ضرب وركل وحرمان ودروس في "الجنس الأمريكي"

"يوميات غوانتانامو" كتاب دونه محمد ولد صلاحي وهو في معتقله الأمريكي، يوثق نحو عقد من "الحرب الأمريكية على الإرهاب". دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق فوَّض سلطاته باستجواب الموريتاني المشتبه بتآمره دون دليل مع تنظيم القاعدة، وقَبِلَ بتعذيبه إنْ اقتضت الضرورة. الصحفي عمران فيروز يسلط الضوء لموقع قنطرة على انطباعات السجين صلاحي التي تحكي حتى عن قصص حب في السجن، متميزةً عن تقارير أخرى تنزع عن المعتقلين إنسانيتهم ولا ترى فيهم سوى الشر والتوحش الهمجي.

الكاتبة ، الكاتب: Emran Feroz

سرعان ما يكتشف قارئ "دفتر يوميات غوانتانامو" أنَّ هذا الكتاب ليس عاديًا، فالكثير من الكلمات والجمل والصفحات تم طمسها باللون الأسود، لأنها وقعت ضحية رقابة الولايات المتحدة الأمريكية. ولكنَّ الرقابة ليست سوى جزءٍ من هذا النظام. والكلمات ليست أكبر الضحايا إنما البشر. محمد ولد صلاحي واحدٌ من هؤلاء الضحايا. واحدٌ من كثيرين.

رحلة عذاب المعتقل الموريتاني بدأت منذ زمن، حيث قاتل صلاحي في أفغانستان جنبًا إلى جنب مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) والمجاهدين الأفغان ضد الحكومة التي كانت ألعوبة بيد الاتحاد السوفيتي، واعتـُقل أوَّل مرةٍ في سنة 2000 من قبل السلطات الموريتانية. وبعد ذلك اعتـُقل المرة تلو الأخرى بذريعة أنه متورِّطٌ بهذا النشاط أو ذاك أو أنَّهُ شُوهِدَ مع هذا الشخص أو ذاك، لكنْ لم تكُن هناك أدلةٌ ملموسة ضده إطلاقًا.

كما أنَّ كلاًّ من ألمانيا حيث درس صلاحي، وكندا حيث عمل فترةً من الزمن، أقرتا بنظافة سجلِّه. وقد أُجبرت المخابرات الموريتانية بالتحقيق معه المرة تلو الأخرى بسبب ضغوط الولايات المتحدة الأمريكية. وبات الأمرُ نوعًا من الروتين بالنسبة لصلاحي، الذي كانت تربطه علاقة ودية بمعظم الموظفين، علاقة مبنية على الاحترام المتبادل، فكان يعرف همومهم وقصص عائلاتهم، بينما كان كلٌّ منهم يعلم أنَّ صلاحي بريءٌ تمامًا. ولم يتوقع أبدًا أنْ يتم تسليمه ذات يوم.

Mohammedou Ould Slahi; Foto: International Committee of the Red Cross/Wikimedia Commons
يقبع محمد ولد صلاحي منذ سنة 2002 في سجون غوانتانامو بالرغم من عدم إثبات أية تهمةٍ عليه حتى اليوم، ورغم عدم إثبات أنه شارك في أية أنشطةٍ إرهابية.

بيد أنَّ ذلك تغيَّر فجأةً في سنة 2001، فبعد أسابيع قليلةٍ على هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر تم ترحيل صلاحي إلى المعتقل في الأردن، بينما يُعتبَر النظام الأردني من أقرب حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في "الحرب على الإرهاب" وهو معروفٌ بأساليبه في التعذيب على وجه الخصوص. هناك وُضِع صلاحي عدة أشهرٍ في سجن تحت حراسة مشدَّدة، إلا أنَّ الأردنيين لم يستطيعوا أيضًا أن يثبتوا عليه أية تهمة.

ثمَّ نُقل بعد ذلك إلى قاعدة بغرام الجوية في أفغانستان، فكانت المحطة الأخيرة قبل نقله إلى غوانتانامو. ووفقًا للتقارير يكاد معسكر الاعتقال في كوبا أن يكون فردوسيًا مقارنةً بالمعتقل في القاعدة الجوية الأمريكية في بغرام. الجدير بالذكر أنَّ الأفغان لم يُحمَّلوا مسؤولية إدارة هذا السجن بالكامل إلا بعد فترة وجيزة على صدور تقرير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) للتعذيب. وقد شاهد صلاحي في بغرام كيف كان المسنّون الأفغان يُعتقلون ويتعرضون للأذى والتعذيب بسبب أغبى الشكوك وحالات الاشتباه.

درس في "الجنس الأمريكي"

عندما وصل صلاحي إلى غوانتانامو لم يكُن يَعرف بمكان وجوده بدايةً. ولكن بعد غياهب سجون عمَّان وبغرام آثرَ الاستمتاع بالشمس – حتى لدى تعرُّضه للضرب في العراء. هذا ويتكرر في كتاب صلاحي ذكر نقص أشعة الشمس، ونقص الضوء، بل ونقص الحرية. الكتاب الذي دُوِّن بالكامل في زنزانته بخط اليد.

تعلم هناك اللغة الإنجليزية أيضًا، التي لم يكُن يتقنها في البداية. إن حقيقة بقاء صلاحي قابعًا في هذه الزنزانة وتعرضه للتعذيب في كل لحظة أثناء قراءة الكتاب هي مسألة خانقة تلازم القارئ طوال الوقت.

معظم أساليب التعذيب في غوانتانامو معروفة منذ فترة طويلة. ومع ذلك، تبدو مخيفةً أكثر لدى روايتها من قبل الشخص المعني. السجّانات اللواتي ينتهكن صلاحي ويغتصبنه من خلال تلقينه درسًا في "الجنس الأمريكي"، والحرمان المستمر من النوم، والضربات والركلات التي لا تـُعد ولا تحصى، وحظر الصلاة، والتعرض لعدد كبير من الفظائع الأخرى توضح مرة أخرى الظلم اليومي في المعتقل.

إلا أنَّ صلاحي لم ينسَ في ظلِّ كلِّ هذه الظروف أنَّ معذبيه بشرٌ مهما بلغت درجات فظاعاتهم. وهكذا نجده لا يكتب فقط عن الحرَّاس القوميين المتطرفين الذين يمقتون صلواته باعتبارها "إهانة لأمتهم"، بل يكتب أيضًا عن أولئك الذين بكوا لدى انتهاء عملهم ومغادرتهم المعتقل مؤكدين على صداقتهم له. "أيها الرجال أنتم إخواني"، قال أحدهم. وعندما باحت إحدى الممرضات بحبها لأحد السجناء، الأمر الذي أدى لتلعثمه، ضحك صلاحي.

Buchcover Guantanamo-Tagebuch; Foto: Tropen-Verlag
انتقام عبر التحقير والتعذيب المرخصين في غوانتانامو: بعد ضربات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر سنة 2001 أنشأت الولايات المتحدة الأمريكية التي كان يرأسها آنذاك الرئيس جورج دبليو بوش معتقل للمشتبه بهم بالإرهاب وذلك على قاعدة غوانتانامو العسكرية والبالغة مساحتها 116 كيلومترًا مربعًا. المدافعون عن حقوق الإنسان ينتقدون وجود النزلاء هنالك بعيدًا عن حماية دولة القانون. وكان أوباما قد وعد لدى تبوئه منصبه سنة 2009 بإغلاق المعتقل، إلا أنه فشل حتى الآن إزاء رفض الكونغرس الأمريكي للأمر.

هذه الانطباعات بالذات تميِّز رؤية صلاحي عن كثيرين آخرين – وبالأخص عن التقارير المتعلقة بالسيرة الذاتية التي كتبها جنود أمريكيون ممن لا يرون في العراقيين والأفغان سوى الشر أو التوحش الهمجي في كثير من الأحيان وبالتالي ينزعون عنهم إنسانيتهم تمامًا.

صلاحي مُنِعَ من قراءة كتابه

"أعتقد أنَّ للكتاب تأثيرًا قويًا للغاية. يعرف الناس الآن كيف يشعر المرء عندما يكون ضحيةً للسجن بغير حق ومعرَّضًا للتعذيب باستمرار"، حسبما تؤكد نانسي هولاندر محامية صلاحي. لا بل وهي غير متأكدة مما إذا كان موكِّلُها على علمٍ بنشر الكتاب ونجاحه، وقد صار الآن على قائمة صحيفة "نيويورك تايمز" للكتب الأكثر مبيعًا.

ليندا مورينو، وهي محامية أخرى وناشرة كتاب اليوميات، زارت صلاحي في شهر شباط/فبراير 2015 وأخبرته عن نجاح الكتاب. ولم تكُن تستطيع مورينو قبل نشر الكتاب الاتصال بالسجين ولا حتى مرة واحدة في سبيل الحديث معه عن المخطوط وعن التصحيحات والتغييرات المحتملة. لذلك تصرفت ببساطة بما يمليه عليها ضميرها ومعرفتها، كما تؤكد بوضوح في مقدمة الكتاب.

أرادت مورينو أيضًا أنْ تعطي صلاحي نسخةً من كتابه الأكثر مبيعًا. إلا أنَّ السلطات في غوانتانامو رفضت ذلك، فوفقا للقواعد والتوجيهات المعمول بها هناك، لا يحق لصلاحي أنْ يقرأ كتابه. والسبب سخيف: بالرغم من أنَّه المؤلف، إلا أنَّ المقدَّمة والحواشي لا تعود إليه، وهذه الفقرات من شأنها – وفقًا للسلطات – أنْ تحوي "معلومات تُعتبر سرِّية". وفي هذه الأثناء تمت مصادرة كل الكتب تقريبًا التي كان يملكها صلاحي. والكتاب الوحيد الذي سمح له أنْ يحتفظ به حتى اليوم هو القرآن.

أتيحت الفرصة لصلاحي للمرة الأولى من خلال زيارة مورينو أنْ يشرح وجهة نظره في الأمور منذ نشر الكتاب. لكن ليس مسموحًا لمحاميته أنْ تنشر ما قاله. هنا أيضًا تلعب رقابة النظام دورها حيث تصنِّف مقتطفات من تصريحاته باعتبارها "سرِّيةً" وبالتالي تمنع نشرها، حاليًا على الأقل.

تعلَّم صلاحي خلف قضبان السجن اللغة الانكليزية، "لغة العدو"، إلا أنه فُطِر على رواية القصص. وهو الذي تعرض للتعذيب يسعى باستمرار لأنْ يبقى منصفًا. واحتفاظه بنزعة الفكاهة اللاذعة لديه حتى بعد كل الظلم الذي عايشه، يدهش حتى قُرَّاءه، إلا أنه لا نهاية ليوميات صلاحي، وذات يوم عندما تتحقق في نهاية المطاف العدالة لصلاحي يُفترض أن تُنشر نسخة كاملة للكتاب، غير مطموسةٍ بالأسود، وغير خاضعةٍ للرقابة، ومكتوبة خارج المعتقل بحرية.

 

 

عمران فيروز

ترجمة: يوسف حجازي

حقوق النشر: قنطرة 2015 ar.qantara.de