موعد في مقهى علي بابا

تصدر سنوياً منذ العام 1986 عن دار نشر"اونيون" رواية لنجيب محفوظ باللغة الألمانية. الناشر لوسيان لايتس يتحدث هنا عن أول لقاء له مع الكاتب العربي الوحيد الحائز على جائزة نوبل للآداب.

نجيب محفوظ في مقهى في القاهرة، الصورة: د ب أ
توفي نجيب محفوظ في 30 من آب/أغسطس في القاهرة.. منح 1988 جائزة نوبل للآداب.

​​

يقول غوتفريد برمان – فيشر إنه كان قبل بعض لقاءاته مع الأديب الألماني توماس مان يتناول بعض الحبوب المهدئة، لأن اللقاء به كان يعني وضع مستقبل دار النشر على المحك.

أمر مثل هذا حصل في القاهرة في كانون الثاني (يناير) من العام 1989 حينما تمنى الناشر الشاب لو كان في حوزته مهدئ للأعصاب. كان نجيب محفوظ قد حاز حينذاك في تشرين الأول (نوفبر) على جائزة نوبل للآداب. وكانت دار نشر "اونيون" الصغيرة الناشئة التي لا تزال تحبو خطواتها الأولى قد طلبت شفهياً من وكالة أدبية في زيوريخ بيرغ الحصول على حقوق نشر جميع كتب نجيب محفوظ وتمت الموافقة على ذلك.

على الرغم من الإهتمام العاصف الذي أظهرته دور النشر الكبيرة بعد خبر فوز محفوظ بجائزة نوبل، إلا ان كلمة الشرف هذه بقيت سارية المفعول. أما الآن فقد جاء دور ابرام العقود في القاهرة والحصول على الموافقة الأخيرة من حامل جائزة نوبل. كل شئ مرتبط به الآن.

إذن موعد مع نجيب محفوظ: الساعة السابعة والنصف صباحاً في مقهى علي بابا في ميدان التحرير. من يعرف نجيب محفوظ عن كثب يعرف كيفية تقسيم مواعيده. يستقبل أصدقاءه المقربين جداً في بيته. أما اصدقاؤه الأدباء فانه يلتقيهم كل يوم جمعة في كازينو على النيل. اللقاءات الرسمية تتم في مكتبه في جريدة الأهرام. أما نقاشات العمل المركزة فتتم دائماً في مقهى على بابا في الصباح الباكر. فأل خير اذن.

نجيب محفوظ أسطورة في دقته في المواعيد وانتظامه. الباعة المتجولون على جسر النيل يضبطون ساعاتهم عليه.

أما الناشر الشاب فلم يكن من أصدقاء الدقة في المواعيد والصباح الباكر لم يكن من بين أوقاته المفضلة التي يفعم بها بالنشاط. إذن هناك الكثير للتفكير والتدبير.

زحمة القاهرة الخانقة تسبب له صداعاً، لذا وللحيطة تفحص الطريق من الفندق الى المقهى في الأمسية السابقة، اذ يمكن للمرء أن يضل طريقه بسهولة في هذه المدينة التي هي بمثابة قارة.

بكل شجاعة وثقة يدخل المقهى بين غيوم الدخان الكثيف وضجة الأصوات من حوله وهو متأكد من ان ارتباكه واضح على محياه.

تمثال نجيب محفوظ في القاهرة، الصورة: أ ب
تمثال نجيب محفوظ في القاهرة

​​كانت تجلس على الطاولة المجاورة سيدة جميلة تشبه واحدة من الشخصيات اللعوب في روايات الكاتب الذي يتركز الكفاح حوله. بأصابعها ذات الطلاء الأحمر الوهاج أشارت الى الناشر الشاب للذهاب اليها.

وفجأة راودته أفكار مربكة، ماذا لو ان المنبه الذي رافقه في سفره الى القاهرة لم يؤد عمله على أكمل وجه؟ لذا أسرع الى السوق ليشتري منبهاً آخر، باهظ الثمن ويوحي بالثقة: غول ضخم ذو جرسين كبيرين. يا جبل ما يهزك ريح. ومن ثم نسق أوراقه وخلد الى النوم باكراً.

الخامسة والنصف صباحاً دوى جرس المنبه الجديد ورن الآخر رفيق السفر وطرق حاجب الفندق على باب الغرفة. كان الصباح نقياً منعشاً. القاهرة عروس براقة، الشوارع خالية الا من قليل من السيارات. وصل قبل ساعة من موعده الى ميدان التحرير فقرر ان يمضي بعض الوقت هناك ويشرب الشاي في مقهى في شارع ضيق.

كانت الساعة 7:21 عندما دخل الناشر الشاب المقهى الخالي. قاده النادل عبر سلم صغير الى الطابق الأعلى حيث كان نجيب محفوظ جالساً قرب النافذة وقد انعكس عليه الضوء حيث لا يتراءى منه إلا ظله. كان منعكفاً على جريدة في يده يقرأ فيها.

أشار نجيب محفوظ الى الضيف بحركة صغيرة وبدون اية كلمة الى الجلوس الى طاولة صغيرة قرب السلم وتابع القراءة غير آبه به، تصفح الجريدة، سحب نفسا من سيجارته، ثم تابع القراءة.....

كانت الدقائق تمر وكأنها ساعات، آلاف الأفكار القاتمة سيطرت عليه، تسارعت دقات قلبه. نجيب محفوظ لم يتكلم معه ولو بكلمة واحدة، لماذا يا ترى؟ لا بد ان اونزلد كان هنا الأسبوع الماضي، او انه وافق على مشروع البروفيسور الذي قدمه مع الطالب العربي الذي يدرس الأدب الألماني لترجمة عشرين رواية خلال خمس سنوات. كل شيء ذهب سدى، يا لسوء الحظ، يا لهذه الكارثة. لماذا لم يأت من قبل؟ كل ما قام به كان مجانباً للصواب. تبخر الحلم.

تمام الساعة السابعة والنصف طوى نجيب محفوظ الجريدة ورتب علبة سيجارته لتشكل زاوية قائمة مع غطاء الطاولة المقلم طولياً. هب من مكانه وخطا نحوالشاب. معطفه الأسود القديم يتلألاً في أشعة الشمس الصباحية، ترتسم على شفتيه ابتسامة عريضة مشرقة تذوب لها القلوب وقال:

"أهلاً بك يا سيد لايتس، سعيد للقائك! كنت في انتظارك!"

بقلم لوسيان لايتس
ترجمة منال عبد الحفيظ شريده
حقوق الطبع قنطرة 2006

لوسيان لايتس مدير دار نشر أونيون السويسرية. كتب في عام 2003 عن لقائه الأول مع نجيب نحفوظ في القاهرة.

قنطرة

التبادل الأدبي الألماني - العربي
يعتبر الأدب دوما أحد الوسائل الرئيسية في حوار الحضارات، وغالبا ما يتمثل هذا في شكل أنشطة صغيرة تعمل في الخفاء، المترجم والناشر مثلا اللذان يعيشان على حافة الكفاف، ويقتاتان من العمل في التعريف بالثقافة الغريبة المحبوبة. ونقدم هنا مبادرات ألمانية وعربية.