محاولة لتفكيك آيديولوجية العنف الداعشية

في البداية تم اعتبار تنظيم "الدولة الإسلامية" مجرد نسخة أخرى من عشرات التنظيمات التي تقلد تنظيم القاعدة. لكن سرعة نموه وتساقط الأنظمة أمامه والاهتمام الدولي به فرض على المهتمين البحث في مسار هذا التنظيم. ملهم الملائكة يسلط الضوء -لموقع قنطرة- على كتاب "إدارة التوحش" المنتشر في الإنترنت بغموض ظهوره وتاريخ نشره وغرابة لغته. كثيرون يرون في هذا الكتاب عرضا للأسس النظرية لاستراتيجيات تنظيم "الدولة الإسلامية".

الكاتبة ، الكاتب: ملهم الملائكة

لا أنزع عني تحفظ الكاتب الموضوعي حين أسمّي " الدولة الاسلامية" مجردة من سوابق إعلامية معتادة "ما يعرف" أو "ما يسمى"، أو بشكل أكثر اقترابا من الواقع الصعب حين تظهر تحت تسمية "تنظيم الدولة الإسلامية". لا أفارق الموضوعية قط، فهي قد جاوزت مخاوف الجميع بسرعة صاعقة، لتصبح في عداد الأنظمة القائمة، والأخطر أنها نظام سياسي يُعلن حربا ضروسا على الخرائط، وعلى التمدن، وعلى الحضارة مستخدما أحدث تقنياتها لإفنائها.

في كل مكان، يدور الحديث منذ أشهر عن كتاب إلكتروني ( دون نسخة ورقية) اسمه" إدارة التوحش" لمؤلف يُعلن أن اسمه هو"أبو بكر ناجي" ، يراه كثيرون عرضا للأسس النظرية لاستراتيجيات "الدولة الإسلامية"، وإذا شئنا المقارنة، فهو يشبه في وظيفته وشكله إلى حد كبير "البيان الشيوعي" الذي كتبه كارل ماركس، وفريدريك أنغلز مطلع قيام الفكر الماركسي وتطبيقاته الشيوعية.

غلاف كتاب كتاب "إدارة التوحش"
ابتداءً من مقدمة كتاب "إدارة التوحش" يتبنى الكاتب لغة أخرى يتعامل بها مع السياسة ومع التاريخ. لغة يرى أنها تناسب إقامة دولته الجديدة.

تشير بعض إحصاءات النت أن عدد النسخ المنزلة من كتاب إدارة التوحش، جاوزت 10 ملايين نسخة، ولكن قد يكون الرقم مبالغا فيه، فالكتاب في كل حالة، لم يكتب لقواعد حركة "الدولة الإسلامية" – إن جاز التعبير- بل لقياداتها، فهو مسار عام خال من الجزئيات، ويصعب في هذه الحالة على المقاتلين الأميين وشبه الأميين الذين يتقنون القتال والذبح وسبي النساء والجلد وتطبيق شرائع "الدولة الإسلامية" أن يفهموه أو -حدّث ولا حرج- أن يستوعبوه.

ابتداءً من مقدمة الكتاب يتبنى الكاتب لغة أخرى يتعامل بها مع السياسة ومع التاريخ. لغة يرى أنها تناسب إقامة دولته الجديدة، فهو يعرّف التعبير الغريب "إدارة التوحش" بالشكل التالي:

"إدارة التوحش هي المرحلة القادمة التي ستمر بها الأمة، وتعد أخطر مرحلة فإذا نجحنا في إدارة هذا التوحش ستكون تلك المرحلة -بإذن االله - هي المعبر لدولة الإسلام المنتظرة منذ سقوط الخلافة، وإذا أخفقنا -أعاذنا االله من ذلك- فلا يعني ذلك انتهاء الأمر ولكن هذا الإخفاق سيؤدي لمزيد من التوحش!".

"إدارة الفوضى المتوحشة"

وحين يمضي القارئ قدما في غابات وصحاري الكتاب، يجد أنّ الفكرة التي يدور حولها كل التنظير هي خلق الفوضى التي ستخلق بيئة ومناخا مناسبا لنمو خلايا الدولة الإسلامية.

"تُعرّف إدارة التوحش باختصار شديد بأنها: إدارة الفوضى المتوحشة..!!".

وحين تصدم القارئ تعابير الكاتب غير المعتادة  "إدارة التوحش" و"الفوضى المتوحشة"، يجد تفسيرا لها في قوله:

"لماذا أطلقنا عليها [ إدارة التوحش ] أو [ إدارة الفوضى المتوحشة ] ولم نطلق عليها [ إدارة الفوضى ] ؟ ذلك لأنها ليست إدارة لشركة تجارية أو مؤسسة تعاني من الفوضى أو مجموعة من الجيران في حي أو منطقة سكنية أو حتى مجتمعاً مسالماً يعانون من الفوضى ولكنها... ستكون في وضع يشبه وضع أفغانستان قبل سيطرة طالبان.. منطقة تخضع لقانون الغاب بصورته البدائية يتعطش أهلها الأخيار منهم بل وعقلاء الأشرار لمن يدير هذا التوحش، بل ويقبلون أن يدير هذا التوحش أي تنظيم أخياراً كانوا أو أشراراً إلا أن إدارة الأشرار لهذا التوحش من الممكن أن تحول هذه المنطقة إلى مزيد من التوحش..!!"

ومع بدائية لغته الاصطلاحية، يسقط الكاتب في فخ التناقض، فهذا التعريف ينقضه بعد قليل حين يبحث عن أمثلة تطبيقية لمناطق التوحش، حيث يقول نقلا عن مصادره:

"وأوضح مثال لذلك كما ذكر الشيخ العلامة عمر محمود أبو عمر -فك الله أسره- هو فترة الحروب الصليبية حيث قال:

>>المتمعن لتلك الفترة الزمنية يرى أن المسلمين عالجوا أمر الصليبيين عن طريق تجمعات صغيرة، وتنظيمات متوزعة متفرقة، فهذه قلعة حكمتها عائلة من العائلات، جمعت تحت أمرائه طائفة من الناس ، وهذه قرية ارتضوا حكم قائد عالم منهم وجاهدوا معه، وهذا عالم انتظم معه جماعة من تلاميذه وارتضوا إمامته وهكذا<<".

جهاديون من تنظيم الدولة الإسلامية
"حين يمضي القارئ قدما في غابات وصحاري الكتاب، يجد أنّ الفكرة التي يدور حولها كل التنظير هي خلق الفوضى التي ستخلق بيئة ومناخا مناسبا لنمو خلايا الدولة الإسلامية"، كما يكتب ملهم الملائكة.

إذاً، فمناطق التوحش صغيرة، ويمكن أن تكون قرية، أو شارعا، او حيا في منطقة أو مدينة صغيرة، أو حتى محطة على طريق المسافرين، وهذا ما لمسناه في معارك سوريا منذ 3 أعوام، وفي مناطق شمال غرب العراق حيث بدأت حركتهم من السيطرة على شوارع، وقرى، ومحطات صغيرة ثم اتسعت رقعة "الدولة الاسلامية" بسرعة خاطفة، وتعاقب شيوخ العشائر وضباط الجيش العراقي السابق وكبار موظفي الموصل والأنبار وصلاح الدين يعلنون البيعة والولاء لخليفة المسلمين الجديد "أبو بكر البغدادي".

قد يرى البعض في هذا الأمر مغامرة تشبه مغامرات كثيرة مشابهة راجت في العقد الأخير ومنها، بشكل قريب تجربة جماعة أحمد الأسير في لبنان، وجند السماء في العراق، و لشكر طيبة في باكستان، لكن نظرة مراجعة لما جرى، وصولا إلى التوسع الانفجاري للدولة الإسلامية، يمكن أن تكشف للقارئ، أنّ تلك المغامرات كانت إرهاصات تطبيقية حقيقية، انتهت إلى نجاح تجربتهم، وقيام "دولة إدارة التوحش" بشكلها الذي وصلنا إليه. والكتاب نفسه يصل في أحد مقاطعه إلى هذه الحقيقة:

"نكاية الإنهاك"

"هذه التكتلات الصغيرة التي سيطرت على بعض القلاع والمدن الصغيرة وتزامن معها القيام بعمليات نكاية وإنهاك (إن شئت فاقرأ بالتفصيل ما كتب في ثنايا السطور عن الحروب الصليبية تدرك أن الإنهاك الذي كان يقوم به طائفة العلم والجهاد هو الذي حقق النصر في المعارك الكبرى لا المعارك الكبرى بذاتها، بل لم تكن هذه المعارك الكبرى كحطين إلا محصلة لمعارك صغيرة لا تكاد تذكر في التأريخ لكنها كانت الأرقام الأولى لتشكل النصر الكبير النهائي)" .

وتأسيسا على ذلك، يمضي الكاتب كاشفا عن سلسلة مراحل تصل به إلى قيام دولة الخلافة الإسلامية:

"مرحلة [ شوكة النكاية والإنهاك ].. ثم مرحلة [ إدارة التوحش ].. ثم مرحلة [ شوكة التمكين - قيام الدولة - ]."

زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي
يكتب ملهم الملائكة: اتسعت رقعة "الدولة الاسلامية" بسرعة خاطفة، وتعاقب شيوخ العشائر وضباط الجيش العراقي السابق وكبار موظفي الموصل والأنبار وصلاح الدين يعلنون البيعة والولاء لخليفة المسلمين الجديد "أبو بكر البغدادي".

ويكشف الكاتب (أو الكتّاب، ففي رأيي أنّ أكثر من شخص قد قام بكتابة فصول كتاب إدارة التوحش، وهو أمر يؤكده تنوع الأساليب قوة وضعفا، بل إنّ الفصول الأخيرة فيه تكشف عن ضعف بيّن وأخطاء لغوية فادحة)، أقول: يكشف النص عن عزيمة الحركة إسقاط الحدود الجغرافية التي قامت بموجب اتفاقية سايكس بيكو، واضعا ذلك تحت عنوان:

"تنبيه هام جداً: عندما أقول اليمن مثلاً وأسبقها بكلمة منطقة أقصد من ذلك عدم التقيد بحدود الأمم المتحدة بحيث يتحرك المجاهدون بحرية في حدود اليمن والحجاز وعمان، أما عندما أقول مناطق أو منطقة التوحش فلا أقصد قطراً بالكامل وإنما في العادة منطقة التوحش تكون مدينة أو قرية أو مدينتين أو حتى حيّا أو جزءا من مدينة كبيرة" .

يلفت النظر في هذه الفقرة تعبير وضعتُ تحته خطا "قطرا كاملا "، وطبقا لنظرية (بنيوية اللغة لنعوم تشومسكي) فقد استعمل الكاتب وصفا بعثيا بامتياز، هو وصف قُطر، المختص بأدبيات حزب البعث التي راجت في العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية وصولا إلى مطلع الألفية الثالثة، وهو أمر يثير تساؤلا حول هوية الكاتب الذي تسرب الوصف من منطقة لاوعيه لأنه مترسخ في ثقافة بعثية ورثها وتشربّها ولا يستطيع من مفرداتها وتعابيرها فكاكا إلا إذا تعمّد ذلك.

وقد يكون احتمالنا هذا مجرد فرضية، لأنّ الكاتب ربما ينتمي إلى جيل يجهل أنّ للغة الاصطلاحية معانيَ مقصودة تروجها الآيدولوجيات حين تشيع، فسقط في فخ استخدام مفردات البعث التي تعلمها في المدرسة دون أن يعي الدلالة الاصطلاحية لتلك المفردات.

من "إدارة الفوضى المتوحشة" إلى "الفوضى الخلاقة"

ولو شئنا المضي قدما في تحليل الكتاب الواقع في 112 صفحة، فسيلزمنا كتاب قد يصل عدد صفحاته إلى ضعف هذا العدد، من هنا لابد من التوقف وافساح المجال للقارئ المهتم، ان يقرأ الكتاب بنفسه للتعرف على نظرية الدولة الاسلامية الجديدة .

لكن لابد من وقفة أخيرة قبل أن نختم قراءتنا السريعة للكتاب، وهي نقطة تكشف إلى حد كبير عن خطط الدولة الإسلامية الصعبة السهلة التي تسقط من خلالها الدول في الفوضى ، كما تختص هذه النقطة بنظرية الكتاب عن الأهداف التي ينبغي البدء بمهاجمتها، وكيف يمكن أن يقود ذلك الى بدأ التوحش والفوضى:

ساحة الاحتفالات في بغداد
ساحة الاحتفالات في بغداد...رمز لانتصارات الجيش العراقي في حقبة صدام حسين: شن تنظيم داعش في يوليو/ تموز 2014 حملة اعتقالات على جنرالات الجيش العراقي السابق. مسلحو داعش اعتقلوا نحو 60 ضابطا معظمهم من أعضاء حزب البعث المحظور وموالين للرئيس الراحل صدام حسين بحسب روايات السكان المحليين وأقارب المعتقلين في الموصل. ونقلت وكالة رويترز للأنباء أن الاعتقالات التي نفذتها داعش بحق كبار ضباط الجيش القديم في الموصل تحمل دلالة على انشقاق في التحالف المسلح غرب العراق والذي ساعد مقاتلي الدولة الإسلامية في تحقيق نصر سريع عندما جاؤوا من الصحراء واستولوا على الموصل قبل شهر من هذه الاعتقالات.


اقتباس من الكتاب:

"الأنظمة تضع أولويات (للحماية):

أولاً: الحماية الشخصية للعائلات المالكة والأجهزة الرئاسية.

ثانياً: ( حماية) الأجانب.

ثالثاً : ( حماية) البترول والاقتصاد.

رابعاً: ( حماية) أماكن اللذة.

وتركيز الاهتمام والمتابعة على تلك الأهداف يبدأ منه التراخي وخلو الأطراف والمناطق المزدحمة والشعبية من القوات العسكرية أو وجود أعداد من الجند فيها بقيادة هشة وضعيفة القوة غير كافية العدد من الضباط وذلك لأنهم سيضعون الأكفاء لحماية الأهداف الاقتصادية ولحماية الرؤساء والملوك، ومن ثم تكون هذه القوات الكثيرة الأعداد أحياناً الهشة بنياناً سهلة المهاجمة والحصول على ما في أيديها من سلاح بكميات جيدة ، وسيشاهد الجماهير كيف يفر الجند لا يلوون على شيء ، ومن هنا يبدأ التوحش والفوضى وتبدأ هذه المناطق تعاني من عدم الأمان.. هذا بالإضافة إلى الإنهاك والاستنزاف في مهاجمة باقي الأهداف ومقاومة السلطات".

انتهى الاقتباس

ختاما، يُرجّح ان هذا الكتاب قد صدر بين عامَيْ 2006 و2007، وفي تلك المرحلة كان الحديث عن نظرية الفوضى الخلاقة التي روجت لها مستشارة الأمن القومي الأمريكي في ذروته، ولا يسع المرء الا أن يُخمن أنّ "إدارة فوضى التوحش" لن يمكن إيقافها إلا بـ "الفوضى الخلاقة " التي قد تكون الإدارة الأمريكية طوّرتها في تلك المرحلة استجابة لضرورة الوضع.

 

 

 

ملهم الملائكة

حقوق النشر: قنطرة 2014