هوية الاسلام الحقيقية تكمن في "مقاصده"

فهمي جدعان مفكر أردني من أصل فلسطيني حاصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون، يرفض العلمانية والإسلام السياسي بذات الوقت، ويحمل العرب مسؤولية تردي أوضاع المسلمين على مر العصور. الصورة: العربي الجديد.
فهمي جدعان مفكر أردني من أصل فلسطيني حاصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون، يرفض العلمانية والإسلام السياسي بذات الوقت، ويحمل العرب مسؤولية تردي أوضاع المسلمين على مر العصور. الصورة: العربي الجديد.

يرفض المفكر فهمي جدعان تحويل الإسلام إلى أيديولوجيا تغرق الدين في السياسي وتحول الرسالة السماوية إلى سلطة دنيوية هيمنية وإلى مكيافيلية سياسية غير أخلاقية". ويرى أن "هوية دين الإسلام الحقيقية تكمن في مقاصده، وأن تحقيق هذه المقاصد هو من وظيفة الدولة الإنسانية العادلة".

الكاتبة ، الكاتب: Alia Al-Rabeo

يرى بعضهم أن هناك اهتماما ملحوظا من قبل بعض الكتاب والمفكرين بما سمي إصلاح الدين. فهل هذا ما تعنيه أنت أيضا في كتابك "تحرير الإسلام"؟ وهل نحن بحاجة إلى إصلاح الدين أو مواجهة الأصوليات الدينية في المنطقة؟

فهمي جدعان: بكل تأكيد، أنا لم أقصد إلى "إصلاح الدين" في ذاته، من جهة ما ينصرف إلى مضمون النص الديني ومتعلقاته وغاياته، لأن مثل هذا القصد يعني أن في بنية النص خللاً ينبغي إصلاحه. وهذا ليس اعتقادي أبداً. ما أذهب إليه هو أن النص، الذي هو في "اللوح المحفوظ"، يعرض له في الواقع المتشخص في "المؤمنين"، البشر، اختلالات كثيرة صادرة عن التمثلات البشرية، الخاضعة لألف علة وعلة، لأن الإنسان كان أكثر شيء جدلاً.

وهذا يلقي بظلاله على فهم النص وتمثّله وتحققه في الواقع المعيش والمتصوّر. ودين الإسلام قد عرضت له عوارض واختلالات لا عدّ لها ولا حصر، وهذا هو الذي ينبغي مواجهته والتحرر منه.



لا شك في أن الاختلالات التي فجّرتها الأصوليات الدينية هي اليوم أبرز مظاهر المشهد، لكن ثمة اختلالات أخرى عميقة تمثل إساءات حقيقية لصورة الإسلام الكونية، قد وقفت عند بعضها في "تحرير الإسلام"، وهي مما ينبغي التشدد في نقده وإنكاره وفي إصلاح أمره، تماماً مثلما يجب ذلك في أمر الرؤية الإيديولوجية - السياسية الجذرية لدين الإسلام.

 تدعو إلى إيجاد حوار بين أطياف المجتمع للخروج بالأمة العربية إلى الحداثة، هل ترى فعلاً إمكانية حقيقية لمثل هذا الحوار في ظل الاستقطابات والانقسامات الحادة التي تشهدها المجتمعات العربية، طائفياً، وسياسياً وفكرياً؟

فهمي جدعان: كررت القول في مناسبات كثيرة، إنه حيثما ظهرت أمارات العدل فثمّ شرع الله، أي أن الدولة العادلة تستطيع أن تفي بمطالب الجميع. بالطبع ليس بالأمر اليسير أن يتخلى الوثوقيون (الدغمائيون) عن وثوقيتهم وتصلّبهم لأن "الهوى"، لا العقل والمصلحة، هو الذي يحكم عندهم ويوجّه.



لهذا السبب أنا أشارككِ الشك والقلق في أمر قبول الأجيال العربية الحالية - المتقدمة في العمر وفي الخبرات السياسية الصراعية البائسة - هذا النمط من الفكر والفعل، وأذهب إلى الاعتقاد بأن ذلك لن يتيسّر إلا في فضاءات الأجيال المقبلة، وذلك إذا ما تم تأصيل مبكر لتربية تقوم على ما أسماه يورغن هابرماس "الفعل التواصلي"، أي على النقاش الحر والحوار والتداول والانفتاح والاعتراف المتبادل.



 تُحمّل العرب في كتابك الحال المتردية التي وصل إليها الإسلام، فما هي بالضبط مسؤولية العرب في ذلك التردي، وأليس في ذلك مبالغة؟ خاصة إذا رأينا أن حال الإسلام متردّية في فضاءات غير عربية مثل الباكستان وأفغانستان وأفريقيا؟

فهمي جدعان: أنا عربيٌّ بكل جوارحي ووجداني وغائياتي. لكنني لست راضياً ولا مبتهجاً بـ "الفِعل التاريخي"، الذي أنجزه العرب، قديماً وحديثاً. وأنا أيضاً لا أرتاح أبداً للمسكونين بهَوَس "العقل العربي" الجاهز، الذي يُحَمّل كل مثالب الدنيا وجرائر الخليقة، لأن ما هو عند العرب موجود أيضاً وبأقدار أعظم في كثير من الحالات عند غيرهم. لا شك في أن "الأهواء " غلبت على أفعالهم، وأن انقلاب بني أمية على "عصر النبوة" كان بمقتضى "الهوى"، وكذلك كان انقلاب بني العباس على بني أمية. وهكذا إلى أيامنا هذه.



ولا شك في أن العقلانية التي أعلى من شأنها أبو بكر الرازي والكندي ومسكويه والمعري والسجستاني وابن رشد قد تم احتقارها وإقصاؤها، وأن العقلانية الأداتية الفاعلة لم تُعَمّر عند العرب طويلاً، وأن الغرب الحديث هو الذي تمثلها وفجّرها وغيّر العالم بها، وأن العرب لم يقربوها حتى اليوم، لكن لا شيء، بنيوياً، يدعو إلى اليأس، لأنني لا أقبل دعاوى الاستشراق العرقي، والجابري وثلة من دعاة "النظرية النقدية" المعاصرين الذين يتسولون عند موائد الفكر الغربي ويستوردون بضاعتهم ثم ما يلبثون أن يُلبسوا "العقل العربي" ثياب العجز والقصور.



أنا، على الرغم من كل شيء، لن أتخلى عن أملي وتفاؤلي، وعن الدفاع عن عقلانية نقدية تكاملية مشخّصة يتعانق فيها العقل المعرفي والعقل الوجداني، وتهتدي بمبادئ العدل والخير العام والحرية والكرامة الإنسانية والتقدم والفعل التواصلي. كل ما نحتاج إليه الدولة العادلة السديدة والمواطن الحر النزيه.

غلاف كتاب "تحرير الإسلام ورسائل زمن التحولات"
في كتابه "تحرير الإسلام ورسائل زمن التحولات" الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر؛ يحاول المفكر الأردني فهمي جدعان تقديم صيغة تصالحية بين القيم الدينية والقيم الإنسانية المعاصرة، وذلك عبر مواجهة ما يسميها "الصور الطاردة التي غيبت هدف الدين في أن يكون هديا للإنسان، ومثوى للأمم المقهورة، وقاعدة للسلم العادل في العالم، وللتواصل الإنساني الرحيم".



 

لكن، ومتابعة للسؤال السابق، تقول إن الإسلام العربي سيتحول إلى "إمبريالية ثقافية عربية" إذا ما بقي يستبعد المسلمين من غير العرب في عملية تُطلق عليها تحرير الإسلام، وفي الوقت نفسه، ترى أن المجتمعات الإسلامية غير العربية، غير قادرة على قيادة الإسلام بسبب عوائق عديدة تشرحها في كتابك، أليس هناك تناقض ما في هاتين الفكرتين؟



فهمي جدعان: يبدو لي أن ما جاء في كتابي حول هذه المسألة قد أسيء فهمه من أكثر من جهة. إن ما قصدت إليه هو القول إن مقاربة الفضاء القرآني والإسلام من باب "المدخل اللغوي" العربي يمكن أن يفضي إلى رؤية تمثّل عند غير العرب من المسلمين "إمبريالية ثقافية عربية" - وذلك ما عبّر عنه نفر منهم - وأن المدخل "المفهومي" هو الأحق بأن يتّبع.



ويترتب على ذلك أن الاحتجاج بالإعجاز اللغوي للقرآن وبقداسة اللغة العربية، وردّ كل ما يتعلق بالقرآن وبدين الإسلام إلى متعلقات اللغة العربية الخالصة وإلى المعطيات العربية، أي إلى "مرجعية عربية"، ستولّد عند المسلمين من غير العرب مشاعر "دونية"، أو تقديرات سالبة في قبالة العرب.



وينبغي أن يكون منا على بال هنا أن نظرية "الإعجاز اللغوي" هي نظرية خلافية، وأن ثمة نظريات أخرى تذهب مذاهب مختلفة في هذه المسألة. أما أن يكون خلاص الإسلام والمسلمين بأيدي غير العرب من المسلمين، فإنني لا أقول بهذا ضرورةً، والذي أراه هو أن حال هؤلاء لا تختلف كثيراً عن حال العرب، وهي في بعض المواطن أكثر سوءاً.لماذا يحتاج الإسلام إلى قيادة؟ ألا يقودنا ذلك إلى نوع من مركزية السلطة الدينية على غرار البابوية الكاثوليكية؟

فهمي جدعان: هذا فعلاً سؤال جوهري. الحقيقة هي أنني لم أقصد إلى اختراع سلطة كهنوتية، يقوم عليها مجمع من الكرادلة، مثلما هي عليه الحال في الكاثوليكية، على الرغم من أنني لا أقلل من شأن مثل هذا النظام. أنا أريد وضع حد لهذه الفوضى المزرية المسيئة في "الإفتاء"، وأنا أتطلع إلى" مؤسسة دينية" ذات مصداقية، جديرة بالثقة والاحترام، كفء في ضبط العقائد والاجتهادات الدينية، وفي صون الدين من أهواء الدعاة والوعاظ والمفتين ومنظري الحركات الدينية-السياسية، الذين يذهبون بالناس كل مذهب ويغرقون الدين بفتاواهم المنكرة.



ألا تلاحظين أن "الحرية" التي نريد لها أن تقترن بدين الإسلام وبالاجتهاد، قد أفضت، بسبب الانفلات في الإفتاء الفردي إلى "فضائح" مرعبة؟ ما معنى أن يدّعي أحدهم أن "بول النبي " وكل ما يخرج من بدنه طاهر؟ وما معنى الدفاع عن "رضاعة الكبير"؟ أو "نكاح الجهاد"؟ أو "نكاح الوداع"؟ وكذلك ما أتحفتنا به "اجتهادات" منظّري الجماعات الجهادية.



والأمثلة لا عدّ لها ولا حصر. لأن الباب مشرع، وكل من تخرّج من كليات الشريعة أو الدراسات الدينية بات يدّعي الاجتهاد والإفتاء ويعطي لنفسه الحق في التصرف في حياة المسلمين الروحية والعملية، ولا أحد يستطيع لجمه أو ردعه. أليست هذه طرقاً سالكة لتشويه الإسلام وتحقيره، مثلما هو حادث في هذه السنوات الأخيرة؟



أنا اريد ان أميز بين فِعل الإفتاء وبين حرية الرأي. هذه الأخيرة ينبغي ان تكون مصونة مهما صدر عنها من حماقات وسفاهات، أما الاجتهاد والإفتاء في الأمور الدينية فإنه ينبغي ان يكون منوطاً بمؤسسة جماعية، بمرجعية، ب "مَجْمع عقيدي" يقول كلمته ويكون له هو وحده الحق في "الإفتاء".



أما إرسال ذلك منفلتاً لأهواء الدعاة والعلماء الافراد فذلك ما أنكره وأرفضه.  الحريات الأساسية عندي مقدسة، ومنها حرية الرأي والاعتقاد والاجتهاد، لكن حرية الإفتاء للأفراد، من دعاة ومنظرين إيديولوجيين وأساتذة معاهد دينية ومدّعين للعلوم الدينية، فغير مقبولة قطعاً، لأنها تفضي الى اختلافات غير رحيمة، وإلى تصورات ورؤى ومواقف كارثية.



تقترح بعض الحلول لتغيير الصورة النمطية عن المسلمين في الغرب، لكن قد يجادل بعضهم بأنك تغفل بعض الشيء دور الغرب في التقارب الغربي الإسلامي، فهل ترى أن على العرب أن يلعبوا الدور الرئيسي الأكبر في الحوار الغربي الإسلامي؟ ولماذا؟



فهمي جدعان: أنا خبرت هذا المشكل عن كثب حين نيطت بي قبل سنوات، لفترة قصيرة من الزمن، مهمة إدارية في أحد معاهد البحث التي تُعنَى بالعلاقات بين الأديان. كانت المبادرات المسيحية أوسع وأكثر إقبالاً واهتماماً مما كانت عليه المبادرات الإسلامية. بالطبع، تشهد بعض الأقطار العربية - وبخاصة لبنان - وضعاً مختلفاً وتفاعلاً ثرياً في التواصل والحوار. والأمر طبيعي ومفهوم في هذه الحالة.



لكن ذلك فقير في الأقطار العربية الأخرى، وفي العالم الخارجي أيضاً. وتقضي التطورات الكونية اليوم، وبخاصة ما يتعلق منها بعلاقات الإسلام والغرب، المتوترة سياسياً وثقافياً، أن تشتد وتتعزز وتتعمق المبادرات الإسلامية في الفضاءات الغربية لتعديل الصورة السالبة التي أحدثتها الحركات والجماعات الدينية-السياسية المتصلبة في صورة الإسلام في المخيال الجمعي والفردي الغربي. هذا مطلب ضروري وعاجل، العرب والمسلمون هم المكلفون به، عقلاً وشرعاً.



قد يتبادر إلى الذهن أن أي حديث عن إصلاح أو تحرير الدين الإسلامي يستهدف "الإسلام السنّي" فقط في حين لا تُخاطَب المذاهب الإسلامية الأخرى، وخاصة "الإسلام الشيعي"؟



فهمي جدعان: هذه الملاحظة صحيحة ودقيقة في حدود العالم العربي المسكون في الأغلب من مواطنه، بالمعطى "السنّي". وفيما يتعلق بي شخصياً، أنا أضع نفسي مفكراً عربياً أولاً وآخراً، ولست أعْتَدُّ أبداً بأية نسبة أخرى، مثلما أنني لا أنسب نفسي لا إلى التسنن ولا إلى التشيّع. وفي أعمالي الفكرية والعلمية كان شاغلي الأكبر، وما يزال الفكر العربي والفعل العربي، ولم تدخل قضايا الإسلام والفكر الإسلامي فيها إلا من جهة تخصصي الأكاديمي المبكر المرتبط بالأطروحتين اللتين قدمتهما لجامعة (السوربون) للحصول على دكتوراه الدولة في الآداب: الرئيسة في الفلسفة الإسلامية، والفرعية في علم الكلام. وهذه القضايا تشخص في أعمالي بما هي "بعض" المكوّنات الأساسية للفكر العربي والمصير العربي.



ثم إن الذي يتابع أعمالي جيداً يدرك أنني أنعى على المسلمين جميعاً هذا الانشطار المذهبي الذي أحدثته الصراعات السياسية المبكرة، التي استمرت عميقة التأثير السلبي في حياتنا حتى اليوم، وغداً أيضاً. وأنا بصراحة كاملة أبغض الجدليات السنية -الشيعية التي أججتها في السنوات الأخيرة مماحكات بعض الدعاة المذهبيين من الطرفين، وعمقتها المسألة العراقية التي اخترعها التدخل الأميركي في العراق. وما أحلم به هو أن يتشكل في الفضاءات العربية والإسلامية توافق مذهبي يضع حدّاً لهذا الانشطار التاريخي البائس."الاسلام السياسي" بدعة ايديولوجية  

ترى بأن مفهوم "الاسلام السياسي" بدعة ايديولوجية وهو مفهوم اصطنعه الغرب لنا؟ بينما يرى الدكتور رضوان السيد بأن الإسلام السياسي، اسلام موجود ويتمحور في الحركات الاسلامية التي تفرق نفسها عن الاسلام الجهادي ولاتنتهج نهجه، لماذا ترفض تعريف الاسلام السياسي؟



فهمي جدعان: أنا لا أنكر ان في جملة المنظومة الدينية الاسلامية وجوهاً ذات علاقة بما هو سياسي، لأن كل ما هو مجتمعيّ -والاسلام دين مجتمعي-هو ذو متعلقات سياسية. ان الذي أنكره هو تحويل الاسلام الى إيديولوجيا تغرق الدين في السياسيّ وتحوّل الرسالة السماوية الى سلطة دنيائية هيمنية والى مكيافيلية سياسية غير اخلاقية، وتتمثل الفِعل الاسلامي في تشكيل حزبي سياسي قمعي إقصائي متزمت. نعم، هذا بدعة.



ما يتكلم عليه رضوان السيد هو، على وجه التدقيق، " المؤسسة الدينية" وتوابعها والجمعيات الدينية والخيرية والاجتماعية. التي تطلب خير المؤمنين وتنشد رعايتهم في حياتهم الروحية والتعبدية والمعاملاتية. هذا مذهب سديد، وهو شيء مختلف تماماً عن " الاسلام السياسي"، وهو لا يتطلب "دولة دينية" او "دينية-سياسية" على رأسها خليفة، وموجَّهة لمصارعة العالم وقيادته. يجب ان يستقر في عقولنا ان هوية دين الاسلام الحقيقية تكمن في " مقاصده"، وأن تحقيق هذه المقاصد هو من وظيفة " الدولة الإنسانية العادلة".

 

 

 الصحافية السورية علياء تركي الربيعو حازت على جائزة الأمم المتحدة لحوار الحضارات لأهم التقارير الثقافية عام 2010.
الصحافية السورية علياء تركي الربيعو حازت على جائزة الأمم المتحدة لحوار الحضارات لأهم التقارير الثقافية عام 2010.

بعد السجال الطويل الذي زاد عن قرن في الفكر العربي والاسلامي، ما هو الحل بين طروحات الدولة الدينية والدولة المدنية، واين نضع الدين، وهل لدينا اطروحة بديلة عن اطروحة الحداثة الغربية في الدولة والسياسة؟



فهمي جدعان: أُحَوْصِل رأيي في هذه المسألة على النحو التالي: دين الإسلام رسالة بنائية اخلاقية اجتماعية انسانية، تؤسس لقيم سامية ضامنة لخير الإنسان وسعادته "هنا..وهناك ".  قيمها "الدينية" تكمن في غائيات الدين ومقاصده النهائية، وهي موافقة للقيم العليا "الإنسانية"، التي يحددها العقل الإنساني المشترك البرهاني الصريح، خارج حدود الأهواء وظروف المكان والزمان النوعية. والدولة المقودة بمبادئ وبقيم العدالة والكرامة الإنسانية والحقوق الطبيعية والحريات الأساسية والنزاهة والخير العام، ضامنٌ لإنفاذ (بالفاء) القيم والمقاصد التي يطلبها الدين.



في كتابك" خارج السرب" أخذ عليك التركيز فقط على النسويات المسلمات في الغرب  ليمثلن "النسوية الإسلامية التأويلية" من دون ذكر جهود كثيرة قامت بها نسويات عربيات في هذاالمجال، ماعدا ذكرك لفاطمة المرنيسي. ما يثير الاهتمام أنه في كتابك تحرير الاسلام ذكرت مجددا المرنيسي وغفلت مجددا عن ذكر نسويات اخرى في الوطن العربي؟ ألا ترى بأن هناك جهد نسوي عربي في تقديم قراءة نسوية نأويلية للقرآن واجب ذكره والحديث عنه؟

 

فهمي جدعان: في كتابي "خارج السرب" انا لم اقصد الى التأريخ للحركة النسوية العربية؛ انا ذهبت الى “الاسلام المعولم" وما نبت فيه من نزعة نسوية احتجاجية على الاسلام وثقافته، استقت حججها وتسويغاتها من الافهام المتداولة في الفضاءات الاسلامية التقليدية، ومن القراءة الحرفية للنصوص الدينية، وهي القراءة التي سوّغت وعززت ما ذهبت اليه "النسويات الرافضات". وكان القصد ايضاً هو نقد هذه القراءة وفتح الباب لقراءات تأويلية جديرة بالزمن الراهن.



وتعزيزاً لهذه الغاية أفردت فصلاً ل"النسوية الاسلامية" الجديرة، في فضاءات الاسلام المعولم نفسه، بتقديم رؤية تقدمية، حداثية، لنزعة اسلامية نسوية مثلتها نسويات التأويل: أمينة ودود وأسماء برلاس ورفعت حسن على وجه الخصوص، وسقت فاطمة المرنيسي، مثلاً عربياً عارضاً.



لكن المنطق الذي يحكم اطروحة الكتاب لم يكن يتطلب الخوض في النسوية العربية، التي لا اشك في انها تستحق دراسة علمية خاصة. ويؤسفني انني لم انجح خلال السنوات الماضية في العثور على أحد من طلبتي في الدراسات العليا بالجامعة جديرٍ بمعالجة الموضوع في رسالة جامعية. أما أنا فلم تعد المسألة بالنسبة لي موضوع كشف خاص يغريني بالذهاب إليه.  

 

في نفس السياق وعودة الى كتابك المحنة، والذي قدمت من خلاله رؤية جديدة لفترة المحنة عبر اقصاء العامل الديني الى الخطوط الجانبية والنظر اليه بوصفه عامل غير مؤثر في حركية وفاعلية المحنة، برأيك ما الذي دعا بعض المؤرخين الغربيين في مدرسة الاسلام المبكر امثال مايكل كوك الذي وسم رؤيتك للمحنة في كتابه الامر بالمعروف و النهي عن المنكر بانها رؤية علمانية للحدث، و كذلك تلميذه نمرود هوريتز الى الآخذ بروايات الحنابلة و القول بأن سياسات الخلافة كانت خارج تطلعات الحنابلة وأن النزاع لم يكن بين الخليفة وبعض العلماء، بل كان على دور الدين في حماية المجال العام من السلطة السياسية؟



فهمي جدعان: أعتقد ان مايكل كوك لم يقرأ الكتاب جيداً، وأنه، كأضرابه جميعاً، مسكون بالقراءات الذرية وبإسقاط الأحكام التبسيطية الموجّهة المغرضة، "من الخارج"، ولا أشك في انه، في نسبته للكتاب الى رؤية علمانية، كان يَهْذِي! أما تلميذه سالف الذكر، فإنني أنصحه بارتداء "عِمامة حنبلية"!

 

أجرت الحوار  علياء تركي الربيعو

حقوق النشر: العربي الجديد 2017

موقع قنطرة ينشر المقال بالإتفاق مع الكاتبة.