الكاتب الجزائري سعيد خطيبي يحرر اللغة من وطأة الذكورة

كتب سعيد خطيبي رواية "كتاب الخطايا" بلسان امرأة، ونجح في منح اللغة جسدها الأنثوي والتكلم بصوتها وهو ما جعل القارئ يتعرف، بلا وصاية، إلى واقع المرأة الجزائرية، بل وواقع الجزائر بكل ألوانه، بعين أنثى مولعة بتعرية تفاصيل معيشها الاجتماعي، بل وتتعذب بتلك التفاصيل التي تكشف عن حشد السلطة الذكورية لأعوانها الرمزيين والماديين لحماية قداسة أنظمتها السياسية والأمنية والثقافية والاجتماعية ولتعزيز سيطرتها على الجسد الأنثوي.

الكاتبة ، الكاتب: عبدالدائم السلامي

 

لا يملك قارئ رواية «كتاب الخطايا»، التي أصدرها الجزائري سعيد خطيبي (مواليد 1984) عن منشورات «آناب» -الجزائر، إلا أن يكون مؤمناً بقدرة الكتابة على هتك سياج العقليات الجماعية وفك أقفالها القيمية المهترئة، ومؤمناً بأن الإبداع سبيل الكائن إلى تجاوز تردده في نزع قداسات الواقع وتحرير جموح المتخيل، وبأن الخطيئة إنما هي تاريخ للإنسان يذكره دوماً بضعفه الآدمي أمام شهواته في قطف عناقيد الحب وأثمار الأجساد، وينبئه بلعنة انسحاق كينونته الفردية تحت أثقال كيان مجموعته الاجتماعية وما يحكم وعيها من تصورات عن عالم الظاهر وما يحاذيه من عوالم الباطن.

تتملك الرواية قارئها منذ عتبتها الأولى: عنوانها. وهو عنوان بدا مشدوداً إلى ماضينا وحاضرنا في آن، حتى لكأنه استدعاء لتاريخنا الذكوري أو هو نسيخة حديثة منه تشي بكون متخيلنا لم يبرح مكانه في رؤيته الخاصة للأنثى من زمن «وإذا الموؤودة سئلت» إلى زمن الإيرانية «ريحانة جباري». ولا يخفى في عنوان الرواية (كتاب الخطايا) نزوعه إلى الإنباء بدلالات عدة بعضها يتأتى عبر سبيل بنيته النحوية، ويتأتى بعضها الآخر عبر طبيعة سياقه الاجتماعي.

حفيدة الكاهنة

بطلة رواية سعيد خطيبي شابة جزائرية اسمها «كهينة»، وهو اسم محيل على اسم جدتها «ديهيا» أو «الكاهنة» الملكة الأمازيغية التي حكمت جزءاً كبيراً من بلاد المغرب وقتلها الأمويون في خلال حملة الفتح الإسلامي. نشأت هذه الشابة في أسرة تقطن «حي عين النعجة» في الجزائر العاصمة وتضم أربع بنات، تحكمهن أم غليظة الطباع بعد أن هاجر زوجها للعمل في فرنسا وعاد منها مكدوداً. وعلى إثر فشلها في نيل شهادة الثانوية العامة (البكالوريا) التحقت كهينة بمعهد تكنولوجي وتخرجت منه بشهادة تقني سام في الاتصالات.

لكن تنامي ظاهرة المحسوبية وارتفاع نسبة البطالة في الجزائر دفعاها إلى أن تقبل بوظيفة عاملة هاتف في شركة لاستيراد الأدوية مقابل راتب ضئيل بعد أن عملت في بيت الفرنسي «بيار» المولود في الجزائر والمقيم فيها وهي تزوره مرة في الأسبوع لترتب خزانة كتبه وتمسح عنها الغبار. وهو أمر جعلها تحس باللاجدوى، وتقول: «كنت أرى الزمن يسير، والناس يتقدمون كل يوم خطوة نحو أحلامهم وطموحاتهم، وأنا ما زلت رابضة في المكان نفسه». تتعرف كهينة كثيراً من الرجال منذ مراهقتها إلى حال بلوغها عمراً تهدده لعنة العنوسة على قولها: «بلغت نوفمبر الماضي الثلاثين، واحتفلت وحدي بعيد ميلادي، وتذكرت أنني أعيش من دون رجل». من هؤلاء الرجال الذين لم يمثلوا في حياتها سوى عناقيد غرامية مرة نذكر مجيد ومهدي والعسكري عامر وكمال زميلها أيام دراستها الثانوية، وهو «ثقيل الظل، أنثوي المزاج» كان قد أفقدها عذريتها «في محل قديم لبيع قطع غيار السيارات» بعد أن وعدها بحب لا يفنى و «زواج للأبد» ثم هجرها ليتزوج ببنت عمه.

ومنهم خطيبها سمير سائق سيارة الأجرة والقادم من الجنوب، حيث كانت علاقتها به «ليست أكثر من علاقة شكلية، تفتقد للأحاسيس» بسبب إيمانه بكون «الحب يأتي بعد الزواج»، إضافة إلى ما فيه من تناقض بين شكله وأفكاره، إذ تصفه البطلة بقولها: «رغم شكله الذي يوحي بأنه شاب معاصر، بشاربه الخفيف وعينيه الحادتين، نظاراته الشمسية ذات الماركة الإيطالية، وأحذيته الرياضية التي ينتقيها بعناية، فإنه يظل جد ملتزم بتعاليم الدين، ... ونادراً جداً ما يحدثني عن الموسيقى أو عن أغنية استمع إليها، بل يكلمني فقط، من حين إلى آخر، على الصلاة والعودة إلى طريق الله».

ومن الرجال الصحافي توفيق الذي استثمر برودة علاقة كهينة بخطيبها سمير وكثرة خصوماته هو مع خطيبته «نورية» ليستدرجها إلى لقاءات فايسبوكية يمارسان فيها -عن بعد- لعبة تبادل الصور، بحيث يمدها بصور جسده الذكوري وتمده هي بصور فتنتها الجسدية، وعلى مدار هذه اللعبة يتم التعويض العاطفي والترويض النفسي وإشاعة رغبة جسديهما في اللقاء الذي انتهى بدعوة توفيق لها إلى بيته، حيث أقام معها علاقة غرامية انتهت بحمل لم يأبه به ولم يتحمل مسؤوليته، في حين أحدث في نفس كهينة رجة وخوفاً عميقين من رد فعل عائلتها وسكان العمارة التي تقطنها ومجتمع العاصمة، وألجآها معاً إلى البحث عن سبيل إلى إسقاط الجنين عند طبيب نسائي، كما هو شائع لدى الفتيات، أو اللوذ بالشوافين والمشعوذين أصحاب الرقى على غرار «الحاج مسعود»، عساها تجد لديهم حلاً لمشكلتها. إلا أنها تقرر في آخر المطاف الإبقاء على جنينها، وهو ما سيكشفه لنا الراوي «إسماعيل» صديق كاهنة أيام الدراسة. وقد أحكم معرفته بكل عناصر رواية «كتاب الخطايا»، واكتفى بالظهور فيها مرتين: مرة أولى عندما أعلن عن ابتداء حكاية كهينة، ومرة ثانية لما أغلق باب الرواية على مصير هذه البطلة الغامض بعد أن ظل على مدار المتن السردي منصتاً إليها، يسمع منها ما تفصح عنه في قولها وما تخفي.

 

وفي خلال هذين الظهورين، يعلمنا الراوي بأن زواجه بكهينة كان القرار الأجرأ والأحمق في حياته الذي اتخذه في ستة أيام من دون استشارة أحد، على معرفته بماضيها وحاضرها، إذ يشرح ذلك بقوله: «ربما سيصفني البعض بالديوث أو السافل لأنني قررت الارتباط بامرأة سيعتبرها أحدهم فاسقة أو فاجرة أو واطية، وربما سيثني علي البعض الآخر ويصفني بالرجل الصالح لأنني أنقذت زانية –سابقة- من سراديب الهاوية».

وقد تكفل هذا الراوي بإسماع كهينة الشعر، وقرأ لها فصولاً من رواية «نجمة» لكاتب ياسين، وحدثها عن علائق هذا الكاتب بالنساء، بل وعلمها، بعد أن قرأ لها كتاب «قطب السرور»، فضائل الراح وتحرير العقل وكشف المستور، فاطمأنت إليه، وفاضت له بحكايتها، ولما فشل في ترويضها وامتصاص عنادها هجرها، فكتبت خطاياها وتركتها له في البيت قبل أن تغادره صحبة ابنها إلى مرسيليا. وخصته برسالة صغيرة جاء فيها قولها: «باي... باي... وخلي خبز الدار ياكلو البراني...» في إحالة منها على كونها ستطعم جسدها للفرنسيين بعد أن زهد عنه أبناء بلدها. وإذاك لم يجد إسماعيل من سبيل إلى تخليد سيرة هذه المرأة إلا بإعادة كتابة حكايتها وتصحيحها ونشرها بعنوان «كتاب الخطايا».

جراح واقعية

الظاهر أن سعيد خطيبي كتب رواية «كتاب الخطايا» بلسان امرأة، وقد نجح في منح اللغة جسدها الأنثوي والتكلم بصوتها في الوقت الذي فشل روائيون آخرون على غرار مواطنه واسيني الأعرج الذي لم يستطع تخليص لغة «ليلى»، بطلة روايته «أنثى السراب»، من صوت الذكر فيها، أي من معاني الذكورة. وهو ما جعل القارئ يتعرف، بلا وصاية، إلى واقع المرأة الجزائرية، بل وواقع الجزائر بكل ألوانه، بعين أنثى مولعة بتعرية تفاصيل معيشها الاجتماعي، بل وتتعذب بتلك التفاصيل التي تكشف عن حشد السلطة الذكورية، سواء أكانت علمانية أم إسلامية، لأعوانها الرمزيين والماديين لحماية قداسة أنظمتها السياسية والأمنية والثقافية والاجتماعية ولتعزيز سيطرتها على الجسد الأنثوي داخل فضاءاته الخاصة والعمومية والمتخيلة سيطرةً تصفها كهينة بقولها: «لم أكن لأقطع مئة متر دونما سماع كلام وقح، كأن يخاطبني أحدهم: «وين راك تبات يا حنونة». وتتم تلك السيطرة وفق مراحل ثلاث نلفي لها صورة في حال هذه البطلة، وتتمثل الأولى في خلق الظروف الاجتماعية الرثة التي تجبر الأنثى على ارتكاب الخطايا مثل ثقافة الاستهلاك التظاهري وكثرة البطالة وتوفير فرص الفشل الشخصي، وفي الثانية يتم تقويم سلوكها تقويماً ينتهي بها إلى الإقامة بخانة المدنس لكي يسهل استثمار عواطفها الآدمية وتحويلها إلى مورد لذة عابرة ومجانية، وفي الثالثة يتم استدعاء مقولات الفحولة والشرف والطهارة لمحاسبتها ومحو كينونتها.

ولا نعدم في رواية «كتاب الخطايا» اعتمادها حكاية كهينة جسراً لتفكيك أسباب تردي واقعها المرجعي، إذ لم تكن تصيب بسهامها النقدية اهتراء ثقافة العقل ويفاعة ثقافة الشعوذة والسحر بسبب ثقل انصباب الأيام على المواطن الجزائري، ما جعله يعيش حالاً من الخوف دائمةً غالباً ما تلجئه إلى التخلي عن المعلوم من الحلول والبحث عن الموهوم منها لدى باعة الأماني الصفراء.

ولا شك في أن الرواية وهي توصف واقعاً تحكم الشعوذة عقليات ساكناته تتنبه إلى ما يمكن أن يمثله من حواضن ملائمة لظهور التطرف والإرهاب، وصورة ذلك الويلات التي عاشتها الجزائر خلال العشرية السوداء في حربها مع الأصوليين بحيث تؤكد كهينة أن الملتحين كانوا «يأتون إلى حينا كل مساء فيعتقلون ويذبحون من شاؤوا، كما فعلوا مع جارنا الطبيب محمود الذي رموا رأسه أمام مدخل العمارة ولا أحد يعرف أين دفن جسده».

وإن واقعاً يحكمه الفساد الإداري والمحسوبية والإرهاب والخوف من المستقبل يعزز اكتناز اللاوعي الجمعي للشباب الجزائري بتقديس فرنسا والرغبة في الهجرة إليها والعيش فيها. وهو أمر سعت الرواية إلى دحض ما فيه من تصورات خاطئة، إذ بينت أن فرنسا ليست جنة وإنما هي بلد يمكن أن يهان فيه المهاجر ويتقلى على نار غربته.

وما نؤكده في خاتمة عرضنا لرواية سعيد خطيبي هو قولنا إنها بدت لنا رواية ظريفة الثيمة، خفيفة الأحداث، ونظيفة من مظاهر الحشو الحكائي الذي أهلك متون رواياتنا الجديدة، فاستطاعت أن تقول كل شيء بأقل ما يمكن من الكلمات.

 

عبدالدائم السلامي

حقوق النشر: الحياة 2015