هذه الإساءات لقضية القدس في الغرب

عبد الكريم أهروبا: ماذا يعنى أن يرفع المتظاهرون أصواتهم بالتكبير في وسط المدائن الغربية المسيحية؟ لا يكون الدفاع الحقيقي عن القضايا العادلة للمسلمين، كقضية القدس، عبر الضجيج والصراخ، واستهلاك سردياتٍ عنصريةٍ، تفوح منها رائحة معاداة السامية النتنة تملأ بها حناجر الغاضبين عنان السماء في بلدٍ كألمانيا.

الكاتبة ، الكاتب: عبد الكريم أهروبا

على غرار الاحتجاجات في دول كثيرة، عقب قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، باعتبارها عاصمة إسرائيل الأبدية، اندلعت في بعض المدن الألمانية، منها برلين، مظاهرات غاضبة مندّدة بالقرار، ومستنكرة له، رُفعت فيها شعارات معادية لليهود، وأحرقت فيها أعلام إسرائيلية، وهتف فيها المتظاهرون بموت إسرائيل. وقد انتهت هذه الاحتجاجات باعتقال الشرطة مجموعة من المتظاهرين، ليبدأ بعدها مباشرة النقاش بشأن استشراء عداء السامية بين المسلمين، فتفقد قضية القدس بذلك معناها سياسيا وإعلاميا في المجتمع الألماني.

وسرعان ما صرح وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال الألمانية، توماس دي مايزير، صباح يوم الاثنين، لصحيفة بيلد واسعة الانتشار، بأن بلاده "لن تقبل أن يُهان اليهود أو تهان دولة إسرائيل بهذا الشكل المشين". وعبّر وزير الخارجية، زيغمار غابرييل، عن رفضه الشديد لهذا السلوك، وأكد أنه "على الرغم من كل الانتقادات المبرّرة للقرار الأميركي بشأن القدس، فإنه لا يوجد أي مسوغ لحرق الأعلام الإسرائيلية"، وأن دولة القانون في ألمانيا "لا، ولن تتسامح مع هذا الأمر البتة".

"آن للعرب والمسلمين في الغرب أن يتناولوا ملف معاداة السامية بجدية وحزم"

لم تختلف المظاهرات المندّدة بقرار ترامب كثيرا عن مثيلاتها المناهضة لسياسة إسرائيل التي تجوب شوارع الحواضر الكبرى في الغرب، عقب أي تصعيد في القدس أو غزة أو الضفة الغربية، فأغلبها احتجاجات حماسية صاخبة، تحكمها الفوضى، والعاطفة، والجهل بالواقع، ويغيب عنها العقل، والحكمة، والتنظيم المحكم. فما جدوى أن تنظم مظاهرات في قلب أوروبا مندّدة بالعدوان على المسجد الأقصى، أو مستنكرة نقل السفارة الأميركية إلى القدس، فتكون معظم الشعارات التي يصدح بها المتظاهرون باللغة العربية كأنها مونولوغ علني مفتوح.

وماذا يعنى أن يرفع المتظاهرون أصواتهم بالتكبير "الله أكبر" في وسط المدائن الغربية المسيحية، وأن يصرخوا ملءَ أفواههم "بالروح بالدم نفديك يا أقصى"؟ كيف يتصوّر هؤلاء أن يكون وقع هذه الكلمات على الأوروبيين، عندما تترجم إلى لغاتهم، وكيف يتوقعون أن تكون ردة فعل الرأي العام الذي يريدون أن يوصلوا إليه رسالتهم، ويسعون جاهدين إلى كسب تأييده، وتعاطفه، وصور ذبح الناس المقرونة بالتكبير لا زالت عالقة في الأذهان، وتعجّ بها المواقع الاجتماعية؟

طفل يحمل عبارة "إسرائيل.. لا تقتليني" في مظاهرة ببرلين
طفل يحمل عبارة "إسرائيل.. لا تقتليني" في مظاهرة ببرلين

من يقارن بين المظاهرات المؤيدة لإسرائيل وتلك المؤيدة لفلسطين يجد بينهما اختلافا كبيرا في كل شيء، يظهر جليا في ما تحققه كل منهما على أرض الواقع. ففي حين تكون أولاهما منضبطةً هادئةً، تتحدث بلسان القوم فتحقق أهدافها، ومآربها، وتوصل رسائلها إلى الرأي العام باحترافية، وهدوء، تكون الأخرى على العكس من ذلك تماما، لا زالت تراوح مكانها، ولم تحقق أي شيء سوى مزيدٍ من الريبة، والخوف، ونأي المجتمع عن التعاطف مع قضاياها.

"المظاهرات المؤيدة لإسرائيل منضبطةً هادئةً، تتحدث بلسان القوم فتحقق أهدافها، ومآربها"

لقد أثبتت تجارب العرب والمسلمين، في العقود الخالية، أن معظم الاحتجاجات التي تنظم في الغرب بهذا الشكل الساذج الذي تُمزج فيه قضاياهم العادلة بما لا يليق بها من الشوائب المشينة لا طائل من ورائها. فهي تظل، في غالب الأحيان، جعجعة لا طحن لها تأتي بخلاف ما تشتهيه. فتُحوِّر وجهة الرأي العام، وتُحوِّل بصره إلى وجهاتٍ أخرى ثانوية، تتوارى فيها مسألة القدس عن الأنظار، وتغيب في متاهاتها قضايا عربية مهمة كالاحتلال الإسرائيلي، والاستيطان، والفصل العنصري، والانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان، والقانون الدولي، حتى تذهب في آخر المطاف رياح الجهود المبذولة لإثارة انتباه الرأي العام الغربي في هذا الشأن أدراج الرياح. وقد كانت كل واحدةٍ من هذه القضايا حتما ستؤتي أكلها، لو تمت معالجتها معالجة سليمة، وطرحت في قالبها الإنساني على نحوٍ يناسب تقاليد المجتمعات الغربية، وثقافتها.

لا يكون الدفاع الحقيقي عن القضايا العادلة للمسلمين، كقضية القدس، عبر الضجيج، والصراخ، واستهلاك سردياتٍ عنصريةٍ، تفوح منها رائحة معاداة السامية النتنة تملأ بها حناجر الغاضبين عنان السماء في بلدٍ كألمانيا، تربطه علاقة مميزة بإسرائيل، ويتعامل مع هذا الملف، على وجه الخصوص، بحساسية بالغة نتيجة تاريخه النازي الذي أودى، إبّان الحرب العالمية الثانية، في بشاعة منقطعة النظير، بحياة أزيد من ستة ملايين يهودي.

لقد آن للعرب والمسلمين في الغرب أن يتناولوا ملف معاداة السامية بجدية وحزم، وأن يعلموا أنها عنصريةٌ مقيتةٌ ما فتئت تشوه صورة القضية الفلسطينية العادلة منذ عقود، وتلحق بها ضررا بليغا أحرج متعاطفين كثيرين معها، والداعمين لها من المنصفين في أوساط المجتمع الغربي، ما جعلها تفقد حضورها الذي يليق بها في الرأي العام. إن خسارة نُصرة هؤلاء حماقة سياسية، وإجحاف كبير في حق القدس، والقضية الفلسطينية بشكل عام، المستفيد الوحيد منها هو إسرائيل.

 

عبد الكريم أهروبا

حقوق النشر: العربي الجديد& عبد الكريم أهروبا 2017

كاتب مغربي يقيم في ألمانيا، عضو في الاتحاد الألماني للصحفيين الأحرار.