الدرس السعودي...هل على اللبنانيين الاختيار بين الطاعون والكوليرا؟

أعلن سعد الحريري إنه سيعود قريبا إلى لبنان في الوقت الذي يتواصل فيه الجدلٌ حول استقالته. فيما دارت أنباء عن وجودِ خطة لتسويةِ نزاع الشرق الأوسط يعُتبر لبنان جزءا منها
أعلن سعد الحريري إنه سيعود قريبا إلى لبنان في الوقت الذي يتواصل فيه الجدلٌ حول استقالته. فيما دارت أنباء عن وجودِ خطة لتسويةِ نزاع الشرق الأوسط يعُتبر لبنان جزءا منها

إلياس خوري: قدّم ولي العهد السعودي درسًا بليغًا للبنان، فلبنان في عرف القوى الإقليمية المهيمنة لا وجود له إلا على المستوى الشكلي، وحين تصير الأشكال عائقًا أمام تظهير المضمون الحقيقي الذي تحجبه، فلا مانع من تحطيمها.

الكاتبة ، الكاتب: إلياس خوري

هكذا؛ وببساطة ومن دون عناء اختفى رئيس الوزراء اللبناني خلف استقالته المتلفزة. الجميع في لبنان والعالم قاموا بتأويل الرجل، لأنه صمت مدة ثمانية أيام، وحين تكلم في حوار متلفز مع بولا يعقوبيان، بدا الرجل حزينا برغم شعوره بأنه تجاوز الانقلاب عليه، من دون أن يعني ذلك أن الأمور عادت إلى نصابها.

لا شك أننا في هذا البلد الصغير، الذي يُدعى لبنان، أمام منعطف جديد لبلاغة التاريخ وكلبيته وسخريته من أبطاله ومهرّجيه. لكن قبل الاقتراب من هذا الدرس البلاغي وتحليل أبعاده، لا بد من الإشارة إلى أن مطلب عودة رئيس الوزراء حرًا طليقًا إلى بيروت هو الموقف الذي يجب أن يتوحد حوله الجميع.

لا نعرف حتى الآن تفاصيل ما حصل في قضية سعد الحريري، ولسنا معنيين الآن على الأقل بما يجري من تغييرات واعتقالات في السعودية، ما يعنينا هو صون الحد الأدنى من الكرامة الوطنية، التي لا يتوقف القاصي والداني عن امتهانها، وهذه ليست مسؤولية الآخرين بل مسؤولية الطبقة السياسية اللبنانية، لأن «من يَهُن يسهل الهوان عليه»، كما قال الشاعر.

صون الحد الأدنى من الكرامة الوطنية

المسألة التي يشير إليها احتجاب الحريري تتجاوزه على المستوى الشخصي، وتطرح سؤالا عميقا حول النصاب السياسي اللبناني، الذي يتأرجح وسط خضم الصراع الكبير بين السعودية وإيران. وهو صراع يتخذ أشكالا مدمّرة في المنطقة، وتشير حصيلته الأولية إلى أنه استطاع تدمير احتمالات الحرية والكرامة الوطنية في المشرق، وأطفأ الحلم في أعين السوريين، وحوّل اليمن إلى كارثة إنسانية، ويستعد اليوم لاستخدام لبنان حطبا مشتعلا في هذه المدخنة العملاقة التي لا تشبع.

كما أنه استطاع، برغم الادعاءات جميعها، إخراج الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي من دائرة الاهتمام، عبر حجب مضمونه الفلسطيني التحرري، وجعله جزءا من أدوات الاستخدام في صراعات المستبدين.

يشعر السعوديون أنهم «يمونون» على الحريري والسنّية السياسية في لبنان. فالحريرية نشأت كظاهرة سعودية. الصعود السريع لرفيق الحريري كان تعبيرا عن النفوذ السعودي المتعاظم، الذي وجد في اتفاق الطائف وفي تقاسم النفوذ السوري- السعودي في لبنان فرصته الذهبية. ولم تكن النهاية المأسوية للحريري الأب إلا التعبير المباشر عن انفكاك التحالف السعودي- السوري بعد الآثار الزلزالية للغزو الأمريكي للعراق.

الروائي والمسرحي والناقد الأدبي إلياس خوري واحد من الكتاب والمثقفين المؤثرين في العالم العربي. الصورو ب د ا بيكتشر الينس
الروائي والمسرحي والناقد الأدبي إلياس خوري (من مواليد 1948) كان ناشطاً في حركة التحرير الفلسطينية (فتح)، وهو واحد من الكتاب والمثقفين المؤثرين في العالم العربي. نشر خوري عشر روايات وثلاث مسرحيات، ويعيش اليوم في بيروت.

«من يَهُن يسهل الهوان عليه»

من جهة ثانية فإن تأسيس حزب الله كان ثمرة دخول النفوذ الإيراني إلى السياسة اللبنانية بعد نشوء الجمهورية الإسلامية، كما أن صعود نجمه وتفرده بمقاومة إسرائيل وتحوله إلى لاعب كبير في السياسة اللبنانية، كان ثمرة التحالف السوري- الإيراني، الذي ازداد عمقا بعد الاحتلال الأمريكي للعراق.

وسرعان ما تحوّلت هاتان الظاهرتان السياسيتان الجديدتان إلى نقطتي الاستقطاب الرئيسيتين في الحياة السياسية اللبنانية، خصوصا بعد اغتيال الحريري وانتفاضة الاستقلال التي فرضت الانسحاب السوري من لبنان عام 2005، ثم حرب تموز 2006، التي حولت حزب الله إلى القوة المسلحة الوحيدة المهيمنة.

ومنذ 2006، ولبنان يعيش على فوهة بركان الصراع السعودي- السوري، الذي تحوّل إلى صراع إيراني- سعودي بعد اندلاع الثورة السورية، وانكفاء نظام آل الأسد إلى لاعب ثانوي حمته إيران والطيارات الروسية من السقوط.

قادت هاتان القوتان الجديدتان الاصطفاف السياسي اللبناني منذ 2005، «المستقبل» يقود تحالف 14 آذار السنّي- الدرزي ومعه جزء من المسيحيين، وحزب الله يقود تحالف 8 آذار الشيعي ومعه الجزء الآخر من المسيحيين إضافة إلى قوى سنّية ودرزية هامشية أو شبه هامشية.

لم يخل هذا الاصطفاف من توترات مسلحة وصلت إلى ذروتها عام 2008 مع الاجتياح العسكري لحزب الله لبيروت وما نتج عنه في اتفاق الدوحة الذي أعلن نهاية تفرّد 14 آذار بالسلطة وبداية الصعود الشامل لحزب الله.حزب الله حصان طروادة إيراني

تحكمت قوتان في السياسة اللبنانية منذ عشر سنين، وهما قوتان محليتان وإقليميتان في الآن نفسه. فحزب الله هو امتداد سياسي وعسكري معلن للسياسة الإيرانية، وتيار المستقبل هو امتداد سياسي للسعودية. أما سياسة النأي بالنفس التي تبناها لبنان الرسمي فلم تكن سوى وهم. حزب الله كسر هذا النأي عبر مشاركته العسكرية النشطة في حرب النظام الأسدي على الشعب السوري، والمستقبل حاول كسره من ضمن المنظومة السعودية التي تدخلت بفاعلية غير منتجة في سوريا.

عون يدعو الرياض لتقديم إيضاحات حول الحريري وواشنطن تحذر. في الصورة عون مع ملك السعودية سلمان
طلب الرئيس اللبناني من السعودية توضيح الأسباب التي تحول دون عودة سعد الحريري. هذا فيما قالت أمريكا أنها ترفض محاولات ميليشيات داخل لبنان أو أي قوات أجنبية تهديد استقرار لبنان... أو استخدامه كقاعدة لتهديد دول المنطقة".

لبنان ممزق بين قوتين إقليميتين، تبدو القوة الإيرانية اليوم كأنها على وشك تحقيق النصر في سوريا كما أنها تملك تفوقا عسكريا إقليميا لا تمتلكه القوة السعودية. ميزان القوى الجديد قاد إلى انحناءة سياسية حريرية أثمرت انتخاب عون رئيسا وتشكيل حكومة لبنانية يهيمن حزب الله على أكثرية مفاتيح السلطة فيها.

تكمن مشكلة الحريرية مع السعودية في مسألتين:

الأولى هي أنها تيار مدني غير عسكري حمل خطابا سلميًا اقتصاديًا نيو ليبراليًا.

الثانية هي أنها لا تملك أدوات لمقاومة نفوذ حزب الله، خصوصًا بعد الأزمة المالية التي وقع أو أوقع فيها الحريري.

الحريرية لا تستطيع المشاركة في أي مواجهة مسلحة، علما أن نتيجة هكذا مواجهة محسومة سلفا، كما أنها تجد نفسها محاصرة بالمد الإيراني، الذي لا يجد أية قوة عربية في مواجهته غير السعودية في ظل الغيبوبة المصرية.

محاولة تغيير قيادة «المستقبل» لن ينتج عنها سوى تشرذم التيار الأزرق، أما إذا كان التعويل على شركاء يولدون من رحم التيار أو من على ضفافه ويشبهون «جيش الإسلام» أو «النصرة» في سوريا، فهذا لن يقود إلا إلى تدمير لبنان بشكل كامل، وسيحوّل الغلبة السياسية لحزب الله إلى هيمنة شاملة.

لبنان في المأزق الذي صنعته طوائفه بقياداتها السياسية المختلفة.

هل علينا الاختيار بين الطاعون والكوليرا؟ أم هناك خيار آخر؟

هذا هو السؤال الذي يمكن استخلاصه من الدرس السعودي- الإيراني الذي لا يزال مفتوحا على شتى الاحتمالات.

 

إلياس خوري

حقوق النشر: إلياس خوري 2017