الإسلام الليبرالي في ألمانيا...ضرب من الخيال

ردود الفعل الرافضة لافتتاح "مسجد ليبرالي" في برلين -اسمه مسجد "ابن رشد-غوته"- لم تكن مفاجأة حقيقية. لكنها رغم ذلك لا تَصلُح لأن تكون دليلاً على عجز الإسلام عامةً عن إصلاح نفسه، مثلما يرى محلل الشؤون الألمانية لؤي المدهون في تعليقه التالي لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: لؤي المدهون

من المفترض أنه كان "حدثًا عالميًا في وسط برلين". وهذا التقدير له ما يُبرِّره عند النظر إلى ردود الفعل الكبيرة في داخل ألمانيا وخارجها على افتتاح هذا "المسجد الليبرالي" جزماً، داخل كنيسة بروتستانتية في منطقة موآبيت بالعاصمة الألمانية برلين.

ففي نهاية المطاف أراد ممثِّلو وسائل الإعلام من جميع أنحاء العالم الحضور هناك، حين قامت المحامية الألمانية ذات الأصول التركية الكردية والناشطة في مجال حقوق المرأة سيران أطيش بإشهار مشروعها الإصلاحي، الذي جاء على شكل مسجد اندماجي شامل للجميع. إذْ يُرحِّب مسجد ابن رشد-غوته بجميع المسلمين: بصرف النظر عن مذاهبهم وتوجُّهاتهم الجنسية.

وبالإضافة إلى ذلك فقد تم وبكلِّ صراحة إلغاء الفصل بين الجنسين أثناء الصلاة في داخل هذا المسجد الفريد من نوعه في ألمانيا، حيث يستطيع الرجال والنساء أن يصلوا بعضهم إلى جانب بعض. وكذلك اشترك رجلٌ وامرأة معاً في إمامة صلاة الجمعة الأولى فيه. والأهم من ذلك بالنسبة لنقاشات الإسلام هنا في ألمانيا، أنَّ "الإمامة" لم تكن محجَّبة!

Sign outside St. John's Church pointing the way to the Ibn Rushd-Goethe Mosque (photo: DW/S. Kinkartz)
مسجد ليبرالي تحت أضواء الإعلام: تم افتتاح مسجد ابن رشد-غوته الليبرالي في منتصف شهر حزيران/يونيو 2017 في منطقة موآبيت في العاصمة الألمانية برلين. في هذا المسجد يصلي الرجال والنساء جنبًا إلى جنب، وهو مفتوح للمؤمنين من جميع الأديان وكذلك للملحدين. تعرَّضت مؤسِّسة هذا المسجد –المحامية الألمانية ذات الأصول التركية الكردية سيران أطيش- لانتقادات من قبل المسلمين المحافظين نظراً لشعورهم بالمساس بعقيدتهم. كما وصفته سلطة إدارة الشؤون الدينية في تركيا (دِيانَتْ) كمشروع تابع لحركة غولِن التي تصنفها أنقرة بأنَّها إرهابية، وكذلك تحدَّثت دار الإفتاء المصرية عن هجوم على الإسلام.

إسلام ليبرالي من أجل الأكثرية غير المسلمة في ألمانيا؟

وفي الحقيقة لم يكن من المفاجئ أنَّ ردود الفعل القادمة من الدول ذات الغالبية الإسلامية على افتتاح مسجد ابن رشد-غوته قد جاءت رافضة وشديدة اللهجة بشكل ملفت للنظر، وخاصة إذا أخذنا الواقع القمعي في هذه الدول بعين الاعتبار. وهذا ينطبق أيضًا على مصر وتركيا، حيث كانت الاحتجاجات على هذا المسجد البرليني شديدة للغاية. في كلا هذين البلدين تعاني السلطات الدينية من إقصاء تام عن الحياة السياسية.

ومن دون ريب فقد كانت ردود الفعل هنا في ألمانيا أكثر إثارة للاهتمام من ردود الفعل المتوقَّعة من الدول ذات الغالبية الإسلامية في الخارج. حيث كانت جميعها بصفة عامة إيجابية. فجميع وسائل الإعلام تقريبًا احتفلت بهذه المؤسَّسة الجديدة كمكان لإسلام مُتحرِّر ومُنفتح على العالم. ومثلما كان متوقعًا فإنَّ الدائرة المحافظة والأطراف "الناقدة للإسلام" وأصحاب المصالح يرون نموذج هذا المسجد بديلاً للمساجد الإسلامية التقليدية. وبحسب رأيهم فإنَّ "هذا الإسلام" هو الوحيد المناسب لألمانيا.

غير أنَّ هذه الحماسة الغامرة في وسائل الإعلام وفي أوساط السياسين لا يمكن أن تُخفِي إشكاليتين أساسيتين:

أولاً، إنَّ ما يعرف باسم "الإسلام الليبرالي" مكوَّن من أفراد ومن شخصيات عامة، ولا توجد لديه أية هياكل تستحق الذكر. في ألمانيا تم حتى الآن إطلاق العديد من مبادرات المجتمع المدني من قبل أشخاص مسلمين ليبراليين، غير أنَّ مستوى تنظيمها لا يزال منخفضًا تمامًا مثل مستوى قدرتها على التواصل مع التيَّار المسلم الرئيسي المحافظ.

ثانيًا، لا تزال حتى الآن الأطراف التي تُمثِّل الإسلام الليبرالي مبهمة المضمون للغاية. وعادةً ما تُعرِّف نفسها من خلال رفض الإسلام المحافظ. وهذا في جوهره لا يكفي ببساطة من أجل إظهار تأثير كبير لها.

احترام تعدُّدية المسلمين

لا شكَّ في أنَّ افتتاح مسجد ابن رشد-غوته يُمثِّل خطوة شجاعة وجديرة بالملاحظة. بيد أنَّ مثل هذه المساجد الليبرالية ليست بظاهرة جديدة خارج ألمانيا. إذ توجد منذ فترة طويلة مشاريع مساجد مشابهة في بريطانيا وفي الولايات المتحدَّة الأمريكية.

وبالإضافة إلى ذلك كان يجب على المؤيِّدين غير المتجانسين للإسلام الليبرالي أن يُبيِّنوا قبل افتتاح هذا المسجد بفترة طويلة المبادئ والأصول الإسلامية التي يستند إليها مفهومهم الليبرالي للدين. على سبيل المثال كان لا بدّ لهم من إجراء نقاش ذي صلة حول دور الشريعة الإسلامية في دولة القانون العلمانية. ومن المؤكَّد أنَّ هذا كان سيكون مفيدًا من أجل التمييز بين الجوانب المقبولة وغير المقبولة في الشريعة.

وبعبارة أخرى: مثلما تستند سلطة إدارة الشؤون الدينية في تركيا (دِيانَتْ) إلى "مبادئ وأصول العقيدة الإسلامية"، كان يجب أيضًا على المسلمين الليبراليين أن يُبرِّروا مساعيهم وجهودهم من حيث المضمون بالإشارة إلى مصادر إسلامية أصلية.

الإسلام الخاضع لرقابة الدولة ليست له مصداقية

لا التجاوب الضئيل مع مظاهرة المسلمين، التي خرجت في مدينة كولونيا الألمانية من أجل السلام وضد الإرهاب، ولا ردود الفعل الرافضة لافتتاح مسجد برلين الليبرالي يَصلُحان لأن يكونا دليلاً على عجز الإسلام عن إصلاح نفسه. فعلى أية حال بالإمكان ملاحظة جهود إصلاح يقوم بها ناشطون مسلمون في جميع أنحاء العالم. كما أنَّ المعركة على الحقِّ السياديّ في تفسير "الإسلام" باتت تُجرَى على قدم وساق ويكاد لا يخلو منها أي مكان.

وعلى أية حال فمن الأجدر بالسياسيين عدم تفضيل أية صيغة معيَّنة من الإسلام - لا الليبرالية ولا المحافظة. الإسلام الخاضع لرعاية أو حتى لرقابة الدولة لن تكون له أية مصداقية ولن يكون لائقاً بالديمقراطية التعدُّدية.

ولذلك سيكون من الأفضل من أجل الاستمرار في تطوير الإسلام في ألمانيا احترام التعدُّدية الموجودة في الواقع لدى المسلمين واحترام الاختلافات في فهمهم للإسلام ضمن إطار مبادئنا الأساسية الديمقراطية الألمانية الحرّة والاستمرار في تعزيز دمجه المؤسَّساتي.

 

 

لؤي المدهون

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2017

ar.Qantara.de

 

[embed:render:embedded:node:19102]