سياسة تركيا الخارجية...عودة إلى مسار الاعتدال البرغماتي

ثمة زخم جديد في السياسة التركية الخارجية. فقد سعت تركيا في حراك دبلوماسي حثيث إلى إنهاء توترها مع جارتيها الجنوبيتين إيران والعراق، وذلك رغم الاختلاف حول عدد من القضايا الإقليمية بما فيها سوريا. من جانب آخر تم فتح صفحة جديدة في مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. دوريان جونز ينظر إلى ما وراء هذا الحراك السياسي التركي في تحليله التالي الذي أرسله إلى موقع قنطرة من اسطنبول.

الكاتبة ، الكاتب: Dorian Jones

لقد شكلت السنتان الماضيتان رحلة مليئة بالصعود والهبوط في علاقات تركيا الدولية، بدءاً من سياسة "لا مشاكل مع الجيران" وانتهاءاً بـ"العزلة الثمينة". وحالياً تمر علاقات أنقرة بتوترات مع جيرانها الجنوبيين. لكن يبدو أن هناك مخرجاً بدأ يظهر مؤخراً.

"تركيا تسعى لكسر هذه الحلقة المفرغة" كما يرى مراد بلهان، السفير التركي السابق ونائب رئيس مجموعة تاسام للأبحاث. "فمن خلال تهدئة لهجتها، تحاول تركيا خلق مناخ من المصالحة مع كل جيرانها. لقد بات صانعو القرار في تركيا يدركون أن جزءاً من حساباتهم في الماضي كان خاطئاً".

ففي الماضي تبنى حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم في تركيا نهجاً معتدلاً مع جيرانه، ما أدى إلى تحقيق نجاحات دبلوماسية سريعة، وسط تطور العلاقات مع طهران وبغداد ودمشق. لكن الربيع العربي أدى إلى تخلي تركيا عن هذه السياسة لحساب دعم القوى الرامية لإسقاط الأنظمة القديمة. وهي قوى مرتبطة في معظمها بجماعة الإخوان المسلمين.

حسابات سياسية خاطئة

وبالنسبة لحزب العدالة والتنمية، الذي يشترك في الجذور الإسلامية مع الإخوان المسلمين، فقد ناسبه النجاح الأوليّ للثورات العربية كثيراً. لكن سياسته، وخاصة حيال سوريا، أدخلته في صراع مع إيران والعراق، اللتين تقودهما قوى شيعية. وأمست "سوريا جرحاً نازفاً في خاصرة السياسة الخارجية التركية"، وفق تحذير بلهان.

ضربة أخرى تلقتها أنقرة تمثلت في الإطاحة بحليفها المقرب، الرئيس المصري محمد مرسي، الذي شكل عزله سقوطاً لحجر دومينو جديد في استراتيجية أنقرة الدبلوماسية. لذلك، فقد أدى هذا الانعزال الدبلوماسي المتزايد إلى عودة مجددة للاعتدال، بحسب ما يقول سنان أولغن الباحث الزائر في معهد كارنيغي ببروكسل، ويوضح ذلك بالقول إن الاعتدال هو "العودة إلى إطار أكثر واقعية سيوفر توازناً أفضل بين مصالح تركيا الوطنية والقيم التي يجسدها الحزب الحاكم".

رئيس الوزراء التركي، زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم، رجب طيب إردوغان مع ضيفه الرئيس المصري محمد مرسي في أنقرة يوم الثلاثين من سبتمبر/ أيلول 2012. Photo: Reuters
رئيس الوزراء التركي، زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم، رجب طيب إردوغان مع ضيفه الرئيس المصري محمد مرسي في أنقرة يوم الثلاثين من سبتمبر/ أيلول 2012. لقد أدى عزل مرسي في يوليو/ تموز2013 إلى سقوط حجر دومينو آخر في استراتيجية أنقرة السياسية.

العراق كشريك جديد

"تركيا تعتبر العلاقات التركية-العراقية مفتاحاً للاستقرار في المنطقة دائماً"، كما جاء في تصريح وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، خلال مؤتمر صحفي مع نظيره العراقي هوشيار زيباري في أنقرة في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2013. وأعقب داود أوغلو هذا الإعلان بزيارة إلى بغداد هيأت الأجواء لزيارة مقررة في ديسمبر/ كانون الأول لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى تركيا.

وهذه "إعادة توجيه مثيرة للإعجاب في الدبلوماسية التركية"، كما يرى سميح إيديز الكاتب والمعلق الدبلوماسي في صحيفة "طرف" التركية وموقع "Al Monitor" الإلكتروني، مضيفاً: "لقد شهدنا تبادلاً غاضباً للتصريحات بين رئيسَيْ الوزراء. ولكنْ الآن ثمة تهديد مشترك، خاصة ذلك الناجم عن سوريا والتطرف المرتبط بتنظيم القاعدة. العراق يعاني بكل تأكيد من تبعات ذلك بشكل يومي تقريباً. لكن هذا التهديد بدأ يلقي بظلاله على تركيا أيضاً، على الرغم من أن أنقرة دعمت أو غضت الطرف في البداية عن العناصر المرتبطة بالقاعدة التي شاركت في الصراع السوري".

هذا التقارب مرتبط بالطاقة أيضاً. فأثناء جمود العلاقات مع بغداد تقاربت أنقرة علاقتها مع حكومة إقليم كردستان العراق، التي تتمتع بحكم شبه ذاتي وتعاني من توتراتها الخاصة بها مع الحكومة المركزية في بغداد حول السيطرة على الموارد النفطية. في لبّ هذه العلاقة الحميمة، ترغب أنقرة في الاستفادة من هذا المخزون الهائل للغاز والنفط من أجل إشباع حاجتها المفتوحة على الطاقة. لذلك تم توقيع سلسلة من الاتفاقات المتعلقة بالطاقة وأنابيب نقل النفط والغاز مع حكومة إقليم كردستان العراق، ومن المقرر وصول أول شحنة من النفط إلى تركيا في نهاية عام 2013.

هذه السياسة أثارت غضب بغداد، التي تصر على أنها الوحيدة المخولة بإبرام مثل هذه الاتفاقات، وهو أمر ينكره كل من أنقرة وحكومة إقليم كردستان العراق. لكن واشنطن تدخلت في هذا الخلاف من خلال ممارسة الضغط على أنقرة لحل الخلاف مع بغداد. وفي هذا السياق يشير أولغن إلى أن "استغلال احتياطات الطاقة استغلالا كاملا لدى أكراد العراق ممكن فقط من خلال تعاون ثلاثي بين أنقرة وأربيل وبغداد".

رجل يقف على حقل نفط في كردستان العراق. Photo: dpa
احتياج أنقرة لاستيراد النفط من كردستان العراق: أثناء جمود علاقاتها مع بغداد تقربت أنقرة من حكومة إقليم كردستان العراق التي تتمتع بحكم شبه ذاتي. يشار إلى أن الولايات المتحدة تدخلت بالضغط في النزاع بين تركيا والعراق.

تقارب أوليّ مع طهران

تحسين العلاقات مع بغداد يدعمه أيضا تقارب أنقره الأوليّ مع طهران، ويلاحظ المعلق الدبلوماسي إيديز في هذا الصدد أن "المالكي يحظى بدعم كامل من طهران. لذلك فإن أي تحسن في العلاقات بين تركيا وإيران ستكون له آثار إيجابية على العلاقات بين تركيا والمالكي".

كما التقى وزير الخارجية الإيراني محمد ظريف نظيره التركي داود أوغلو في اسطنبول في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013. وأبدى الطرفان عزمهما نزع فتيل كل نوع من أنواع التطرف، لاسيما من قبل تنظيم القاعدة. وتم الاتفاق على زيارة وزير الخارجية التركي طهران في نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني وأيضا قيام الرئيس الإيراني المنتخب حسن روحاني بزيارة رسمية إلى الجارة التركية خلال الأشهر التالية.

كانت أنقرة تُعَدّ فيما مضى من بين أوثق حلفاء طهران، إلا أن العلاقات ساءت بسبب دعمهما لأطراف متنازعة في الصراع السوري. ولكن الآن يبدو أن مسار الاعتدال أصبح يسود الأجواء، ويؤكد الباحث سنان أولغن في هذا السياق أنه "يمكننا الحديث عن حقبة جديدة في العلاقات الإيرانية-التركية التي يبدو أنها تمضي في الاتجاه الصحيح رغم الاختلافات حول عدد من القضايا الإقليمية، بما فيها سوريا".

كما أن احتمال التوصل إلى حل دبلوماسي للملف النووي الإيراني سبب إضافي للتقارب التركي مع طهران. ويشير أولغن في هذا الصدد إلى أن "تركيا لا تريد أن تكون بعيدة بشكل تام عن هذه العملية. فهذا سبب آخر للقرار القاضي بمد اليد نحو إيران".

وزير الخارجية الإيراني الجديد محمد جواد ظريف (يسار) ونظيره التركي أحمد داود أوغلو خلال منتدى في اسطنبول عقد في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 2013. Photo: AP
كانت أنقرة تعد في الماضي من بين أوثق حلفاء طهران، إلا أن العلاقات بينهما ساءت بسبب دعمهما لطرفين مختلفين في الصراع السوري. لكن المياه بدأت الآن تعود إلى مجاريها. في الصورة: وزير الخارجية الإيراني الجديد محمد جواد ظريف (يسار) ونظيره التركي أحمد داود أوغلو خلال منتدى في اسطنبول عقد في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 2013.

تطلعات تركية للعب دور إقليمي رئيسي

قبل تجميد العلاقات الثنائية كانت اسطنبول تحتضن المحادثات الدولية حول برنامج إيران النووي التي تعقد حالياً في جنيف. وباتت أنقرة تدرك أنها دفعت ثمناً دبلوماسياً غالياً لسياستها الخارجية مؤخراً. فــ "تركيا بقيت خارج التفاعلات الهامة في المنطقة، وهي تريد الآن مكاناً على الطاولة"، كما يشير المعلق الدبلوماسي إيديز، ويضيف: "وهذا يجعلها تشعر بالألم، لأن هذه الحكومة كانت تتطلع إلى أن تكون لاعباً رئيسياً في المنطقة وصانعة للسياسة فيها. لكن التهميش أدى إلى إدراك أنقرة بأن منهج سياستها الخارجية لم يخدم مصالح تركيا، وهذا هو سبب تغير التوجه السياسي التركي الذي نشهده حالياً".

ونتيجة لهذه التغير في المسار السياسي يبدو أن هناك زخماً جديداً في السياسة التركية الخارجية. وذلك بإعادة فتح صفحة جديدة في المفاوضات حول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، وهي الخطوة الأولى منذ أكثر من 30 شهراً. ولأن طلب أنقرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يسير بوتيرة بطيئة للغاية فإن هذه الخطوة تعتبر رمزية أكثر من كونها مؤشراً على البدء في تغيير حقيقي. لكنها أعطت المسعى التركي وقتاً كافياً بعد أن كان الطلب التركي مهدداً بالانهيار بسبب عدم إحراز أي تقدم، وهو ما كان سينتج عنه شعور تركي متنام بالعزلة.

ومع استمرار الصراع في سوريا وشبح النزاع الطائفي في المنطقة فإن أولوية أنقرة الدبلوماسية تبدو وكأنها مدّ الجسور بدلاً من هدمها. لكن البناء يبقى دائماً أصعب من التدمير. ومن جهته، يقول مراد بلهان من مجموعة "تاسام" للأبحاث إنه لا يتوقع "أي تقدم باهر ومفاجئ في سياق إنهاء عزلة تركيا"، مضيفاً أن "العزلة ستستمر لأن اللهجة السياسية التركية كانت حادة لدرجة أن أي تغيير سيتطلب وقتاً" (حتى تصفى النفوس وتلتئم الجروح). لكنه يستدرك أن تغيير اللهجة يبقى في غاية الأهميته.

 

دوريان جونز

ترجمة: ياسر أبو معيلق

تحرير: علي المخلافي

حقوق النشر: قنطرة 2013