الشعب يتوق إلى الإنصاف والعدالة...شلل قضائي وتهاوُن حكومي في ليبيا الجديدة

لم تكن ثورة السابع عشر من فبراير في ليبيا وليدة الصدفة، بل كانت نتيجة طبيعية للغضب الشعبي المكبوت منذ فترة طويلة، وقد كلّفت المواطنين الليبيين ثمناً باهظاً للغاية دفعوه من أرواحهم، ومن خلال تجربتها الشخصية تسلِّط الناشطة والصحفية الليبية خديجة رمضان الإمامي الضوء على السلوك الإجرامي للنظام السابق وعلى مطالبة ضحاياه حتى الآن بإنصافهم من أتباعه، وتوضّح خلفيات تعثُّر تحقيق ذلك.

الكاتبة ، الكاتب: Hadija Ramadan al-Amami

كنتُ واحدة من الذين عارضوا نظام القذافي منذ أعوام طويلة، فقد بدأتُ نشاطي السياسي منذ أواخر عام 2004 من مقهى للإنترنت في بنغازي. وكنتُ أدير بعض المنتديات الإلكترونية للمعارضة الليبية، وأكتب مقالات حول الاعتداءات العنيفة. وكنت أسمح لأي شخص بالمشاركة في هذه المنتديات، على الرغم من تحذيرات قوَّات الأمن المتواصلة.

وكان من بين روَّاد هذا المقهى الصحفي الشاب ضيف الغزال، مؤلف المقال المعروف المناوئ لنظام القذافي: "من منا الخائن والجبان؟". فقتله أتباع الطاغية معمر القذافي بعد أن قطعوا أصابعه في البداية.

لقد رَوْيتُ قصته على مواقع الإنترنت. وجمعتُ كلَّ المعلومات والصور ومقاطع الفيديو التي تثبت مدى طغيان هذا النظام، لكي أظهر للعالم هذه الحقائق: فقد قمت، على سبيل المثال، بتغطية الأحداث التي شهدتها الشوارع إبَّان الانتفاضة في مدينة بنغازي عام 2006، وفي مدينة طبرق لاحقاً. وكان القذافي لا يتأخر دائماً عن قمع الاحتجاجات.

آن أوان التغيير في "يوم الغضب"

وكنتُ من بين الأشخاص الذين دَعَوْا، مع الناشط جلال الكوافي، عبر موقع فيسبوك في شهر أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2010 إلى "يوم الغضب". لقد أتاحت لنا شبكات التواصل الاجتماعية فرصاً جديدة، وساهمت في إطلاق الثورات في تونس ومصر وليبيا.

معمر القذافي. د ب أ
مقاومة سلمية ضد الطاغية معمر القدافي الذي نصَّب نفسه زعيماً للجماهير وملكاً لملوك أفريقيا: الكثيرون من المعارضين السابقين وضحايا دكتاتورية القذافي، التي استمرت أكثر من أربعين عاماً، يطالبون حالياً بتحقيق العدالة وملاحقة القانون لجميع أتباع الدكتاتور ونخبه السياسية.

​​

وكان جميع المهتمين يراقبون أحداث تلك الأيَّام عن كثب، وكانوا يتوقون بشغف إلى فعل أي شيء. لقد لعب موقع فيسبوك قبل الثورات، بفترة طويلة، دوراً حاسماً في عملية التواصل بين النشطاء. ولكننا لم نكن نعتمد على صفحات فيسبوك فحسب، بل كنا نقوم كذلك بتوزيع المنشورات الورقية، ودَعَوْنا إلى الخروج في مظاهرات في "يوم الغضب".

تعرَّضتُ حينها إلى ضغوطات كبيرة، لأنَّني كنت أعمل في جامعة قاريونس في بنغازي. وكانت أجهزة الأمن التابعة لنظام القذافي تفرض على هذه الجامعة الحكومية رقابة تامة، إلى درجةٍ لم يكن معها من الجائز أن نسميها مؤسَّسة تعليمية.

فقد تم إعدام الكثير من الطلاب في الحرم الجامعي بتهمة معارضتهم لنظام القذافي. كما تم إجبار زملائهم على مشاهدة هذا القتل، بينما كان أنصار القذافي يهتفون: "هذا العقاب لكلِّ مَن لا يقبل بقيادة القذافي أو ثورة الفاتح من سبتمبر".

وكانت ضباطات الشرطة السرِّية يعملن بملابس مدنية في داخل الجامعة، ويقمن بجمع المعلومات حول الموظَّفين. وقد تمَّ اعتقالي، أنا نفسي، عدة مرَّات. واستمرت أقصر فترة اعتقال لي سبعة أيَّام وأطول فترة ثلاثة أشهر. وتكرَّر اعتقالي وبشكل مستمر تقريباً. وبالإضافة إلى ذلك كان يجب عليّ أن أحضُر في كلِّ يوم سبت إلى مكتب الأمن المحلي في بنغازي، إذْ لم يكن يُسمَح لي بمغادرة المدينة.

الشعب يريد تحقيق العدالة

الديمقراطية وسيادة القانون متلازمان، ويتبع بعضهما بعضاً. ولذلك، لا بد من التحقيق في جرائم نظام القذافي. ولكن في الوقت الحاضر لا يوجد لدى القضاء في ليبيا أساس قانوني. وحتى الآن لم يتمكَّن ضحايا الدكتاتورية من رفع دعاوى قضائية على معذبيهم، الذين هرب الكثير منهم بعد سقوط القذافي خارج البلاد خوفاً من انتقام ضحاياهم.

صحيح أنَّ المجلس الانتقالي الليبي طالب بتسليم المطلوبين من الدول التي لجأ إليها المجرمون إلى الحكومة الليبية، ولكن من دون أن يمارس أية ضغوطات جدية.

تسليم السنوسي إلى الحكومة الليبية، رئيس المخابرات السابق  لنظام القذافي. رويترز
جزّار طرابلس: وجَّهت المحكمة الجنائية الدولية في العام الماضي اتِّهامات لعبد الله السنوسي بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية وأصدرت مذكرة اعتقال بحقه. ويُتَّهم السنوسي بلعب دور رئيسي في قتل أكثر من ألف ومائتي سجين في عام 1996 في سجن أبو سليم غرب طرابلس.

​​

أدَّت المفاوضات التي أجرتها الحكومة الانتقالية، برئاسة عبد الرحيم الكيب، مع تونس إلى تسليم المحمودي البغدادي على الأقل. وبالتالي أدى ذلك إلى ارتياح كبير لدى الجماهير الليبية. وكان المحمودي البغدادي أحد وزراء القذافي الذين أعطوا أوامر القتل والتعذيب أثناء الثورة الليبية، بالإضافة إلى أنَّه متَّهم بالتورط في اختلاس الأموال العامة.

سُجناء في "سجن الباستيل العربي"

وكذلك لم يتم حتى يومنا هذا رفع أية دعوى قضائية ضدّ رئيس مخابرات القذافي السابق عبد الله السنوسي الذي اعتقل في شهر مارس/ آذار 2012 في موريتانيا وتم تسليمه إلى ليبيا في بداية شهر سبتمبر/ أيلول.

كان السنوسي من المسؤولين عن قتل ألف ومائتي سجين في غضون نصف ساعة داخل سجن أبو سليم، أثناء تمرّدهم في شهر يونيو/ حزيران 1996. يطلق الليبيون على هذا السجن، الشديد الحراسة والموجود بالقرب من طرابلس، اسم "سجن الباستيل العربي". فقد تم اعتقال الكثيرين من السجناء السياسيين، في هذا السجن، وتم إعدام الكثيرين منهم فيه.

ومن بين أتباع القذافي المطلوبين لم يتم حتى الآن اعتقال الهاربين منهم، ولم يتم كذلك تقديم المعتقلين منهم إلى المحكمة. وهذا يثير بطبيعة الحال غضب المواطنين، ويخلق كذلك جدالات مستمرة لدى الرأي العام الليبي.

والناس هنا في ليبيا غير راضين عن أداء الحكومة حتى الآن. إذ إنَّ ضحايا القذافي يصرّون على معاقبة المجرمين، ويطالبون بعدم تبرئة الجُناة، بل بمحاكمتهم على جرائمهم. وكذلك يتوق الشعب الليبي إلى تحقيق العدالة، بيد أنَّ القيادة السياسية في طرابلس تهاونت حتى الآن في تقديم جرائم الدكتاتورية للمحاكمة وفي معالجة آثار هذه الجرائم.

وداعاً للماضي المرعب

قاعة المحكمة في طرابلس. د ب أ
"ضحايا القذافي يصرّون على معاقبة المجرمين": قاعة المحكمة التي افتتحت في طرابلس في شهر أبريل/ نيسان 2012 لمحاكمة نجل معمر القذافي، سيف الإسلام القذافي.

​​

وتؤدِّي حالة الإفلات من العقاب هذه إلى جعل بعض الأشخاص يقولون بصراحة إنَّهم سينتقمون بأنفسهم إذا لم تتم محاكمة الجناة وتحقيق العدالة. ولذلك يجب إلقاء القبض على المتهمين والتحفّظ عليهم في الحبس الاحترازي إلى أن يتم تأسيس الكيانات القانونية الضرورية. ولا يمكن في النهاية تحقيق العدالة في المجتمع إلاَّ من خلال الحقيقة.

ويجب تمكين المواطنين من الشعور بأنَّ عهد تحقيق العدالة ومنْحهم حقوقهم قد بدأ، لكي يتجهون إلى المحاكم بدلاً من البحث عن حلول فردية. فعلى هذا النحو فقط يمكننا تحرير أنفسنا من أهوال الماضي. والشعب الليبي حريص على عدم النسيان، وعلى المطالبة بحقوقه. ويظهر هذا بوضوح عندما نتصفَّح صفحات فيسبوك ونلاحظ ردود أفعال المواطنين على هذا الموضوع. وحتى الآن ما يزال القضاء الليبي مشلولاً في جميع اختصاصاته.

وفي فترة السبعينيات والثمانينيات كان من المتَّبع في نظام القذافي السياسي الداخلي أن يتم اغتيال المثقَّفين الناشطين سياسياً، الذين كانوا يشكِّلون تهديداً لحكمه، أو إجبارهم على الهجرة. ومن جانب آخر، زرَعت سنوات الاستبداد الطويلة في نفوس الناس رغبة مدمِّرة في الانتقام.

وإذا لم تقم الحكومة بوضع حدّ لحالة الإفلات من العقاب الراهنة، فعندئذ ستندلع حرب بين الأخوة الليبيين. وبرأيي يجب على جميع المواطنين تكريس أنفسهم لبناء ليبيا والتركيز على الجيل المقبل والاستثمار في كلِّ ما من شأنه أن يخدم مصلحة ليبيا.

ولكن هذا لن يتحقَّق إلاَّ حين يطالب الليبيون بحقوقهم بطريقة حضارية ومن دون التفكير في الانتقام الشخصي. وأنا من جانبي أصر على محاكمة الأشخاص الذين اعتقلوني عدة مرَّات ونكَّلوا بي في تلك الأيَّام.

ولن ألجأ إلى تطبيق العدالة بنفسي، لأنَّني أثق بأنَّ القضاء في ليبيا الديمقراطية سوف يمنحني حقِّي من دون أن أكون بحاجة إلى تلويث يدي. ولكن يجب على المجتمع الدولي أن يقف مع ليبيا في تغلبها على هذا الماضي الصعب وأن يقدِّم لها يد النصح والعون.

خديجة رمضان الإمامي
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: مجلة التعاون والتنمية الألمانية/ قنطرة 2012

خديجة رمضان الإمامي صحفية وناشطة وسياسية درست العلوم السياسية والمعلوماتية والموسيقى وتعمل في مجال التلفزيون في مدينة بنغازي.