سيمفونيات بيتهوفن...تخليد للأبعاد الإنسانية والتحررية للثورات

لقد قدم الفلاسفة تفسيرات مختلفة للعالم وللحياة البشرية، فيما قامت الثورة بما هو أهم من ذلك بكثير، وهو: إحداث "تغيير" على العالم. عارف حجاج يسلط الضوء لموقع قنطرة على ما قصدته نايكي فاغنر حفيدة عملاق الموسيقى الألماني ريشارد فاغنر ومديرة مهرجان بيتهوفن السنوي حين وضعت مصطلح "الثورات" شعارا لمهرجان عام 2016.

الكاتبة ، الكاتب: عارف حجاج

ما الذي قصدته نايكي فاغنر حفيدة عملاق الموسيقى ريشارد فاغنر ومديرة مهرجان بيتهوفن السنوي في مدينة بون الألمانية الواقعة على ضفاف نهر الراين عندما وضعت مصطلح "الثورات" شعارا لمهرجان عام 2016؟

قالت بدايةً إن هذا الموسيقي العملاق الفريد من نوعه عاصر مجموعة من الثورات والانتفاضات في القارة الأوروبية وتشبع بأفكارها ومطالبها الشعبية، مما انعكس كما هو الحال في السمفونية الثالثة "إرويكا، أي البطولة" على أوائل أعماله الموسيقية الكبرى. لكن سرعان ما توترت علاقته بالثورة الفرنسية تحديدا. فقدأعجب بداية بشخص وأفكار نابليون حاله حال الكثيرين من الأدباء والمفكرين الألمان في عصره مثل فيشتي وهردر، إلى أن اكتشف بأن الأفكار التحررية الثورية والتنويرية التي بنيت على أفكار روسو ومنتسكيو وغيرهما ترجمت ميدانيا في آخر المطاف إلى نماذج سياسية تسلطية وبمنطلق قومي ضيق لم يأبه عن قريب أو بعيد بمصالح دول أخرى منها ألمانيا.

وقوع الثورة أسيرة للأطماع الإمبريالية

وقد خلد بيتهوفن الثورة الفرنسية في سيمفونيته الثالثة (البطولة) إيماناً منه بداية بأممية تلك الثورة وأبعادها الإنسانية التحررية. لكنه لاحظ بعد فترة قصيرة بأن رواد الثورة الفرنسية وعلى رأسهم نابليون لم يكترثوا بعنصر الأممية والمساواة بين شعوب العالم بل أرادوا تكريس عودة العظمة إلى الدولة الفرنسية الملكية أولا ومن ثم الإمبراطورية على حساب تلك الشعوب بما فيها ألمانيا التي وقعت بعد سنوات قليلة -حالها حال مصر ودول الشام- أسيرة للأطماع الإمبريالية الفرنسية.

تونس
المتظاهرون في تونس علّقوا في احتجاجاتهم صورة "الشهيد التونسي بوعزيزي" الذي صار معروفاً كنار على علم، لأنه وبالنار أحرق نفسه وأنهى حياته احتجاجاً على الأوضاع المزرية في بلاده ومشعلاً ثورات العرب كما لم يحصل في أي زمان.

كالمعتاد كانت أعمال بيتهوفن هذا العام محور أنشطة المهرجان حيث قدمت في قصر لاريدوت في ضاحية باد غودسبيرغ حفلة موسيقى مسائية تسمى سرنادة لجوقة زيفرينو الإيطالية لأعمال كل من بيتهوفن وموتزارت، علما بأن الثاني كان أكثر إخصابا في إنتاج ألحان السرنادة وإن ندرت لديه هو أيضا. مصطلح "سرنادة" يعني موسيقى وغناء ورقص البهجة والمرح في المساء، وقد تطور هذا النمط مع مرور الزمن بحيث أصبح يطلق على التأليف الموسيقي الخفيف المنم عن المتعة والسعادة. تستخدم هذه الجوقة أجهزة الموسيقى المسماة "النفخ في البوق" كآلات المزمار والفوغة والبوق والباسون والنفير.

ومن المقطوعات التي عزفها الفنانون الإيطاليون المشهورون عالميا كونشيرتو لأوبرا مشهورة لموتزارت تسمى "دون جواني" أي دون خوان. الجدير بالذكر أن هذه الصيغة الموسيقية البحتة للأوبرا تعود لرغبة الملوك والأمراء في القرنين السابع عشر والثامن عشر في سماع موسيقى الأوبرا في قصورهم بعد أن تمتعوا بها من قبل في صالات العروض الموسيقية نظرا لانعدام الأقراص المضغوطة  في تلك العصور. موسيقى السيرنادة أطلق عليها تسمية "الانسجام" الذي شكل بلا شك أحد أهم مكوناتها.

انتقل بنا برنامج مهرجان بيتهوفن سريعا من نمط "الانسجام" الممتع إلى تيار المرح المبني على الاستدامة الكلاسيكية للموسيقى حيث شاهد المتفرجون في أحد العروض المسائية العديدة مقطوعات لكل من بيتهوفن والفرنسي بيرليو على وتيرة ما يسمى "إس دور" Es Dur المعبرة عن البهجة، وهو ما عرفه المرء نادرا لدى بيتهوفن.

مصر
منذ اندلاع الثورة المصرية عام 2011 وحركة الحرية في مصر والعالم العربي ما زالت مستمرة. إذ ورغم سقوط نظام مبارك، فإن الكثير من المصريين يشعرون بخيبة أمل من ظروف البلاد. ولهذا فإن القاهرة ستظل مسرحا للمظاهرات والمواجهات بين مختلف الأطياف السياسية، كما يرى مراقبون.

الطوح الثوري...نمط الاندفاع "الثوري" في الموسيقى

أما في حالة بيرليو فقد اختلطت نغماته المرحة بأحاسيس الأمل المفقود والحنين، نظرا لأنه كان يعشق فنانة جميلة لم تبادله الحب الأمر الذي شحذ لديه الرغبة في الإبداع كما لو كان يبحث عن خلاص من معاناته العاطفية. وكان أحد خبراء هذا العصر قد وصف أعمال هذا الموسيقي المبدع بأنها مزيج من العسل والعلقم في آن واحد. عازف البيانو في مقطوعة بيتهوفن هو الفنان المشهور عالميا كريستيان زكريا الذي ينحدر من عائلة موسيقية عريقة فأحد أقربائه هيلموت الذي عاش أواخر سنين عمره في مدينة بريساغو السويسرية كان من أشهر وأبرع عازفي الكمان في أوروبا.

اليمن
يرى الخبير السياسي اليمني محمد جُميح أن من عوامل سقوط صنعاء في أيدي المتمردين الحوثيين في سبتمبر/ أيلول 2014 هو كل من انضم إليهم كالرئيس السابق علي عبد الله صالح ونظامه ومؤيديه وحلفائه القبليين ومواليه في المؤسسة العسكرية وكل من له ثأر من العهد السياسي التوافقي الذي تشكل بعد ثورة 2011 الشبابية السلمية، إضافة إلى عدم إتمام إعادة هيكلة القوات المسلحة والأمن وعدم الخروج بسرعة من المرحلة الانتقالية.

بجانب الانسجام والمرح الابداعي هناك نمط ثالث عرضه مهرجان بيتهوفن على نحو مكثف وهو نمط الاندفاع "الثوري". ففي إحدى الحفلات الموسيقية عزفت أوركسترا أكاترينبورغ الفيلهارمونية الشهيرة في روسيا قطعا تعبر مباشرة أو بصورة غير مباشرة عن الطوح الثوري. القطعة الأولى كانت لبيتهوفن ومنطلقها محبة الإنسان والتصدي لقمع وطغيان الحاكم، استنادا إلى الميثولوجيا الإغريقية بشأن الإله بروميثيوس الذي تمرد على أكبر آلهة الإغريق زيوس وتعرض لعقوبته وتعذيبه دفاعا عن المخلوق.

وهنا يلاحظ المرء بعض التقارب بين هذه الأسطورة القديمة وأسطورة أوزوريس لدى المثولوجيا المصرية القديمة. مقطوعة بيتهوفن الموسيقية هذه استندت إلى باليه ألفها سلفاتوري فيغانو في مطلع القرن التاسع عشر. أما عمل الموسيقي الروسي الحديث سيرغي بروكوفيف الذي عزفته الأركسترا المذكورة فلم يكن ثوريا بمفهوم مجرد نظري بل جاء معبرا على نحو ميداني صارخ بأهمية الأحداث الثورية التي وقعت في البلاد في أكتوبر (تشرين الأول) 1917.

الطريف أنه وجد في هذه المقطوعة ثورة أكتوبر التي كانت قد مضت على قيامها 20 عاما وأطلق على عمله تسمية "كانتات" التي درج باخ على سبيل المثال على استخدامها في الطقوس الكنسية. لكن بروكوفيف أكسب على هذا النمط الموسيقي طابعا علمانيا ماركسيا، أي أنه حررها من قيود الطقوس الدينية. تضمنت ملحمة بروكوفيف الإشارة إلى المانيفستو الشيوعي وتمجيد أفمار ماركس وإنغيلز ولينين، لكي تصل إلى الاستنتاج بأن الفلاسفة قدموا تفسيرات مختلفة للعالم وللحياة البشرية فيما قامت الثورة بما هو أهم كثيرا من ذلك وهو إحداث "تغيير"على العالم. مقطوعة هذا الموسيقي الروسية تتسم بحيوية فائقة، فقد نجحت في ترجمة أحداث الثورة وما رافقها من ويلات الحرب والدمار إلى ملحمة موسيقية تعج بالحياة.

"نعم للجسور - لا للجدران"

 يشارك بمهرجان بيتهوفن عاما بعد عام عازف البيانو المجري الشهير اندراش شيف. لكنه شارك هذه المرة من خلال موسيقيين شباب لم يكونوا يوما ما تلاميذه بالمعنى الحقيقي، فهو لم ينخرط في حقل تعليم الموسيقى والفن. لكنه أشرف عليهم واعتنى بمستقبلهم الفني من خلال توظيف سمعته العالمية واتصالاته المتشعبة لإقامة حفلات موسيقية لهم في قاعات شهيرة في أوروبا والولايات المتحدة.

 وبحكم تعلقه بموسيقى بيتهوفن لم يكن من المدهش أن هؤلاء الفنانين الشباب شاركوا بالمهرجان بمقطوعات "سوناتا" مشهورة لهذا الموسيقي تضمنت بالإضافة إلى البيانو عزفا بآلات موسيقية أخرى هي تحديدا الكمان والتشيلو.

[embed:render:embedded:node:14472]

ينتمي هؤلاء الفنانون إلى عدة دول هي ألمانيا وروسيا وبولندا والولايات المتحدة وقد أبدع بصورة خاصة الأمريكي تشاد هوبس عازف الكمان علما بأنه فاز بمجموعة من الجوائز أشهرها جائزة يهودي منوين الذي لم يكن من عباقرة عازفي الكمان فحسب بل اشتهر أيضا بمواقفه السياسية الجريئة النابعة من حبه للسلام والعدل والمساواة بين سائر البشر. وقد سبق له أن أنشأ مجلسا يختص بشؤون الموسيقى وحقوق الإنسان تبنى فيه شعار "نعم للجسور لا للجدران" رافضا بذلك المواقف السياسية العنصرية التي يتبناها رئيس الوزراء المجري أوربان تجاه اللاجئين على وجه خاص وتجاه كل من عارض سياسته اليمينية المتشددة في الداخل وفي صفوف  الاتحاد الأوروبي.

اتضحت معالم "الثورة" كذلك في حفل لرباعي عازفي الكمان والتشيلو من مدينة فينيسيا الإيطالية حيث جرت الحفلة الموسيقية في كنيسة القديسة هيلديغارد الكاثوليكية الواقعة في ضاحية باد غوديسبرغ التابعة لبون. وذلك لأن هذه الكنيسة صممت معماريا ومن حيث جلوس الأشخاص أثناء أداء الصلاة لا على النحو الكنسي المعهود بل وفقا لطقوس معبد بانتيون في روما الذي شيد في عهد ما قبل ظهور المسيحية. كما أن التصميم المعماري لتلك الكنيسة يشابه المعبد الروماني المذكور.

 

 

عارف حجاج

حقوق النشر: موقع قنطرة 2016

ar.Qantara.de