"فقدان المواطن لكرامته دافع للانتحار على خطى البوعزيزي"

عشر محاولات انتحار على خطى البوعزيزي، ومازال الحكام يقبضون أنفاسهم خوفاً من المزيد. هي موجة يُخشى أن تتحول إلى ظاهرة جماعية في ظل حالة من الهياج تنتاب الشارع العربي جراء ضغوط عديدة، فما هو رأي الطب النفسي؟ أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي ورئيس اتحاد الأطباء النفسيين العرب، يتحدث في حوار مع أميرة محمد حول هذه القضية.

الصورة ا.ب
البوعزيزي.. يائس حوله طغيان الحكام إلى قدوة

​​ تحول الانتحار حرقاً إلى حديث الساعة في الشارع العربي مع إقدام المزيد من العاطلين واليائسين كل يوم في البلدان العربية على محاولة جديدة للتخلص من حياتهم، احتجاجاً على غياب العدالة الاجتماعية ونقص فرص العمل والعيش الكريم. ومنذ نجاح ثورة الياسمين، تصدر محمد البوعزيزي، مفجر انتفاضة التحرير التونسية، اهتمام الشباب العربي، فهل اتخذوا منه قدوة؟ وباتت طريقته في الاحتجاج وسيلة للتعبير عن رفض غياب العدالة الاجتماعية. توجهت دويتشه فيله بهذه الأسئلة وغيرها للدكتور أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي ورئيس اتحاد الأطباء النفسيين العرب، للإجابة عنها.

موجة الانتحار التي تجتاح الشارع العربي هذه الأيام تعبر بطبيعة الحال عن يأس المواطنين وشعورهم بالكبت والعجز، وما إلى ذلك.. ولكن علمياً، هل لهذا الأمر علاقة بـ"أحلام الاستشهاد" للشهرة التي تعد نوعاً من أحلام اليقظة؟

أحمد عكاشة: لا أعتقد أن لها علاقة بأحلام الاستشهاد ولكن هذه الظاهرة، بل وظاهرة الانتحار بشكل عام، تعتبر صرخة للمساعدة، للاحتجاج على مواقف معينة، وصرخة لإزالة العجز واليأس والإحباط الذي يعاني منه الناس. يجب أن نأخذ في الاعتبار أن في العالم ينتحر سنوياً ما لا يقل عن مليون نسمة. وهناك محاولات الانتحار التي لا تنتهي بالوفاة، وهذه تمثل عشرة أضعاف حالات الانتحار.

ولماذا انتشرت تلك الظاهرة فجأة بعد محمد البوعزيزي؟

الصورة عكاشة

​​ عكاشة: ما حدث أنه عندما انتحر البوعزيزي الذي أحرق نفسه احتجاجاً على البطالة والظلم وأثارت العملية زوبعة في العالم العربي كله، تفاعل معه الكثيرون في المنطقة، ممن يشعرون أيضاً بالإحباط واليأس والعجز ولا يستطيعون التعبير عن أنفسهم، فكان البوعزيزي بالنسبة لهم نوعا من المثل الأعلى والقدوة. ولعلك تلاحظين أن حالات الانتحار، التي حدثت في مصر وغيرها، تحدث عادة أمام مواقع صانع القرار السياسي، أمام مجلس الوزراء، أو مجلس الشعب، وكأنهم يقولون: "ساعدونا نحن غير سعداء وغير راضيين.. إذا لن تستطيعوا مساعدتنا، سنتجه إلى الله". هو نوع من الهروب من المعاناة والعجز والاكتئاب.

من وجهة نظر علم النفس، لماذا يلجأ المنتحرون من بعد البوعزيزي إلى وسيلة الحرق نفسها؟

عكاشة: كل بلد لها طريقة معينة في الانتحار، البلاد المسموح فيها باستخدام المسدسات والبنادق والرشاشات مثل الولايات المتحدة، تجدين المنتحرين فيها يستخدمون الأسلحة النارية. أما في المجتمعات التي لا يتم فيها تداول تلك الأسلحة، فيلجأ المقدمون على الانتحار إلى أساليب أخرى. مثلاً في مناطق الفلاحين في مصر، النساء يلقين على أنفسهن البنزين ويشعلن النار، لا تجدينهن يتعاطين الحبوب وليست لديهن وسائل أخرى. الرجال أو النساء في المدن يلقون بأنفسهم من الجسور في النيل أو يحرقون أنفسهم أيضاً.

إذاً طريقة الانتحار تختلف بين شعوب وتتباين من ثقافة إلى أخرى؟

عكاشة: نعم، الانتحار يعتمد على الثقافة والميول الدينية ويختلف من بلد إلى بلد. وسيلة الحرق وإلقاء النفس في النيل هي مثلاً طبيعة الانتحار في الثقافة المصرية بل والعربية بشكل عام.

عودة لأولئك الذين أقدموا على محاولات انتحار من بعد البوعزيزي، هل تعتقد أن عقلهم الباطن صور لهم أن استخدم الوسيلة نفسها سيؤدي بالضرورة إلى النتيجة نفسها وهي تحرير الوطن؟ أم أنهم انتحروا يأساً دون النظر إلى أي أبعاد أخرى؟

الصورة دويتشه فيله
محاولات الانتحار مرشحة للزيادة في الشارع العربي

​​ عكاشة: في لحظة الانتحار، التي مر بها هؤلاء ومن قبلهم البوعزيزي، كانوا يمرون بحالة يأس لأسباب اقتصادية ونفسية واجتماعية. البوعزيزي انتحر لأن كل شيء كان مغلقاً أمامه في الحياة. حاول أن يبيع الخضر، فمنعوه. شكاهم، فسخروا منه. لم يتمكن من الأكل أو الشرب أو تأسيس أسرة، فلم يكن أمامه سوى الهروب من هذا الموقف والاحتجاج على الحكومة والسلطة التي أوصلته إلى هذا الحد، كان لحظة الانتحار يهرب من هذا الألم.
دكتور عكاشة.. هل لك أن تصف لنا سيكولوجية المنتحر بشكل عام، وهؤلاء المنتحرين الجدد على وجه التحديد؟

تختلف سيكولوجية المنتحر من شخص إلى آخر. إن 70 في المائة من حالات الانتحار في العالم تكون نتيجة لمرض الاكتئاب والقلق. هذا المرض يعطي صورة تشاؤمية للحياة بأنه لا يوجد حاضر، وبأن الماضي ظالم، والمستقبل أسود. وبالتالي يكون الانتحار هنا للتخلص من المعاناة. وللعلم، فإن آلام الاكتئاب أكبر من آلام السرطان. مريض السرطان، الذي لا يعاني من الاكتئاب يرغب في الحياة، لكن لو أصابه اكتئاب، سيفقد الرغبة في الحياة وقد يقدم على الانتحار. الاكتئاب يصاحب الأمراض المزمنة المؤلمة بحوالي 40 – 50 في المائة من الحالات.

وما هي أسباب الاكتئاب؟

عكاشة: لاكتئاب ممكن أن يأتي لأسباب اقتصادية، مثل البطالة والفقر. ومن الممكن أن يأتي لأسباب اجتماعية، مثل الظلم والقمع والقهر وإهانة كرامة الفرد. ومن الممكن أن يقدم إنسان على إنهاء حياته لأسباب نفسيه، عندما يفقد حبيبته أو عزيزي عليه مثلاً. لكن هناك مرضى الفصام، هؤلاء عندما ينتحرون يقدمون على ذلك لأنهم يسمعون أصواتاً تأمرهم بالانتحار. يشعرون أنهم تحت رقابة أو اضطهاد، تحدث لهم ضلالات مثل الغيرة أو الخيانة الزوجية.

وهل يعكس الانتحار ضعف الفرد أم قوته على اتخاذ تلك الخطوة؟

عكاشة:

الصورة ويكيبيديا
محمد البوعزيزي، مفجر ثورة الياسمين

​​ البعض يعتبر الانتحار هروباً وجبناً، وآخرون يعتبرونه شجاعة وكرامة، هذه آراء فلسفية مختلفة. لكننا كطب نفسي نعتبر أن أي محاولة للانتحار هي صرخة للمساعدة علينا أن نأخذها على محمل الجد، ولا نقول إنهم يمثلون أو يهرجون، لا يصح ذلك إطلاقاً. وأعتقد أن هذه الأيام وصلت الصرخة لصناع القرار السياسي، على الأقل في الكويت، هناك خطوات، وفي السعودية، هناك خطوات، وأرجو أن تلتفت سائر الحكومات إلى مواطنيها لدراسة مدى جودة حياتهم حتى لا يصل إلى درجة اليأس والعجز.

كانت هناك محاولات انتحار مماثلة أيضا في أوروبا الشرقية في فترة من الفترات.. كيف تقارن بين الحالتين؟

عكاشة: الأمر واحد، عندما يكون هناك كبت وإحباط شديدين وانعدام لحريات التعبير، وكبت للديمقراطية، وعندما تكون هناك حالة من الطوارئ تحكم البلاد، وعندما يكون هناك اعتقال للسجناء وتعذيب للمعتقلين، عندما تهان كرامة الإنسان ويفقد آدميته، وعندما يهان الإنسان في كبريائه بالفقر والبطالة والقمع والقهر، لاشك أن كل هذه العوامل ستؤدي إلى زيادة حالات الانتحار.

أجرت الحوار: أميرة محمد
مراجعة: عماد مبارك غانم
حقوق النشر: دويتشه فيله 2011

قنطرة

دروس من"ثورة الياسمين" التونسية:
الانسداد السياسي يولّد الانفجارات
يوضح الإعلامي المعروف والباحث الأكاديمي في جامعة كامبردج خالد الحروب في هذه المقالة أهم الدروس المستقاة من الانتفاضة الشعبية التونسية ومدى تأثيرها على الشعوب والأنظمة العربية الأخرى، مبينا كيف أن الدول الكبرى لا تتردد في تغيير "الأحصنة" في اللحظة المناسبة.

دور المعارضة التونسية بعد سقوط نظام بن علي:
المعارضة التونسية- صناعة القرار وصياغة التغيير؟
رغم أن المعارضة التونسية أبدت ارتياحها إزاء سقوط نظام الديكتاتور بن علي، إلا أنها ما تزال في حاجة إلى وقت لإعادة بنائها من جديد و لتتقدم للانتخابات المقبلة. ألفرد هاكنسبيرغر يستطلع توجهات أحزاب المعارضة التونسية وأدوارها بعد سقوط نظام بن علي.

سقوط نظام المستبد زين العابدين بن علي
عطر الياسمين ورائحة البارود
لم يكن أحد من المراقبين يتوقع أن تتحول انتفاضة شبابية احتجاجية على مشكلات اجتماعية إلى ثورة تنتشر انتشار النار في الهشيم في كل أرجاء تونس. الثورة التي واجه فيها عبق الياسمين رائحة البارود الحادة أدت في النهاية إلى سقوط نظام حاكم مستبد. بيئات شتاوفر يستعرض خلفيات حركة الاحتجاجات والخيارات المتاحة أمام تونس.