سوء استغلال نعمة إلهية

تعد سوريا من أكثر بلدان الشرق الأوسط فقراً من حيث الموارد المائية، مما يتطلب وضع استراتيجيات لتنمية الموارد المائية المتاحة وتطبيق آليات مبتكرة لترشيد استعمالات المياه. ألمانيا تحاول المساعدة في حل بعض هذه المشكلات من خلال دعم قطاع معالجة الموارد المائية في سوريا وإدارتها بمعونة تبلغ 130 مليون يورو. تقرير كيرستن هيلبيرغ

نهر الفرات، صورة: إزابيل شليركمان
"يعد الماء في الموروث السوري نعمة من نعم الله، لذلك لا يجب تحصيل المال لقاء ذلك"

​​تجلس أنيلي كورته في مكتبها المتنقل والمتواضع بالقرب من محطات معالجة المياه في العاصمة دمشق وتخطط لإقامة ورشة عمل حول موضوع معالجة مياه الصرف الصحي. تقول كورته إن محطات التنقية الأربعة الكبيرة في سوريا لم يتم إدامتها بالشكل الصحيح. وتضيف المهندسة البالغة من العمر 47 عاماً والتي تعمل لهيئة التنمية الألمانية (دي أي دي) في سوريا بالقول: "بدلاً من اتخاذ الإجراءات الاحترازية المناسبة فإن أعمال الصيانة لا تنشط إلا في حالة حدوث أعطال كبيرة فقط".

ويتمثل دور الخبيرة الألمانية في أن توضح لزملائها السوريين كيف يمكن تفادي الأعطال من خلال الكشف الدوري والتنظيف المتكرر وبصورة منتظمة وتوفير قطع الغيار. وعلى مبعدة خمس دقائق مشياً على الأقدام من مكتب كورته الواقع في قلب العاصمة دمشق يجري نهر بردى، أو ما تبقى منه، كجدول ضيق منخفض. يأخذ النهر مياهه من جبال لبنان الشرقية، جاعلا من دمشق واحة خصبة وسط صحراء من الأحجار الصخرية.

في الماضي كانت مياه النهر الصافية تنساب عبر البساتين ومزارع الفواكه، لذلك أُطلق على دمشق أسم "جنة الله على الأرض". وفي منتصف القرن العشرين لم تعد مياه النهر تكفي حاجة السكان الذين أخذ عددهم يتزايد بشكل متسارع، فانتشرت في كل أرجاء المدينة آبار المياه غير المرخصة، مما أدى إلى خفض مستوى المياه الجوفية. وبالنتيجة مازالت مياه الصرف الصحي غير المفلترة تتجمع حتى اليوم في باطن الأرض، ملوثة المياه الجوفية فيها.

محاصيل ظمأى

لا تختلف مدينة دمشق عن غيرها من مناطق سوريا الأخرى في افتقارها إلى إدارة سليمة للموارد المائية، كما يرى يوهانس فولفر، الذي يعمل في ضواحي مدينة دمشق بتكليف من الهيئة الألمانية للعلوم الجغرافية والموارد الطبيعية (بي جي .آر)، حيث أكد في الوقت ذاته أن المشكلة تكمن في عدم توزع الموارد المائية بشكل متساو، الأمر الذي يتطلب العمل على الاستفادة منها بشكل أفضل، كعدم استخدام هذه الموارد المائية الثمينة في غسل السيارات أو سقي أشجار الفواكه على سبيل المثال.

يقول الخبير الألماني: "على المستوى البعيد يجب أن يبتعد اقتصاد سوريا عن الاعتماد على الزراعة التقليدية"، فمقارنة بالزراعة يمكن لسوريا أن تحصل على المزيد من الإيرادات من خلال الصناعة والسياحة وقطاع الخدمات، وبكمية أقل من المياه.

من جانبه ينتقد المهندس السوري ماجد داوود الذي درس في ألمانيا ويعمل في وزارة الري السورية منذ 30 عاماً، التبذير في استخدام المياه لأغراض الزراعة.

ويوضح داوود أن رغبة الدولة في تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقلالية في مسألة واردات المواد الغذائية يدفع المزارعين السوريين على سبيل المثال إلى زراعة البنجر السكري الذي يستهلك كميات هائلة من المياه، حيث تبلغ تكلفة الكيلو الواحد من السكر السوري خمسة أضعاف مثيله في السوق العالمية، ما يجعل استيراد السكر أجدى من زراعته.

الماء نعمة من نعم الله

بات الآن على المستهلك السوري، الذي كان حتى زمن قريب لا يدفع سوى سنت واحد مقابل متر مكعب من المياه، أن يغير من طريقته في استخدام المياه. وبعد أن كان بوسع الحكومة تغطية نصف نفقات الاستهلاك من خلال هذه المردودات قامت بإدخال نظام تسعيرة جديد. فمنذ الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2007 بات أول 15 لتراً من الماء يكلف ثلاثة سنتات ونصف السنت للتر الواحد، أما في حالة زيادة الاستهلاك فإن الأجور تتصاعد تدريجياً إلى خمسة أو اثني عشر ضعفاً.

يرى داوود أن التأخر في رفع أسعار الماء لوقت طويل له جذور ثقافية، ويوضح قائلاً: "يعد الماء في الموروث السوري نعمة من نعم الله، لذلك لا يجب تحصيل المال لقاء ذلك".

أوته الطيب، التي تعمل لهيئة التنمية الألمانية في مدينة حلب الواقعة في شمال سوريا ترى من جانبها أنه يجب عدم تبذير هذه النعمة الإلهية، لذلك تحاول جاهدة منذ أشهر إقناع جيرانها بطريقة موفرة للمياه في التنظيف تطلق عليها تسمية "بئر السلم".

تقول الطيب (29 عاماً): "في التنظيف يتم رش المنزل بالماء بواسطة أنبوب مطاطي من الأعلى إلى الأسفل"، فالمدينة تقف اليوم على أعتاب مشكلة كبيرة في التزود بالماء. وعلى عكس مدينة دمشق فإن حلب تفتقر إلى مصادر المياه الخاصة بها، بل تتزود بالمياه من نهر الفرات الواقع على بعد 120 كيلومتراً. ويرى الخبراء أن الأنابيب الناقلة للمياه التي مُدت عام 2004 ستكون غير كافية لسد حاجة الملايين من سكان المدينة من المياه بدخول عام 2009، الأمر الذي يتطلب تخفيض الاستهلاك اليومي من الماء من 130 لتراً إلى 80 لتراً للشخص الواحد.

حملة توعية بمساعدة رجال الدين

بالتعاون مع فريق من دائرة معالجة المياه في حلب بدأت الطيب في حملة توعية للمواطنين وللعاملين في المؤسسات والمدارس ورجال الدين. لقد أثار اهتمام ودعم المئات من رجال الدين في مدينة حلب إعجاب الألمان العاملين في قطاع تطوير إدارة الموارد المائية.

تبدو الطيب راضية تماماً عن أداء العاملين معها، حتى مع اضطرارها إلى التأقلم مع أوقات عملهم غير المنتظمة، فالكثير منهم مرتبط بأعمال أخرى عادة، لأن مداخيلهم التي لا تتجاوز 120 يورو شهرياً، لا تسد نفقات عائلاتهم. لذلك فهم لا يعملون أكثر من ثلاث إلى أربع ساعات يومياً في محطات معالجة المياه، لدرجة أن الخبيرة الألمانية تجد نفسها هناك وحيدة أمام الكثير من المهام عادة.

وفي هذا السياق تقول الطيب: "علينا قبول ذلك"، وترى أنه من غير المجدي الإصرار على تواجد العاملين هناك من الساعة الثامنة صباحاً حتى الثالثة ظهراً. وتضيف الخبيرة الألمانية بالقول: "إن فعلت ذلك فسيرفضوا التعاون معي". وبدلاً من ذلك لا تنتظر الطيب سوى درجة أفضل من التواصل من قبل العاملين معها في الإخبار عن وقت قدومهم ومغادرتهم، كي يكون بإمكانها التخطيط بصورة أفضل.

وفي الوقت الذي تشتكي فيه الطيب، حالها حال الخبراء الألمان الآخرين، من البيروقراطية في الدوائر والمؤسسات السورية، فإنها ترى أن التعاون مع هذه المؤسسات يسير بشكل "مرض"، كما تقول.

من جانبها تصف كورته هي الأخرى تعامل السوريين معها على المستوى الشخصي بالجيد، مما يسهل مهمتها المتمثلة بإنشاء شبكة من المهندسين في جميع أرجاء البلد، حيث تقيم شبكة علاقات واسعة مع عدد كبير من المهندسين، لاسيما مع المهندسات، وترى الخبيرة الألمانية أن مهمتها بوصفها سيدة تقابل بالكثير من الجدية والاحترام. أما فيما يتعلق بالأحكام المسبقة والصور النمطية فلا ترى فرقاً بين الرجال في سوريا وألمانيا. وعن أسئلة زملائها في ألمانيا عن طبيعة التعامل مع زملائها السوريين، غالباً ما تجيب كورته ببساطة: "العرب؟ إنهم كغيرهم من الرجال".

كرستين هيلبيرغ
ترجمة: عماد م. غانم
حقوق النشر: قنطرة 2008
قنطرة

سوريا والعراق في مواجهة تركيا
صراع على مياه دجلة والفرات
يشكل المشروع التركي المعروف باسم "مشروع جنوب شرق الأناضول" والذي يُفترض إنجازه حتَّى العام 2010 بؤرة لنزاعات سياسية مقبلة في المنطقة. تقرير أعدّته كلاوديا مولاّوَر.

جمعية أصدقاء الأرض في الشرق الأوسط:
من أجل التوازن البيئي والسلام
تعمل جمعية أصدقاء الأرض في الشرق الأوسط منذ ما ينيف عن عقد من الزمن عبر الحدود من أجل التعامل الأوكولوجي مع المياه، وتدعم بعملها حوارًا غير مألوف بين ممثلين حكوميين ورؤساء بلديات محلية ومواطنين من الجانب الإسرائيلي والفلسطيني والأردني. تقرير بيآته هينرشس.

مياه الشرب في خطر
نتائج خصخصة مؤسسات التزويد بالمياه
أصبحت مياه الشرب في دول الجنوب موردا تتنازع عليه الشركات العالمية من أجل إحراز أكبر قدر من الأرباح. الصحفي الألماني غيرهارد غلاس يسلط الأضواء على جاكارتا حيث يعاني السكان نتائج الخصخصة