نهضة فاشلة في مصر الناصرية...وما أشبه اليوم بالبارحة

مصر الناصرية
مصر الناصرية

عرض تاريخي لمصر الخمسينيات بما فيها من مايوهات سباحة وحشمة، وما بعد النظام الملكي التابع للبريطانيين إثر إعلان عبد الناصر قيادة مصر إلى "العزة" وتحول مصر لدكتاتورية عسكرية أصبح معها العسكر كالأثرياء يركبون سيارات الأجرة. رواية مصرية كتبها وجيه غالي بمنتصف الستينيات "أُعيد اكتشافها" بألمانيا بعد الربيع العربي لتصبح أيضا إلى الألمانية مترجمة. سونيا زكري تعرض الرواية. وما أشبه اليوم بالبارحة.

الكاتبة ، الكاتب: Sonja Zekri

هل يوجد مكان في مصر لم تمسَّه الثورة والانقلاب العسكري والتعصُّب؟ نعم، صحيح، الأهرامات من دون شكّ. لكن هناك أيضًا هذه البقعة الخضراء على نهر النيل في القاهرة: نادي الجزيرة. طُرقٌ مشجَّرة ومستقيمة مثل السهم، وحمَّامات سباحة بلون فيروزي ساطع، وعضوية حصرية - نادي الضباط البريطانيين السابق هو واحة من الاستقرار. تحت ظلِّ الأشجار القديمة يلعب الأثرياء لعبة البولو، ولعبة البريدج أيضًا، الجميع هنا يعرفون جيِّدًا ميول بعضهم السياسية وأوضاعهم المالية ومخططات زواجهم.

هكذا هي الحال اليوم. وهكذا كانت في تلك الأيَّام، عندما تهيَّأ الشاب "رام" لكي يقضي في النادي مساءً يبدو لا نهاية له، يصفه الكاتب وجيه غالي بمثل هذا الطيف وبمثل هذا الصفاء وفي الوقت نفسه بمثل هذا اليأس الذي لا يمكن الفرار منه، بحيث أنَّه يعكس في هذه الصفحات القليلة سحر روايته المرير "بيرة في نادي البلياردو"، التي أعيد اكتشافها من جديد.

رام شابٌ مسيحي، قبطي من أسرة أرستقراطية، ولكنه للأسف شخص مُعْدَم، يقترض خمسة جنيهات من نادل في النادي، كعادته في كسب قوت حياته. يلعب بهذه الجنيهات "البريدج" مع أشخاص أمريكيين يتجاهل غباواتهم، مثلًا حينما يعملون وبعناد من اسم عبد الكريم "أبراكادابرا". يشرب البيرة ويفوز بمبلغ مائتي دولار. ثم يريد الذهاب للسباحة.

السيدة الأمريكية لا تملك مايوهًا للسباحة، ورام يريد أن يستعير لها واحدًا من صديقة له. "هل هي أجمل مني"؟ تسأله الصديقة المصرية. ويجيبها: "على الأقل هي لم تعد عذراء غبية مثلك". من خلال هذه الملاحظة الوقحة يتَّضح أنَّنا - وبصرف النظر عن النادي - لسنا في مصر الحالية ذات الحشمة والحياء، بل في مصر الخمسينيات، في حقبة كان يبدو فيها لبضعة أعوام كلُّ شيء ممكنًا وقد انهار فيها كلُّ شيء.

تبديل للنخب

لقد تم طرد البريطانيين وإنهاء النظام الملكي التابع للبريطانيين، وأعلن الضبَّاط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر أنَّهم سيقودون مصر، بل وحتى العالم العربي كله إلى الاستقلال والشموخ.

جمال عبد الناصر بعد أن كان رئيس الجمهورية العربية المتحدة مصر وسوريا وهو يحيِّي الجماهير  في القاهرة بعد قطع العلاقات مع سوريا.
استمرار الاستبداد والطغيان: يصف الكاتب وجيه غالي مصر ما بعد ثورة 23 يوليو (1952) في عهد الرئيس جمال عبد الناصر كدولة ذات نظام فاسد، عملت فيه الطبقة العليا على إثراء نفسها بشكل لا أخلاقي على حساب بقية المواطنين. ومع مرور كلّ عام باتت قسوة الدكتاتورية العسكرية أكثر وضوحًا، وظهر أنَّ الوعد بإعادة التوزيع كان مجرَّد تبديل بسيط للنخب.

ولكن مع مرور كلّ عام باتت قسوة الدكتاتورية العسكرية أكثر وضوحًا، وظهر أنَّ الوعد بإعادة التوزيع كان مجرَّد تبديل بسيط للنخب - في السابق كان الأثرياء يركبون سيَّارات الأجرة، والآن أصبح الأثرياء والعسكر يركبون سيَّارات الأجرة، مثلما يقول أحد السائقين. أمَّا رام، هذه الروح الضائعة، يصبح أكثر ضياعًا.

صدرت رواية وجيه غالي في منتصف الستينيات في لندن باللغة الإنكليزية، وبما أنَّ ترجمتها العربية قد قُرئت في مصر قبل الربيع العربي على أنَّها أمر مؤلم ذو صلة بالوضع الراهن، فهذا يعبِّر عن التوق إلى تلك السنين العلمانية العالمية، لعصر الانفتاح والأناقة، والذي يصفه على سبيل المثال علاء الأسواني في كتابه الأكثر مبيعًا "عمارة يعقوبيان".

ولكن من يدري، ربما كان هذا الاهتمام الجديد في كتاب وجيه غالي بمثابة هاجس مسبق أيضًا. فإذا كان وجيه غالي يعالج السياسة بشكل دقيق وتلقائي، فإنَّ كتابه أولًا وقبل كلِّ شيء هو عرضٌ تاريخي لثورة فشلت فشلًا كارثيًا، وخيبة أمل لا ترحم أصابت جيلًا كاملًا: لم يكن الربيع العربي مختلفًا عن ذلك.

في البداية يحتج رام ببطولة ضدَّ القوَّات البريطانية في قناة السويس، يتحمَّس لجمال عبد الناصر، وفي حفلة لعمَّته يصرخ في وجه ابن عمه قائلاً له: "امسح مؤخرتك" بالديمقراطية الأمريكية. غير أنَّه ينضم في النهاية إلى منظمة سرية، تشتري من رجال الشرطة المصرية صورًا لضحايا التعذيب، وأثناء ذلك "لا يستطيع التخلص من الشعور الرهيب بأنَّ هذه الصور ستكون أقل دموية لو لم نكن ندفع لهم ثمنها".

وفي هذه الأثناء يبدأ علاقة حبّ عاطفية ولكن ميؤوس منها مع "إدنا"، المنحدرة من أغنى العائلات اليهودية في مصر. "وول وورث المصري"، مثلما يصفها رام ساخرًا. وعلى الرغم من أنَّهم يتجنَّبون الحديث حول صراع الشرق الأوسط، إلَّا أنَّ السياسة تقف بينهما. يسألها رام: "لماذا لا تهاجرين يا إدنا"؟ ويقصد بطبيعة الحال الهجرة إلى إسرائيل. تجيبه إدنا: "لأنَّني مصرية"، وتدفع في النهاية ثمنًا باهظًا لهذه الوطنية.

نهاية وهم

يصف وجيه غالي فئة زالت على أبعد تقدير في عام 1967 مع حرب الأيَّام الستة، تبدو من منظور اليوم ضعيفة ومتعجرفة وعجيبة - مثل فراشة ملوَّنة ولكنها منقرضة.

شاطئ للسباحة في الإسكندرية - مصر عام 1960.  Foto: picture alliance ap
رواية معاصرة رغم قدمها: صدرت رواية وجيه غالي في منتصف الستينيات في لندن باللغة الإنكليزية، وبما أنَّ ترجمتها العربية قد قُرئت في مصر قبل الربيع العربي على أنَّها أمر مؤلم ذو صلة بالوضع الراهن، فهذا يعبِّر عن التوق إلى تلك السنين العلمانية العالمية، لعصر الانفتاح والأناقة، الذي يصفه على سبيل المثال علاء الأسواني في كتابه الأكثر مبيعًا "عمارة يعقوبيان"، مثلما كتبت سونيا زكري في مراجعتها للرواية.

يكمن الجانب الآخر في أنَّ هذا الوسط المبهر والمسلي، الذي يبدو من الوهلة الأولى مشابهًا للغرب، لا يمثِّل سوى جزءٍ صغيرٍ من المجتمع، وأنَّ بقية مصر تظهر مرة أخرى على حواف هذه اللوحة الكريمة في شكل الطهاة ومربيات الأطفال أو ماسح السيارات ذي الست سنوات. وحتى رام، الساخر الحالم، الذين يلعب بأسماء السياسيين البريطانيين وشخصيات الروايات البريطانية وأنواع البيرة البريطانية مثل شخص يلعب لعبة الثلاث ورقات، ولكنه لا يتحدَّث العربية بشكل صحيح - يستحقر المصريين البسطاء بوصفه لهم على أنَّهم "فلاحون" مزارعون.

يتَّضح كم كان الكاتب وجيه غالي أيضًا في ذلك الوقت يفكَّر بشكل غير عادي ووحيد من حقيقة أنَّ رام كان يتواصل بالذات عن طريق إدنا اليهودية مع المصريين البسطاء، وأنَّها هي التي كانت ترشده وترشد صديقه "فونت" الأكثر استقامة وثباتًا إلى قراءة الكتب الصحيحة وطرح الأسئلة الصحيحة، إلى أن بدأ الشابان ينظران بشكل أقل وأقل إلى نفسيهما كمصريين، وبشكل أكثر وأكثر "كجزء من الإنسانية بشكل عام".

إدنا، المرأة اليهودية، هي القوة الدافعة وراء تجسيد رام السياسي. وحتى أنَّها تُحقِّق له حلمه الأكبر، أي السفر إلى إنكلترا، إلى حيث الحياة - لأنَّ رام مقتنع تمامًا بأنَّ "الحياة موجودة فقط في أوروبا". وهذا خطأ نموذجي، لأنَّ أوروبا قد أنهت علاقتها منذ فترة طويلة معه ومع أمثاله.

عندما يتأخر إنجاز طلبات التأشيرة، يتوجَّه رام وفونت إلى مدير مدرستهما الإنكليزية، الذي يشرح لهما نفعية الإمبراطورية البريطانية، بقوله: "أنتما الاثنان أقباط، وبما أنَّ الحكَّام الحاليين جميعهم مسلمون، فإنَّهم لا يكلفون أنفسهم عناء منحكما تأشيرة".

وهكذا يستحوذ على رام عندما يصل أخيرًا إلى إنكلترا شكٌّ عميقٌ فيما إذا كانت هذه "الحياة" لا تعني نهاية شيء آخر، أكثر قيمة، وإذا كان "تطوُّر أوروبا" لا يقتل شيئًا في داخله - يقتل فيه الوضوح في الأصل، أصالة كان قد رفضها من قبل. ينقسم وعيه إلى قسمين، فهو مراقِبٌ ومشارِكٌ في الوقت نفسه، إنَّه ألم جرح ما بعد الاستعمار، ولكن طريقة وصف وجيه غالي لهذا الصراع الداخلي لا تقنعه فقط بشي عام، بل بشيء إنساني عام.

وهذا يزداد مأساوية أكثر وأكثر عندما يضطر وجيه غالي شخصيًا للعيش في الغربة - كشيوعي كانت مصر خطيرة جدًا بالنسبة له - وبعد توقُّف في باريس والسويد وألمانيا عاش في لندن. وهناك في عام 1969، أقدم وجيه غالي -الذي يشهد له في مقدِّمة صديقته ومترجمته ديانا أتيل أحد معارفه الألمان بأنَّه شخص "متواضع لطيف ومخلوق يشبه الغزال"- على ابتلاع تسع وعشرين حبة منوِّم في شقة ديانا أتيل ومات. كان هذا مثلما كتب وجيه غالي في رسالته الوداعية "العمل الحقيقي الوحيد في حياتي كلها".

يجب أن نخالفه في هذا الرأي، مع كلّ الاحترام لهذا التعبير الأخير عن إرادته، لأنَّ العلاقة بين العالم العربي والغرب نادرًا ما تم وصفها بمثل هذه البصيرة والوضوح والاتساق الذي لا يرحم مثلما هي الحال في روايته.

 

 

 

سونيا زكريترجمة: رائد الباشحقوق النشر: زود دويتشه تسايتونغ /  موقع قنطرة 2018ar.Qantara.de