، إذ أنها قوانين تضمر الهيمنة السياسية والمالية ومحاولات الرجوع إلى مربع الاستبداد، ولعل أبرز مثال على ذلك، مشاريع القوانين المتعلقة بـ"هيئة الاتصال السمعي البصري" ومشروع قانون "زجر الاعتداءات على القوات الحاملة للسلاح"، وكلاهما يقيّد عمل الصحافيين ويقر عقوبة السجن.

الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي
رئيس يتهم مراسلي الصحافة الأجنبية بعدم المهنية: يكتب إسماعيل دبارة أن "الرئيس الباجي قائد السبسي الذي لا يملك أي ثقافة ديمقراطية أو حقوقية نتيجة لعمله مع نظامين استبداديين (بورقيبة وبن علي)، معروف بعداءه الشديد للصحافة. فمنذ توليه رئاسة الحكومة في العام 2011، هاجم الصحافيين وشتمهم، وعندما ترشح ليكون رئيسا للبلاد عام 2014، عزز حضوره عبر صفحات التواصل الاجتماعي واليوتيوب، بالمقاطع التي يهين فيها الصحافة، وبلغ به التهجم والعدوانية حدّ شتم صحافي بكلمة نابية خلال مؤتمر صحافي. وفي احتجاجات يناير / كانون الثاني 2018، هاجم الرئيس مراسلي الصحافة الأجنبية واتهمهم بعدم المهنية، ما فهمه رجال الشرطة ضوءا أخضر، دفع بهم إلى قمع ومنع عدد من المراسلين التونسيين والأجانب من أداء عملهم".

السلطة التنفيذية تعادي الصحافة

رأسا السلطة التنفيذية في تونس (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة) قاما بما يلزم لإقناع جل الصحافيين بأنّهما لا يُضمران الاحترام للإعلام.

فالرئيس الباجي قائد السبسي الذي لا يملك أي ثقافة ديمقراطية أو حقوقية نتيجة لعمله مع نظامين استبداديين (بورقيبة وبن علي)، معروف بعداءه الشديد للصحافة.

فمنذ توليه رئاسة الحكومة في العام 2011، هاجم الصحافيين وشتمهم، وعندما ترشح ليكون رئيسا للبلاد عام 2014، عزز حضوره عبر صفحات التواصل الاجتماعي واليوتيوب، بالمقاطع التي يهين فيها الصحافة، وبلغ به التهجم والعدوانية حدّ شتم صحافي بكلمة نابية خلال مؤتمر صحافي. وفي احتجاجات يناير / كانون الثاني 2018، هاجم الرئيس مراسلي الصحافة الأجنبية واتهمهم بعدم المهنية، ما فهمه رجال الشرطة ضوءا أخضر، دفع بهم إلى قمع ومنع عدد من المراسلين التونسيين والأجانب من أداء عملهم.

أما رئيس الحكومة يوسف الشاهد، فقد بدأ عُهدته بإغضاب الصحافة وإصدار منشور إشكاليّ، تحت اسم "المنشور عدد 4".

في 17 من يناير / كانون الثاني 2017، دعا الشاهد كل الأعوان العموميين إلى الامتناع عن الإدلاء بأي تصريح أو مداخلة وعن نشر أو إفشاء معلومات آو وثائق رسمية، عن طريق الصحافة أو غيرها من وسائل الإعلام، حول مواضيع تهم وظيفتهم أو الهيكل العمومي الذي يعملون به، دون الإذن المسبق والصريح من رئيسهم المباشر! وكشف هذا المنشور طبيعة علاقة الشاهد مع الإعلام والتي لم تكن موفقة.

إحياء وكالة الاتصال الخارجي!

يُعاب على نقابات الصحافة في تونس، عدم قدرتها على الحسم في العشرات من الصحافيين الذي بيّضوا وجه ديكتاتورية بن علي، وشوّهوا لسنوات الجهود والنضالات من أجل إعلام حرّ، إذ ما زال هؤلاء ينخرون الجسم الصحفي إلى اليوم، ويتصدر بعضهم المشهد رغم أرشيفه الثقيل المحمّل بالعداء للصحافة والحريات العامة والخاصة.

ويبدو أنّ الصراع الدائر بين النقابات الآن وبعض الأبواق الدعائية الموصومة بالفساد، قد تكون مؤشرا على بداية "الثورة على الذات" داخل الأسرة الاعلامية التونسية التي تقترب شيئا فشيئا من فهم حقيقة أن ترتيب البيت الداخلي هو المدخل الحقيقي نحو خوض معركة الحريات مع السلطات المختلفة التي ستتضرر لزامًا من إرساء إعلام حر وديمقراطي ومسؤول، وستقف ضدّه خاصة في سياق انتقال ديمقراطي هشّ.

حملات إعلامية لتبييض الدكتاتورية وتيئيس الناس من الديمقراطية

فالحملات الإعلامية التي تشنّ لتبييض الدكتاتورية ورموزها، وتيئيس الناس من الديمقراطية، أو الانتصار إلى طرف حزبي على حساب آخر، أو تأليب الناس على مكتسبات مسار 17 ديسمبر / كانون الأول التحرري، انتهت مؤخرا إلى مطالب صريحة تنادي بإعادة إحياء هيكل دعائي تم حله نظريا، يحمل اسم (وكالة الاتصال الخارجي).

وطالب قياديون بحزب نداء تونس الحاكم، ارتبطوا مباشرة بوكالة الاتصال الخارجي، بإعادة إحياء هذه المؤسسة سيئة السمعة، والتي كان نظام بن علي يستعملها للجم الحريات، وإغداق المزايا والعطايا على الصحافيين التابعين له، سواء داخل تونس أو خارجها، وصرفت مبالغ طائلة من المال العام لأجل ذلك.

وصرحت الناطقة باسم رئاسة الجمهورية أيضا في اتجاه إحياء هيكل مشابه لهذه الوكالة التي تثير رعب المتابعين كونها صندوقا أسود غامضا يختزل داخله أساليب الديكتاتورية في التزييف والتلفيق، لكنّ النقابة الوطنية للصحفيين عبرت على الفور عن رفضها لعودة هذا الهيكل وأكدت أنها ستتصدى لأي مشروع لإحيائها تحت أي مسمّى جديدا.

أطلق النظام السابق "الوكالة التونسيّة للاتّصال الخارجي" بمقتضى قانون فضفاض عام 1990، عرّفها كمؤسسة عموميّة وتخضع لإشراف وزارة الثّقافة والإعلام حينئذ. أمّا مهمّتها فقد أوجزها القانون في "تعزيز الحضور الإعلامي لتونس بالخارج والتعريف بالسياسة الوطنيّة في جميع المجالات".

 

تضخّم نفوذ هذه المؤسسة ليشمل التحكّم في توزيع الإشهار العمومي على وسائل الإعلام الذي صار يسلَّم فقط إلى الموالين، وأحكمت قبضتها على الإعلام الأجنبي في تونس إضافة إلى استغلال موارد ماليّة هامة لتأجير مساحات إعلانيّة كبيرة للترويج لصورة النظام التونسي في الخارج واستمالة مؤسّسات وكتّاب وإعلاميين أجانب عن طريق العطايا والهبات السّخيّة في مقابل ممارسة شتّى أنواع التضييقات على المراسلين من أجل تطويع مضامين مراسلاتهم بما ينسجم ووجهة النظر الرسمية، كما تورط هذا الجهاز الدعائي في تأجير أقلام لهتك أعراض معارضين بارزين.

حرية التعبير في تونس تترنح تحت ضربات موجعة

قصارى القول، تترنح حرية التعبير في تونس تحت ضربات موجعة وقاسية تتلقاها من أكثر من جهة، خاصة مع توزع قوى النفوذ والهيمنة في تونس ما بعد بن علي، فالقضاء والأمن ورأس المال والإدارة، صارت جميعها لا تخفي كراهيتها لجرأة الصحافة وكشفها لملفات فساد وتقدمها في إنجاز دورها الرقابي.

لكن يظلّ الخطر الأبرز في تقديرنا، التساهل وعدم الحسم مع العناصر التي تعشش في الإعلام التونسي وتستغل السياق "التوافقي" للأكل على كل الموائد، ما جعل الأجواء تتعفّن خاصة مع ضعف مهنية الصحافيين وعدم فصلهم بين الرأي والخبر، وهو ما سهّل الطريق أمام اعتماد بارونات الفساد على تلك العناصر من أجل ضرب بيت الصحافيين الداخلي وإثارة البلبلة في صفوفهم.

 

 

إسماعيل دبارة

حقوق النشر: إسماعيل دبارة / موقع قنطرة 2018

 

ar.Qantara.de

 

إسماعيل دبارة صحافي تونسي وعضو الهيئة المديرة لمركز تونس لحرية الصحافة