الوجه الأنثوي للحرب والهروب والهجرة

في روايتها "خمسون غرامًا من الجنة" ترسم الكاتبة اللبنانية إيمان حميدان صورة متعددة الطبقات للآثار الفردية والجماعية التي خلفتها الحرب الأهلية اللبنانية. كلاوديا كراماتشيك تستعرض الرواية لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Claudia Kramatschek

في الثاني عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2015 أدَّى هجومٌ مزدوجٌ في وسط بيروت إلى قتل أربعين شخصًا على الأقل. وبعد يوم واحد من هذا الهجوم، توفي أكثر من مائة وثلاثين شخصًا في باريس على أيدي قتلة وحشيين.

وفي كلا الهجومين أعلن تنظيم "الدولة الإسلامية" مسؤوليته عن هذين العملين الإرهابيين. في تلك الأيَّام كانت الكاتبة إيمان حميدان المولودة في لبنان عام 1956 موجودة شخصيًا في باريس - تلك المدينة التي لجأت إليها في السابق هربًا من أحداث العنف خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وقد وجدت فيها وطنها الثاني.

وتلك الأحداث العنيفة بالذات، التي رافقت الحرب الأهلية اللبنانية وقد تركت أثرًا كبيرًا في الأجيال القادمة، تتصدَّر رواية المؤلفة إيمان حميدان: جميع رواياتها تتحدَّث حول صدمة الحرب، التي قسمت الوطن كله، وقسمت حتى العائلات.

كرَّست الكاتبة إيمان حميدان جميع رواياتها من أجل معالجة هذه الصدمة - في حين أنَّ المجتمع اللبناني ينفر حتى يومنا هذا من كسر الصمت المخيِّم على هذا الموضوع.

حقيبة نورا: مُخلـَّفات من زمن الحرب

Cover of Iman Humaydan's "Weight of Paradise" (published by Interlink Pub Group)
غلاف النسخة الإنكليزية لرواية إيمان حميدان "خمسون غرامًا من الجنة": تعرض لنا الكاتبة اللبنانية إيمان حميدان في روايتها الوجه الأنثوي للحرب وللهروب والهجرة، الذي ما زلنا من النادر جداً أن نراه حتى الآن. وليس هذا فقط ما يجعل قراءة رواية "خمسون غرامًا من الجنة" ملحة في وقتنا الراهن.

الصحفية السورية الشابة نورا واحدة من أبطال رواية إيمان حميدان الثلاثة - تعرف من خلال تجربتها الخاصة مدى خطورة كسر هذا الصمت. في سنة 1978 تبدأ أحداث هذه الرواية - وهي السنة التي تم فيها اغتيال نورا في بيروت على أيدي المخابرات السورية بتكليف من ذلك الضابط الذي جعل شقيقتها تحمل منه في البداية ثم دفعها إلى الانتحار.

ليس فقط بسبب هذا الانتحار هربت نورا إلى لبنان: فقد قرَّرت - خلافًا لرغبة ذلك الرجل وكذلك لرغبة أسرتها الخاصة - الكتابة حول مصير شقيقتها، الذي تشترك معها فيه الكثير من النساء الأخريات.

أدَّى تصميم نورا على قول الحقيقة بالتالي إلى هلاكها. في بيروت تركت وراءها طفلاً صغيرًا - وحقيبةً مليئةً بالرسائل والوثائق الشخصية. يبقى الطفل في رعاية صديقتها صباح - وهي امرأة كردية أتت هي نفسها في السابق كمهاجرة إلى لبنان.

ومن ناحية أخرى تقع الحقيبة بعد ستة عشر عامًا في يد الصحفية اللبنانية مايا، التي عادت للتو إلى بيروت بعد أعوام عديدة قضتها في باريس.

بيروت - مدينة تريد النسيان

تبدو بيروت في تلك الأعوام مدينة تعود إليها الحياة: حيث كان يتم تجديد أحياء بأكملها وإعادة بنائها. بيد أنَّ مايا، التي يمكن أن نتعرَّف فيها بسهولة على شخصية المؤلفة في السابق، تبقى مُتشكِّكة تجاه ذلك: تشعر بأنَّ البريق الصاخب لهذا التجديد مجرَّد محاولة محمومة من أجل تغطية الجروح القديمة غير الملتئمة.

وهي بالذات تبحث وتتحرى من أجل إعداد فيلم، تريد فيه أن توثِّق حياة سكَّان المدينة السابقين. وهكذا تعثر في واحدة من أطلال المباني التي دمَّرتها الحرب على حقيبة نورا المغطاة بالغبار. يستحوذ ذلك على اهتمامها - وتبدأ التحرِّي والبحث عن آثار الماضي.

يتحوَّل البحث عن الآثار إلى رحلة عبر الزمان والمكان، تصوِّر أثناءها المؤلفة إيمان حميدان من خلال المصائر الفردية الثلاثة لكلّ من مايا ونورا وصباح الخرابَ النفسي والاجتماعي الذي حلّ ليس فقط بالأمة، بل بالمنطقة كلها.

بناء هوية وطنية على دماء المحرومين والمظلومين

مذكرات نورا على سبيل المثال تعيد القارئ إلى الزمن الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية في بيروت، والذي بدأ فيه العنف الطائفي الذي انتشرت عواقبه مثل النار في الهشيم خارج حدود لبنان. والرسائل من ناحية أخرى، التي تلقَّتها نورا من الصحفي الكردي-التركي كمال من إسطنبول في الفترة بين عامي 1975 و1978 - وهو عشيقها وأبو طفلها، تعكس الثمن الذي تدفعه كلُّ أمة عندما تبني هويَّتها الخاصة على دماء المحرومين والمظلومين.

ودائمًا تتم مواجهة العنف بالصمت. وحتى صباح، صديقة نورا، تحاول لفترة طويلة أن تنسى ما حدث في معمعة الحرب - وما فعلته شخصيًا من أجل البقاء على قيد الحياة. وزيارة مايا تواجهها بالماضي - وبذنبها الخاص.

علاقات وروابط خفية

ومع ذلك فإنَّ إيمان حميدان لا تهتم بتوجيه الاتِّهامات في أي موضع من روايتها. بل تقوم برسم علاقات وروابط خفية: بين الناس والأمم. ولذلك فإنَّ إيمان حميدان لا تُحدِّد روايتها فقط بين سوريا ولبنان وتركيا، بل تضع، بالإضافة إلى ذلك، شخصيات تتناقض مع فكرة الهوية المتجانسة: حيث نجد على سبيل المثال اليهودي إسماعيل الذي يخفي حقيبة نورا - إلى أن يتم طرده هو بالذات من المدينة. وكذلك نجد نصَّار، وهو صانع أحذية جذوره أرمنية، يضطر دائمًا إلى إنكارها.

جميع شخصيات الرواية يشتركون كثيرًا أو قليلاً مع بعضهم في كونهم مهاجرين: أشخاصٌ اضطروا إلى الفرار وأضاعوا بهذه الطريقة ​​كلَّ شيء. ولكن مع ذلك فبإمكانهم أن يجدوا أناسًا يشبهونهم في التفكير - ويعرفوا أنَّ هناك رابطًا يتجاوز حدود الوطن والأصل.

الوجه الأنثوي للحرب والهجرة

تشدِّد إيمان حميدان بالذات على العامل الذي يربط بين الناس - وليس الذي يفرِّقهم. وهنا يجد القارئ نفسه على استعداد لأن يغفر اقتراب رواية "خمسون غرامًا من الجنة" بشكل خطير في النهاية من مياه العاطفة. لأنَّ هذه الرواية بحدِّ ذاتها جذَّابة.

تعرض إيمان حميدان - وهذا أحيانًا من خلال منمنمات صغيرة - الوجه الأنثوي للحرب، وللهروب والهجرة، الذي ما زلنا من النادر جداً أن نراه حتى الآن. وليس هذا فقط ما يجعل قراءة رواية "خمسون غرامًا من الجنة" ملحة في وقتنا الراهن.

 

 

كلاوديا كراماتشيك

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2017

ar.Qantara.de

 

إيمان حميدان: "خمسون غرامًا من الجنة"، رواية من لبنان ترجمتها عن العربية إلى الألمانية ريغينا قرشولي Regina Karachouli، صدرت عام 2016 عن دار نشر لينوس، تحت رقم الإيداع: ISBN 978 3 953 85 787 1