بينالي يوغيا- ثقافة المتناقضات وعالم التوترات

يعدّ بينالي يوغيا في عاصمة الثقافة الإندونيسية يوجياكارتا واحدًا من أهم الفعاليَّات الفنِّية المعاصرة في إندونيسيا. وقد شارك في دورته الحالية التي أقيمت تحت عنوان "خطوط الظلّ" أربعون فنَّانا من إندونيسيا والهند بأعمال تتناول موضوع "التديّن والروحانيات والإيمان". المزيد مع كريستينا شوتّ من يوجياكارتا.



يدوي صدى صوت أدوات معدنية في أرض متحف يوغيا الوطني الواسعة في يوجياكارتا. وإذا حاولنا معرفة مصدر هذا الصوت وإن كان يصدر من قرع أجراس كنائس أو من أجراس صلاة بوذية، فيجب علينا في البدء السير تحت تركيب مكوَّن من قضبان خيزران ملفوفة بألياف جوز الهند للفنَّان الهندي فالسان كورما كولري وصولاً إلى فناء الجناح الشمالي؛ حيث نجد هناك أعمدة خشبية لبيت تقليدي جاوي معلّقة عليها نواقيس صدئة يتم قرعها تلقائيًا بمطارق كلَّ بضع دقائق.

وهناك قصص وأساطير مطبوعة معلّقة على الجدران تتحدَّث عن قرون مختلفة من تاريخ جاوة الحافل بالأحداث - عن وصول الآلهة الهندوسية وبعض العلماء المسلمين والمبشِّرين المسيحيين، عن نشأة جبل سيميرو Semeru المقدَّس في شرق الجزيرة وعن تطوير الثقافات الذي لم يقف عند أي حدّ إبَّان عهد الاستعمار.

عالم التناقضات

يبدو العمل التركيبي "موقع الآلهة Site of Gods"

الصورة كريستسانه شوت
رموز إسلامية في أعمال فنِّية - عرض المصوِّر ويمو أمبالا بايانغ في الدورة الحادية عشر من بينالي يوغيا - خط الإستواء رقم 1 صورًا لمجسَّمات للكعبة وضعت في مراكز تحضير الإندونيسيين الذين يستعدّون لأداء فريضة الحج

​​للفنَّان الجاوي جومبت كوسويدانانتو مثل مقدمة شاملة لبينالي يوغيا الحادي عشر - خط الإستواء رقم 1، ويعتبر إندونيسيا "ثقافة بين التقليد والحداثة وبين الاستعمار والاستقلال وبين الشرق والغرب وبين المجتمع الزراعي والمجتمع الصناعي وبين السكَّان الأصليين والغرباء"، يسود فيها "مزيج من قيم غير مستقرة" كما أنَّها "غير كاملة ومربكة" - وهي كذلك متنوِّعة أكثر ومساحتها أكبر من أن تشكِّل هوية واحدة.

لا يوجد مكان آخر في إندونيسيا يظهر فيه تاريخ هذا الأرخبيل بتعدّديتة الثقافية والدينية مثلما يظهر هنا بوضوح في مدينة يوجياكارتا مركز جزيرة جاوة والتي تعدّ حتى يومنا هذا سلطنة مسلمة تتمتَّع بحكم ذاتي وتشتهر بمعابدها الهندوسية والبوذية التي تعود إلى القرون الوسطى وكذلك بكونها مركزًا للفنّ الحديث في جنوب شرق آسيا. وهي المكان المناسب لمحاولة التقريب الفنِّي بين المذاهب والأديان من مختلف الثقافات. كتبت القيِّمة على هذا البينالي عليا سواستيكا في دليل المعرض: "على الرغم من أنَّ فكرة التنظيم قد نشأت في البداية من ردة فعل عفوية على النزاعات الكثيرة التي يتم خوضها باسم الدين، لكن قمنا في النهاية بتوسيعها لتشمل الشعائر الدينية والإيمان والروحانيات باعتبارها جزء من المجتمع الإندونيسي المعاصر". لكن تنوِّه القيِّمة الهندية سومان غوبيناث المشاركة معها في تنظيم هذا المعرض إلى أنَّ المُثل العليا المشتركة الخاصة بالتعدّدية والتعايش السلمي أصبحت معرّضة الآن لتهديدات جدية من قبل قوى أصولية؛ تهددها في الهند الهندوتفا المتطرِّفة والإسلامويون في إندونيسيا.

ولكن لا يوجد في المعرض سوى بعض الأعمال التي تتناول موضوع العنف الديني بصورة مباشرة. فمعظم الفنَّانين يستكشفون التأثير المتبادل بين السياسة والدين، وتحويل الأشياء إلى أصنام والعناصر الأسطورية والغامضة في الحياة اليومية وكذلك هويتهم الدينية الخاصة التي كثيرًا ما تظهر مرتبطة بالجسد خاصة في أعمال الفنَّانات. "لا يعدّ الفنّ الحديث في إندونيسيا متطرِّفًا بصورة خاصة، إذ إنَّ عددًا قليلاً من الفنَّانين يجرؤون على تناول موضوع الدين - وخاصة الإسلام - على هذا النحو. فهم يمارسون من دون وعي رقابة ذاتية"، مثلما تقول الفنَّانة الرحمياني المختصة بفنّ الأداء، والتي أثارت بأعمالهم الاستفزازية أكثر من مرة غضب الأصوليين الإسلاميين ضدها.

الجانب الإنساني في الدين

يعرض عملها التركيبي الذي يحمل عنوان "خياطة الجروح Stitching the Wounds" كتابة لفظ الجلالة "الله" بحروف عربية ضخمة الحجم مصنوعة بشكل وسائد ألوانها زاهية ومعلّقة من السقف إلى أسفل أو ممدودة على الأرض بشكل مريح. تقول هذه الفنَّانة المسلمة: "في الكثير من البلدان يتم دائمًا وعلى الفور ربط الخطّ العربي بإسلام متشدِّد والاضطهاد. ولكن بالنسبة لي كلمة الله تعني الحب، وأنا أريد إظهار الجانب الإنساني في الدين".

أحد المعروضات الفنية
عمل تركيبي متعدد الوسائط فيه ستائر قماش سوداء اللون من الخارج ومعلّقة بشكل مكعب صوّرت عليها لوحات في الداخل للفنَّان الجاوي سيتو ليغي بعنوان "الأصنام" ينتقد فيه التوثين الديني وتجارة الحج

​​لم يجرؤ أحد من الفنَّانين الإندونيسيين الآخرين على استخدام الرموز الإسلامية في أعمالهم سوى فنَّانين اثنين فقط عدا الفنَّانة الرحماني. فقد قام المصوِّر ويمو أمبالا بايانغ في مجموعته الفوتوغرافية التي تحمل عنوان "الكعبة" بتصوير مجسَّمات للكعبة وضعت في مراكز تحضير الإندونيسيين الذين يستعدّون لأداء فريضة الحج ويتدرّبون هنا على تطبيق أهم مناسك حجهم. وصوره البانورامية الملتقطة بوضوح تتناقض تناقضًا حادًا من خلال خلوها من الناس مع الصور المعروفة من مكة المكرمة، كما أنَّها تشير في بساطتها إلى السذاجة التي ترافق الكثير من المسلمين الإندونيسيين في رحلة حياتهم.

اختار الفنَّان الجاوي سيتو ليغي موضوعًا سياسيًا وطنيًا أكثر وضوحًا في عمله التركيبي "Berhala أصنام" الذي تم فيه تنسيق أشياء رمزية مختلفة منها بئر وشجرة جرداء وقبة مسجد يحيطها مكعَّب من قماش أسود اللون يذكِّر بالكعبة في مكة المكرمة. وفي المكعَّب من الداخل تشاهد لوحة لجمع غفير من الناس غائري العينين يندفعون إلى وزارة الشؤون الدينية الإندونيسية التي تقوم في كلِّ عام بمنح تصاريح محدودة من أجل أداء فريضة الحج وتكسب من خلال ذلك الكثير من المال.

أعمال تجارية أكثر من مجرّد إيمان

وتشاهد على الجانب الآخر لوحة لشيخ عربي يبتهج برزم المال التي يدرها عليه العمل مع الإندونيسيين. وبين الجانبين يوجد نصّ قديم يعود تاريخه إلى ما قبل الإسلام ويعتمد عليه المؤرِّخ الهندي المثير للجدل بوروشوتام ناغيش أوك لدعم نظريته التي تقول إنَّ الكعبة في مكة المكرمة كانت قبل ظهور محمد مزارًا هندوسيًا. ويقول الفنَّان سيتو ليغي الذي شارك في تأسيس رابطة الفنَّانين للنقد الاجتماعي تارينغ بادي: "على الرغم من أنَّ الإسلام لا يسمح بالتوثين وبتحويل الأشياء إلى أصنام إلاَّ أنَّ طقوس الحج والمشاعر المقدَّسة أصبحت منذ فترة طويلة أصنامًا دينية. وكذلك لقد أصبحت عملية تنظيم الحج ترتبط الآن بأعمال تجارية أكثر من ارتباطها بالإيمان الداخلي، في ظلّ نظام تدعمه سياسات فاسدة".

ولم يكن موضوع البينالي أقل إثارة بالنسبة للفنَّانيين القادمين من الهند، البلد المشارك في دورته لهذا العام؛ لا سيما وأنَّ النزاعات الدينية تعصف مرارًا وتكرارًا في الهند أيضًا. إذ يعرض الفنَّان الهندي قمر كانوار على نحو مثر للغاية في ثلاثيته السينمائية الشهيرة "موسم في الخارج" و"تذكير" و"ليلة النبوة" كيف يؤثِّر عنف الدولة القومية والدين على حياة الناس البسطاء وإيمانهم، سواء في منطقة الحدود الهندية الباكستانية التي تخضع لحراسة شديدة أو في ولاية غوجارات الهندية الفقيرة التي شهدت في عام 2002 اضطرابات دينية قتل فيها نحو ثمانمائة شخص مسلم ومائتين وخمسين هندوسيًا.

وكذلك تعرض مجموعة صور فنّ الأداء التي تحمل عنوان "الوطن الأم" للفنَّانة الهندية بوشمابالا إن الخلط بين هوية بلدها الوطنية وهويتها الدينية؛ تصوِّر الفنَّانة نفسها في صورة أستوديو سوق رخيص على أنَّها "أم الهند" التي كثيرًا ما تتم مساواتها بالإلهة دورغا. وفي بعض الصور نجدها تبتسم بلطف وهي راكبة فوق نمر بلاستيكي، وفي صور أخرى يركع أمامها رجل يرتدي زيًا رسميًا ويحمل بين يديه رأسه المقطوع.

ونظرًا إلى الموارد المحدودة التي تم توفيرها للمبدعين والفنَّانين في يوجياكارتا فقد كان قرار التركيز على بلد واحد للمشاركة في البينالي وتسليط الضوء على موضوع خاص من نوعه قرارًا صائبًا بالنظر إلى فراغ الأعمال الفنِّية من مضمونها في سوق الفنّ العالمي. وكون منظمي البينالي عارضوا الاتجاه العام الخاص بدول الشمال والجنوب واختاروا بلدًا يعتبر على نفس المستوى مع بلدهم - من الناحيتين الاجتماعية والجغرافية - واختاروا كذلك موضوعًا معاصرًا ومثيرًا للجدل مثل موضوع الدين، فإنَّ هذا لا يشكِّل فقط دليلاً على شجاعتهم بل هو أيضًا خير دليل على حكمتهم الفنِّية.

 

كريستينا شوت
ترجمة: رائد الباش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012