الفيتوري...شاعر التناقضات والإنسانية المفقودة في العالم العربي

توفي الشاعر السوداني الشهير محمد مفتاح الفيتوري في المغرب التي عايش فيها مع زوجته المغربية عن عمر يناهز الـ ٨٥ عاما بعد صراع طويل ومرير مع المرض.
توفي الشاعر السوداني الشهير محمد مفتاح الفيتوري في المغرب التي عايش فيها مع زوجته المغربية عن عمر يناهز الـ ٨٥ عاما بعد صراع طويل ومرير مع المرض.

"مثلي أنا ليس يسكن قبراً"...توفي الشاعر السوداني المعروف محمد الفيتوري في العاصمة المغربية الرباط، عن عمر يناهز الـ85 عاماً بعد صراع طويل ومرير مع المرض. سليمان توفيق ينعي "شاعر إفريقيا"، الذي أراد فضح واقع العرب "اللاانساني الأسود".

الكاتبة ، الكاتب: سليمان توفيق

"أنا زنجي..

 قلها لا تجبن

قلها في وجه البشرية

 أنا زنجي

وأبي زنجي الجد

 وأمي زنجية

 انا أسود

 أسود لكني حر

امتلك الحرية..."

منذ  بدايته الشعرية أظهر محمد الفيتوري إنتمائه الثقافي والعرقي والمصيري لإفريقيا السوداء كما تعبير هذه القصيدة من ديوانه الأول "أغاني أفريقيا" بوضوح.

ولا غرو أن بشرته السوداء كانت الدافع لبلورة الهوية الإفريقية كردة فعل على بعض المواقف العنصرية تجاهه خاصة في مدينة الإسكندرية، المدينة الساحلية التي كان يعيش فيها زنوج يعملون خدماَ فقط. 

ولد محمد الفيتوري عام 1930 في قرية  الجنينة في غرب السودان. كانت جدته زنجية، ووالده من ليبيا. أما أمه فتعود أصولها إلى تاجر إفريقي تاجر في الرقيق والعاج. وقد أثرت فيه هذه الجدة الزنجية تأثيراً كبيراً إذ كانت تروي له القصص والأساطير الإفريقية.  وانتقلت عائلته إلى الإسكندرية، التي نشأ وحفظ القرآن فيها، ثم انتقل إلى القاهرة حيث تخرج من كلية العلوم بجامعة الأزهر.

إفريقا حاضرة بشكل كبير في شعر الفيتوري

منذ طفولته كان هاجس القلق يرافقه. يوماً ما قال له والده: "ستقضي حياتك غريبا عن وطنك"، وهو ما عايشه الفيتوري حتى وفاته. شغله الهم الإفريقي خاصة في الستينيات من القرن الماضي، في نهاية الفترة الإستعمارية لأفريقيا.

كان الفيتوري أول شاعر عربي يعالج في شعره قضية الصراع بين الأبيض والأسود، متصدياً  للفوارق العنصرية والإجتماعية في المجتمعات العربية. ففي دواوينه االثلاثة الأولى"أغاني إفريقيا"  1956 و"عاشق من إفريقيا" 1964، “اذكريني يا إفريقيا"، 1965، ومسرحيته الشعرية و"أحزان إفريقيا" 1966 التي أثارت اهتماماً واسعاً في الوسط الأدبي والثقافي العربي، خاصة مواضيعها الجديدة، كانت القارة السوداء حاضرة بشكل كبير.

عندما بدأ الفيتوري النشر كان الهم القومي العربي هو السائد في الأدب العربي والمهيمن على الوعي الجماعي. لكن قصائده كانت خارجة عن المألوف كونه أراد فضح "واقعنا اللاانساني الأسود". وبالطبع وجه له النقد من قبل القوى اليسارية والقومية، لأنه، وفق رأيهم، أهمل الصراع الطبقي الذي يجمع السود والبيض، لأن العنصرية في العالم العربي كانت ومازالت من التابوهات، من الموضوعات المحرمة، التي لا أحد يريد تسميتها باسمها واثارة نقاش عام حولها. الفيتوري لفت النظر الى هذه المسألة الهامة، لذلك كانت هذه القصائد جديدة على الأدب العربي.

في ديوان الفيتوري "معزوفة درويش متجول" تتجلى التأثيرات الصوفية التي ورثها من والده الذي كان أحد شيوخ  السجادة الصوفية من خلفاء الطريقة الشاذلية الأسمرية.
في ديوان الفيتوري "معزوفة درويش متجول" تتجلى التأثيرات الصوفية التي ورثها من والده الذي كان أحد شيوخ السجادة الصوفية من خلفاء الطريقة الشاذلية الأسمرية.

صراع دائم مع الحياة السياسية

إنقطع الفيتوري عن الشعر في الفترة بين 1955 الى 1964 حيث عمل في الصحافة في السودان ومصر ولبنان. وعاش حياة صاخبة لم تعرف الهدوء، إذ كان في صراع دائم مع الحياة السياسية، حيث إهتم في شعره بالقضايا الوطنية العربية فكتب قصائد سياسية عن السودان وفلسطين ولبنان وليبيا.

وكما كان متوقعا جلبت له هذه القصائد المصاعب فسحب منه الرئيس النميري جنسيته السودانية، ثم منحه القذافي الجنسية الليبيية وجواز سفر دبلوماسياً. وتقلد مناصب ديبلوماسية وسياسية متعددة، فعمل مستشاراً إعلاميا بجامعة الدول العربية في ستينات القرن الماضي، ثم مستشارًا ثقافياً في سفارة ليبيا بإيطاليا، وسفيراً بالسفارة الليبية في بيروت بلبنان، ومستشاراً للشؤون السياسية والإعلامية بسفارة ليبيا في المغرب. ثم سُحِبَتْ منه الجنسية الليبية بعد قيام الثورة الليبية.

ولا شك أن مهنته كدبلوماسي سهلت له السفر الدائم، ومكنته من العيش في العديد من المدن العربية مثل الإسكندرية والقاهرة والخرطوم  ودمشق  وبنغازي وطرابلس والرباط. لكن بيروت هي المحطة الأساسية في حياته، فقد عشقها وكتب فيها أروع قصائده، وربطته صداقة مع العديد من الشعراء هناك وخاصة مع الرحابنة وفيروز. وللمفارقة لم يحول ذلك من اختطافه أثناء الحرب الأهلية من قبل الميليشيات في بيروت.  

تنقله الدائم بين البلدان العربية خلق لديه إحساساً بالغربة، التي شكَّلت أبرز ملامح شخصيته ومنحته لوناً مميزاً في أدبه وشعره. كما كان له حضور قوي في الحركة الشعرية العربية الحديثة ويعتبر أحد روادها المجددين في بنية الإيقاع الشعري.  فالشعر بالنسبة للفيتوري شعر، والروح الشعرية برأيه هي التي تحدد  قيمة القصيدة.

عمق اللغة ومتانتها

 الفيتوري: "القيود في الأرجل والسلاسل في الشفاه، الحرية التي حلمنا بها لم تتجاوز طفولتها المضحكة"
الفيتوري: "القيود في الأرجل والسلاسل في الشفاه، الحرية التي حلمنا بها لم تتجاوز طفولتها المضحكة"

يعد الفيتوري الشاعر السوداني الوحيد الذي اشتهر في كل العالم العربي. لغته العربية تميزت بمتانتها وعمقها وهذا ساعد في أن يكون شعره غنائي.  

لم يكتب الفيتوري الذي أصدر أكثر من عشرين ديوان شعري قصائد سياسية فقط ، بل كتب أشعار صوفية وعاطفية ورومامنيكية. ففي ديوانه "معزوفة درويش متجول" تتجلى التأثيرات الصوفية التي ورثها من والده  الذي كان أحد شيوخ  السجادة الصوفية من خلفاء الطريقة الشاذلية الأسمرية حيث يقول:

"في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق
حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق
وزحمت براياتي وطبولي الآفاق
عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق
مملوكك لكني سلطان العشاق"

تقرب الفيتوري من بعض الحكام العرب خاصة من القذافي وصدام حسين ومن قبل السادات، ومنح بعض الأوسمة. ولكنه من بعد كتب:  

"إن صوتي مشنقة للطغاة جميعا ولانادما

إن روحي مثقلة بالغضب

 كل طاغية هو صنم

 دمية من خشب. "

 

في آخر حياته انزوى الفيتوري في المغرب مع زوجته وعاش بقية حياته وحيداً ومحبطاً ومريضاً. وكتب في احدى قصائده كرثاء لنفسه:

"سأرقد في كل شبر من الأرض
أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق
حقول بلادي
مثلي أنا ليس يسكن قبراً..."

 

 

سليمان توفيق

حقوق النشر: قنطرة 2015