القصر لا يريد أي شريك له في السلطة!

دخلت أطول أزمة سياسية يعيشها المغرب المعاصر شهرها الرابع. أحد أهم مظاهر هذه الأزمة هو عدم وجود حكومة في المغرب منذ انتخابات 7 أكتوبر / تشرين الأول 2016 التي أعطت تفوقا واضحا لحزب "العدالة والتنمية" على باقي الأحزاب، وهو ما كان يفترض عودة هذا الحزب إلى قيادة الحكومة مجددا لمدة خمس سنوات مقبلة. لكن قواعد اللعبة السياسية المغربية التي تفتقد إلى الشفافية والوضوح أدخلت البلاد في عمق أزمة سياسية، الصحفي المغربي علي أنوزلا يسلط الضوء على خلفياتها ورهانات الصراع الذي يغذيها في المقال الآتي.

الكاتبة ، الكاتب: Ali Anouzla

منذ إجراء الانتخابات التشريعية في المغرب في 7 أكتوبر 2016، والتي تصدرها حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، والمغرب يعيش على وتيرة أزمة سياسية غير مسبوقة في تاريخه المعاصر، حالت حتى الآن دون تشكيل الحكومة.

وحسب الدستور المغربي، فإن الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر للانتخابات، وبالفعل قام الملك يوم 10 أكتوبر الماضي بتعيين عبد الإله بنكيران، زعيم حزب "العدالة والتنمية"، ورئيس الحكومة المنتهية ولايتها، وكلفته بتشكيل حكومة جديدة. لكن، منذ ذلك التاريخ ومحاولات رئيس الحكومة المعين تراوح مكنها بعد أن فشلت كل محاولاته في بناء أغلبية تنبثق منها حكومته.

سبب هذا التعثر لا يعود إلى قدرات بنكيران التفاوضية ولا إلى صلابة مواقف مفاوضيه من الأحزاب الأخرى، وإنما إلى وجود لاعب ثالث خفي هو الذي يتحكم في قواعد اللعبة من الخلف، إنه القصر الملكي. فبإيعاز من القصر الملكي تم تعيين صديق للملك على رأس أحد الأحزاب الصغيرة مباشرة بعد ظهور نتائج الانتخابات، وبدعم من القصر أيضا نجح هذا "الزعيم" الطارئ على الساحة السياسية في بناء تحالف من أربعة أحزاب ليقود من خلاله المفاوضات مع رئيس الحكومة.

ورغم أن مجموع مقاعد هذا التحالف الرباعي لا يتجاوز 103 مقاعد داخل البرلمان، مقابل 126 مقعدا برلمانيا حصل عليها حزب "العدالة والتنمية"، إلا أنه أصبح هو الذي يدير المفاوضات من خلال محاولاته فرض شروطه على رئيس الحكومة المعين، طالبا منه كل مرة تقديم تنازلات، وهو ما استجاب له رئيس الحكومة المعين، الذي يدرك أن محاوره لا يتحرك من تلقاء نفسه وإنما بإيعاز من القصر الذي جاء به.

لكن مع كل تنازل يستجيب له رئيس الحكومة يأتيه مفاوضه بطلب تنازل جديد: في البداية اشترط عليه إبعاد أحد الأحزاب من التحالف الحكومي المقبل، وهو  ما تمت الاستجابة له ولو بعد حين وبعد ضغط كبير على رئيس الحكومة المعين، وبعد ذلك طٌلب منه التنازل عن حق حزبه في تقديم مرشح لقيادة "مجلس النواب" (الغرفة المهمة داخل البرلمان المغربي)، وفسح الطريق لانتخاب رئيس لهذه الغرفة من أحد الأحزاب الصغيرة عدديا، فقط لأنه شخص يحظى بثقة القصر، وهو ما تمت الاستجابة له أيضا.

وآخر طلب تنازل تم طرحه هو  إشراك حزب لا يريده رئيس الحكومة المعين ضمن تشكيلة حكومته المقبلة، وهو ما جعل المفاوضات تتعثر والأزمة تستمر، لأن رئيس الحكومة المعين يعي أن الهدف من وراء كل هذه المطالب هو إضعافه داخل الحكومة التي سيقودها  وأكثر من ذلك إفقاده مصداقيته داخل الشارع التي بدأت بالفعل بالتآكل مع كل تنازل يقدمه صاحبها.

هل يريد القصر إذلال زعيم حزب "العدالة والتنمية"؟

لكن السؤال الذي يطرحه اليوم الكثير من المراقبين، هو لماذا يسعى القصر إلى الضغط على رئيس حزب إسلامي يعرف أنه بإمكانه أن يلبي كل مطالبه بدون ضغوط، إذا لم يكن الهدف من وراء ذلك هو "الإهانة" و"الإذلال" لإفقاده كل مصداقية أمام الرأي العام؟

الجواب عن هذا السؤال يمكن أن نبحث عنه في تاريخ العلاقة بين القصر والأحزاب السياسية والنقابات العمالية منذ استقلال المغرب، وهو تاريخ من الصراعات المعلنة والخفية، بعضها اتخذ أحيانا طابعا مسلحا، رهانها الحقيقي هو الحفاظ على السلطة مركزة في يد القصر. فالقصر في المغرب لا يريد شريكا له في السلطة حتى لو كان هذا الشريك مواليا له أو من أولياء نعمته.

فإستراتيجية القصر قامت منذ استقلال المغرب على إضعاف الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، والقضاء على الحركات الاجتماعية في مهدها. وقد استعمل القصر عدة آليات في تنفيذ هذه الإستراتيجية، فعمد إلى تقسيم الأحزاب والنقابات، وزرع الانشقاقات داخل صفوفها، وشراء ولاءات زعمائها وقمع العناصر، التي لا تستجيب للإغراء ولا تقبل التنازل عن مبادئها. وبالمقابل خلق كيانات حزبية ونقابية موالية له لخلط الأوراق وحتى لا يٌترك الفراغ للطبيعة تفعل فيه ما تشاء.

هذه الإستراتيجية مازالت فعالة حتى اليوم ولذلك نجدها مازالت سارية المفعول. لكن يبدو أنها لم تنجح حتى الآن مع حزب "العدالة والتنمية". فهذا الحزب رغم كل المرونة التي يبديها والتنازلات التي يٌقدم عليها، فهو مازال غير قابل للاختراق، وبالتالي يصعب شق صفوفه، وهذه إحدى أهم نقاط قوته.

احتواء الإسلاميين حتى لا يستأثروا بالمعارضة

لقد كان حزب "العدالة والتنمية" إلى حد ما صنيعة القصر  لغرضين اثنين: احتواء الإسلاميين حتى لا يستأثروا بالمعارضة بعد أن أقنع الملك الراحل، الحسن الثاني، المعارضة السابقة المتمثلة في حزب "الاتحاد الاشتراكي" (يسار) الذي ظل يحتكر مقعد المعارضة لمدة أربعة عقود، بالمشاركة في الحكومة وقيادتها. كان ذلك عام 1998 وقبل ذلك بشهور أي في عام 1997 سمح لأول مرة لحركة "التوحيد والإصلاح" الإسلامية بالالتحاق بأحد الأحزاب المحسوبة على القصر للمشاركة في اللعبة السياسية، قبل أن تندمج الحركة والحزب ويؤسسان ما بات يعرف اليوم بحزب "العدالة والتنمية".

أما الهدف الثاني آنذاك فكان هو تقسيم صفوف الإسلاميين، الذين رغم تشتتهم كانت تجمعهم المعارضة بالنسبة للبعض منهم للنظام القائم، ورفض النظام التعامل مع الجزء الآخر منهم رغم استعدادهم لتقديم كل التنازلات من أجل الحصول على رضى السلطة. وفي كلتا الحالتين كان الطرفين يجدان أنفسهما على هامش اللعبة السياسية وهذا ما كان يخيف السلطة.

لكن الحزب الذي تأسس بمباركة ورضى من السلطة تحول اليوم إلى شوكة في خصرها لا تستطيع التخلص منه ولم تنجح في شق صفوفه لإضعافه من الداخل. وهذا هو أحد رهانات هذا الصراع الخفي القائم اليوم بين القصر وحزب "العدالة والتنمية". فهدف القصر غير المٌعلن عنه هو إضعاف حزب "العدالة والتنمية" لأنه لا يريد أحزابا سياسية مستقلة وبالأحرى أن تكون قوية ولها شعبية وشرعية ديمقراطية كما هو حال "العدالة والتنمية"، حتى لو أدانت له هذه الأحزاب بالولاء وقدمت له كل ما يطلبه من تنازلات.

فهذا الحزب رغم مرونته وبراغماتية قادته إلا أنه يخيف السلطة فقد نجح إلى حد ما في هزم النظام الانتخابي الذي تتحكم من خلاله السلطة في صنع الخارطة السياسية. وهذا النظام هو واحد من أهم مفاتيح التحكم في الخريطة السياسية في المغرب التي ظلت السلطة تحتكر  صناعتها طيلة العقود الأربعة الماضية.

ويقوم هذا النظام على ثلاثة آليات أساسية تعطي للسلطة إمكانية التحكم القبلي في نتائج الانتخابات، وهي نمط الاقتراع والتقطيع الانتخابي ولوائح الناخبين. وكل هذه العمليات تشرف عليها وزارة الداخلية التي غالبا ما يرأسها وزراء غير منتخبين يعينهم الملك ولا سلطة لرئيس الحكومة عليهم.

والغريب في الأمر هو أن الأحزاب التي تنتقد هذا النظام وأغلبها كانت ضحيته، تطالب بتغييره عندما تكون في المعارضة لكنها تسكت عن انتقاداتها وتتخلى عن مطالبها عندما تشارك في الحكومة. وقد تكرر هذا مع حزب "الاتحاد الاشتراكي" ومع حزب "الاستقلال" وأخيرا مع حزب "العدالة والتنمية". فكل هذه الأحزاب لم تفعل أي شيء من أجل تغيير هذا النظام عندما كانت في الحكومة، ولم يسبق لأي منها أن شرح للمواطن والناخب المغربي لماذا عجز عن تغيير  النظام الانتخابي الذي تعود هذه الأحزاب إلى انتقاده عندما تقع مرة أخرى ضحيته وتجد نفسها خارج بيت السلطة كما هو الأمر اليوم مع حزبي "الاستقلال" و"الاتحاد الاشتراكي" اللذين انتقدا النظام الانتخابي بعد خسارتهما الكبيرتين في انتخابات 7 أكتوبر / تشرين الأول 2016.  فكلا الحزبين سبق أن قادا الحكومة على التوالي ما بين 1998 و2002 بالنسبة لـ "الاتحاد الاشتراكي"، وما بين 2007 و2011 بالنسبة لحزب "الاستقلال".

وبالرغم من بقاء هذا النظام كما هو عليه إلا أن حزب "العدالة والتنمية" الذي يعتبر أقل حزب ينتقده، نجح إلى حد ما في هزمه في انتخابات 7 أكتوبر/ تشرين الأول عندما حصل على أكثر من 31 في المائة من مقاعد البرلمان الحالي.

لم يتوقف النقاش السياسي في المغرب حول طقوس التعبير عن الولاء لملك المغرب. موضوع يثير الانقسام في الأوساط السياسية والحقوقية المغربية، بين من ينتقد طقوس الانحناء للملك، ومن يعتبرها تقاليد متجذرة في الثقافة المغربية.
كشفت الأزمة عن عدم وجود إرادة سياسية حقيقية لدى السلطة في المغرب ممثلة في القصر للتأسيس لنظام ديمقراطي شفاف تكون فيه صناديق الاقتراع هي المرجع والحكم في تمثيل إرادة الشعب

ويرى متابعون للشأن السياسي المغربي أنه في حالة الدعوة إلى انتخابات مبكرة إذا فشلت محاولات تشكيل الحكومة المقبلة، فإن حزب "العدالة والتنمية" بإمكانه الحصول على أكثر من 50 في المائة من مقاعد البرلمان، لأن الكثير من الناخبين سيتعاطفون معه باعتباره ضحية السلطة. وهذا السيناريو المخيف هو واحد من الأسباب الأخرى التي قد تطيل عمر الأزمة السياسية الحالية في حال ظل رئيس الحكومة المعين متشبث برفضه تقديم أية تنازلات أخرى لمفاوضيه من الأحزاب المدعومة من القصر.

لقد أتبث حزب "العدالة والتنمية" حتى الآن قدرة كبيرة على المناورة والمراوغة، وأكثر من ذلك برهن على أنه حزب مستقل في قراره، وهذا واحد من أهم نقاط قوته. لكنه حزب لا يعرف ما يصنعه باستقلاليته هذه. فهو ضد "التحكم" أي "الدولة العميقة" ولكنه في نفس الوقت يسعى إلى خطب ودها والتقرب منها. وهو يقاوم الضغط الذي يمارس عليه وفي نفس الوقت يقدم التنازلات التي تطلب منه.

لذلك يصعب اليوم الإجابة عن السؤال ماذا يعني أن تكون حزبا مستقلا في المغرب إذا كان أكبر حزب يدعي استقلال قراره عاجز عن استعمال هذه الاستقلالية في مواجهة خصمه الذي يريد أن ينتزعها منه. فالاستقلالية مثل الحرية تصان وتحصن بالممارسة.

القصر لا يريد أن يرى أحزابا مستقلة

وفي النهاية فإن عامل الزمن هو الذي سيحسم في مآل هذا الصراع الخفي بين القصر ومن يوصفون في الصحافة بأنهم "إسلاميو القصر"، فمن يصمد كثيرا هو من سينتصر أخيرا. فالقصر الذي لا يريد أن يرى أحزابا مستقلة تملك قرارها بيدها، يسعى بقدر الإمكان كسر شوكة مقاومة حزب "العدالة والتنمية" حتى لا يبدو كحزب مستقل خارج عن طاعة القصر ويعطي المثال والنموذج بذلك لأحزاب أخرى. ومن جهته يعتبر الحزب الإسلامي أن تفريطه في استقلاليته ستضر بمصداقيته وتؤثر على شعبيته لدى أنصاره والمتعاطفين معه.

لقد كشفت الأزمة السياسية الحالية التي يعرفها المغرب عن  ثلاثة معطيات أساسية تؤطر الحياة السياسية في المغرب:

المعطى الأول، هو أن القصر لا يريد أي شريك له في السلطة، كيفما كان انتماء هذا الشريك وشرعيته وحتى لو كان مواليا له ومستعدا لخدمته.

المعطى الثاني، يتمثل في غياب عامل الثقة بين القصر والإسلاميين، رغم مرور خمس سنوات على قيادة الإسلاميين للحكومة المنتهية ولايتها، وحتى لو كان هدف هؤلاء الإسلاميين هو فقط الحصول على رضا القصر ومباركته.

وأخيرا، كشفت الأزمة عن عدم وجود إرادة سياسية حقيقية لدى السلطة في المغرب ممثلة في القصر للتأسيس لنظام ديمقراطي شفاف تكون فيه صناديق الاقتراع هي المرجع والحكم في تمثيل إرادة الشعب.

 

 

علي أنوزلا

حقوق النشر: قنطرة 2017