في فخ زراعة الخوف وصناعة التطرف

النوايا الطيبة قد تنقلب إلى الضِّد أحياناً؛ فالحملة الإعلامية الجديدة، التي أطلقتها وزارة الداخلية الألمانية من خلال مُلصَقات في الشوارع والأماكن العامة ضد المتطرفين الإسلامويين في ألمانيا، تُسهِم في إشاعة الخوف من المسلمين في أوساط المجتمع الألماني، كما يرى الكاتب الصحفي روبرت ميسيك في تعليقه التالي.

الكاتبة ، الكاتب: Robert Misik



وزارة الداخلية الألمانية تبحث في هذه الأيام عن أشخاص مفقودين. فهل تبحث السلطات الأمنية بنفس الطريقة، يا ترى، عن الوثائق المخفية أو المُتْلَفة في فضيحة الخلية النازية المتطرفة NSU، على سبيل المثال. لكن البحث الذي تقوم به السلطات لا تقصد به مجرد البحث. فأسماء "المفقودين" الذين يتم البحث عنهم هي: أحمد وحسن وفاطمة وتيم. ووفق إعلانات الأجهزة الأمنية، فقد أمسى هؤلاء لدى أصدقائهم مختلفين عما كانوا عليه في سابق عهدهم، بل باتوا غُرَباء عنهم وتغيّرت سلوكياتهم.

 

 الشيء المشترَك بين هؤلاء الأربعة، وهم ثلاثة من أصول مهاجرة وواحد من أصل ألماني، هو أنهم في الواقع غير حقيقيين. بل إنهم من من صُنْع خيال بعض المُتشدِّقين من أعضاء العلاقات العامة التابعة لِـ"هيئة استشارات التطرُّف" التابعة لوزارة الداخلية، الذين فكّروا في إطلاق هذه الحملة التي يرون أنها لطيفة. وعلى ما يبدو فإن الأربعة المفقودين يشتركون أيضاً، كما يُظهِر "إعلان المفقودين"، في أنهم انزلقوا إلى الأصولية الإسلاموية، ووقعوا في براثن بعض الدُّعاة المتشددين، وخضعوا لتغييرات عميقة في سِمات شخصياتهم، لدرَجة أن أصدقاءهم السابقين لم يعودوا فجأةً يستطيعون التعرُّف عليهم.

حملة مرفوضة

وزير الداخلية الألماني الاتحادي د ب ا
المسلمون تحت الشُّبهة العامّة: على الرغم من الانتقادات الحادة من جانب السياسيين وممثلي الجمعيات الإسلامية، يتمسّك وزير الداخلية الألماني هانز بيتر فريدريش بحملته ضد التطرف الإسلاموي في أوساط الشباب عبر الملصقات الحائطية في الأماكن العامة.

​​حملة وزارة الداخلية هذه لا يواجهها حالياً المنظماتُ الإسلامية وجمعيّات المهاجرين فحسب، بل إن الكثيرين من المسؤولين عن الاندماج والعديد من الهيئات الاستشارية ترفضها أيضاً: فهذه الحملة تَتّسِم بجوانب سلبية وتُشيع الخوف في أوساط الناس. والمطلَب هو أن يتم إخماد هذه الحملة. قد تكون فكرة "هيئة استشارات التطرُّف" شيئاً لطيفاً: فهناك تطرُّف في أوساط الشباب - حين ينزلقون إلى مجرى مياه الإسلاميين المتشددين (الذين قد يكون لهم تأثير على المهاجرين أو على معتنقي الإسلام من الألمان)، أو حين يقَعون في أحضان جماعات النازيين الجدد، أو حتى حين ينجرفون نظرياً إلى جوار المجموعات اليسارية الإرهابية (وإن كانت هذه المجموعات اليسارية المتطرفة غير نشِطة جداً في الوقت الحاضر، إلا أنه لا يمكن استبعاد ذلك على الدوام). الوصول إلى هذه الدرجة من التطرف يكون مرتبطاً بتغيُّرٍ في سلوك الشخصية، وأوائل مَن يدرِكون أعراض هذا التغيُّر يكونون على الأرجح الأصدقاء والأقارب.

وهؤلاء يشعرون بالحيرة في التعامل مع مثل هذه المواقف في كثير من الأحيان. ويتحدثون بإصرار مع الأشخاص المعنيين، غير أنهم يشعرون بالعجز. ومن الجميل أن يلجؤوا عند عجزهم وحيرتهم إلى الهيئات الاستشارية. ولكن يبقى التساؤل هنا: هل هي فكرة جيدة أن يكون الأصدقاء جزءاً من وزارة الداخلية - فحينئذٍ لن يكون من السهل الحفاظ على صداقة صديق "مهدَّد بالضياع" حين يخبره صديقه بأنه أبلغ الشرطة عنه من أجل مصلحته.

ازدواجيّة المعايير

وبغض النظر عن ذلك، يطرح هنا السؤال التالي نفسه: ماذا يعني بالضبط أن حملة وزارة الداخلية تفترض أن المسلمين على وجه الخصوص هم مَن يقعون في براثِن "الأصولية الدينية"؟ في حالة الشاب الألماني تيم، من الواضح في الإعلان أنه معتنق للإسلام وأنه قد سقط في الأصولية المتطرفة، رغم أن هذا ليس مذكوراً بشكل صريح في الإعلان. صحيح أنه قد يكون انزلق في أحضان بعض المجموعات المسيحية الإنجيلية المتطرفة، ولكن هذا الاحتمال لا يتبادرَ إلى ذهن الناظر إلى المُلصَق الحائطي.

كوناست، رئيسة الكتلة البرلمانية لحزب الخُضر الألماني  د ب ا
كوناست، رئيسة الكتلة البرلمانية لحزب الخُضر الألماني تقول عن وزير الداخلية الألماني: "السيد فريدريش يتصرف مثل فيل في متجر للخزَف: فأولاً يشارك، وهو في حالة من الفوضى، في مؤتمر الإسلام. وها هو الآن يقضي، من خلال حملة الملصقات الحائطية، على شراكته الأمنية مع المنظمات الإسلامية".

​​وهنا تبرز الفضيحة: فالتطرُّف الوحيد الذي تتعامل معه هذه الحملة هو فقط النوع الإسلاموي، أما النازيون الجُدد والكارهون للإسلام، من أمثال بريفيك السّفّاح النرويجي، الذين يشكّلون خطراً أكبر بكثير حالياً وينشرون أفكارهم بشكل مُرعِب على شبكة الإنترنت، فلم يتمّ التصدي لهم. ولكن هذه الحملة لن تكون أفضل حتى ولو كانت "أكثر توازناً"، إنْ صحّ التعبير، وحتى لو تمّ تمثيل جميع أشكال التطرُّف بملصقات حائطية. من السهل نسبياً كشف النازيين الجُدُد أو الكارهين للإسلام، وذلك من خلال أقوالهم ومواقفهم المتطرفة: ولكن لن يتم الاشتباه بأي واحد منهم في أنه من محبي بريفيك، وذلك لمجرد أن شعر رأسه أشقر.

لكن الأمر يختلف عندما يتعلق بالمسلمين. وهذا ما تظهرة صورة فاطمة "المفقودة"، وهي امرأة ترتدي الحجاب. إذَنْ فكل مَن ترتدي الحجاب يُشتَبه بالتالي في أن تكون بالفعل من المتطرفين الخطِرين. وإذا قال قائلٌ من وزارة الداخلية إن هذا ليس هو المقصود بالتأكيد، فإن الرَّد الوحيد يكون: هذا لطيف، ولكن للأسف ليس لهذا القول أية صلة بالموضوع - لأن عكس هذا القول هو ما يفهمه الناس: سواء المسلمون الذين أغضبهم ذلك أو الألمان العاديون الذين يعتقدون ذلك على أية حال. وبذلك فإن هذه الحملة تُفاقِم حالة الخوف المستشري في المجتمع الألماني من "المسلمين" وتُسهِم في إذكاء وتشجيع التطرُّف، الذي تسعى هذه الحملة في الوقت نفسه إلى محاربته.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن مصطلح التطرُّف ليس واضحاً على الإطلاق حين يتعلق الأمر بالإسلام. فما المقصود به؟ هل هم الجهاديون وأنصار تنظيم القاعدة المرتبطون في الواقع بالعنف؟ أم أنه يعني كل من يلتزم بمعتقداته الدينية؟ وتكون النتيجة بالتالي الرفض حتى لمجرّد الالتزام الديني.

تشمُّم معتقدات الآخرين وتقصّي عقلياتهم في العَلَن

د ب ا
روبرت ميسيك يقول إن: "كل مَن ترتدي الحجاب يُشتَبه بالتالي في أن تكون بالفعل من المتطرفين الخطِرين. وإذا قال قائلٌ من وزارة الداخلية إن هذا ليس هو المقصود بالتأكيد، فإن الرَّد الوحيد يكون: هذا لطيف، ولكن للأسف ليس لهذا القول أية صلة بالموضوع - لأن عكس هذا القول هو ما يفهمه الناس".

​​حين يُكرِّس أحد الأشخاص حياته لله بأن يقرأ الإنجيل أو القرآن فقط أو غيرها من "الكتب المقدسة"، وحين يرفض العالَم العلماني معتبراً إياه عالَماً "دنيئاً"، وحين تصبح معاييره الأخلاقية دينية، وحين يعتقِد بأن الله أوحى القرآن على محمد حرفيا، أو حين يؤمن بعودة المسيح لاحقاً، أو حين يحاول التبشير والدعوة إلى هذه المعتقدات، التي تنتمي من وجهة النظر العلمانية على الأقل وأيضاً في رأي كاتب هذه السطور إلى عصر ما قبل الحداثة، فمن حق أي فَرْد أن ينتقد هذا الشخص، ولكن ليس من حق أحد تسليمه في أي حال من الأحوال إلى الشرطة طالما أنه لم يرتكب أي عمل من أعمال العنف.

لكن حملة وزارة الداخلية تدعو الناس علَناً إلى تشمُّم عقليّات الآخرين وتقصّي تغيُّرات سلوكياتهم وتتبُّع معتقداتهم. وكل من تظهر عليه "علامات" الانجراف إلى عالم الخيال الديني وأصبح لا يدَع الناس يقتربون منه، باتَ من اللازم الإبلاغ عنه. لكنّ ما قد يبدو لأحد المراقبين "علامة" على تغيُّر التصرفات قد لا يبدو للآخر كذلك، فهذا الأمر مختلف من شخص إلى آخر بالطبع. ولكن من جانب آخر، أليس الذي يُسجِّل أصغر المؤشرات على سلوكيات الآخرين يكون "منتبهاً ويقظاً" أكثر من غيره؟

لا يمكن بالفعل تخيُّل مجتمع قد تنجح فيه مثل هذه الحملة - فأي مجتمع هذا الذي يستدرج فيه المرء أصدقاءه أثناء الكلام كي يتمكن في النهاية من مجرد تسجيل علامة أو علامتين حول شخصياتهم وإبلاغها إلى الهيئة الاستشارية لدى الشرطة؟! إن هذا ذاته هي روح "شتازي": جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقاً، ولكن هذه المرة باستخدام لُغة نفسانية معاصرة: كالاستماع بالأُذن ثم الذهاب إلى الاستشاريين المختصين.

 

روبرت ميسيك
ترجمة: علي المخلافي
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012

روبرت ميسيك كاتب صحافي مقيم في فيينا، ويكتب لصحف متعددة ومنها "تاغيستسايتونغ" أو (تاز)، و "فالتار" و "بروفيل". ومؤخراً تم نشر كتابه "سياسة التخويف. ضد المحافظين الجدد" من قِبَل دار النشر "أَوْفْباو".