باكستان بين "شريعة" طالبان وسيناريوهات الانهيار

تحمَّلت الحكومة الباكستانية ثمنًا باهظا لسلام خطير من خلال سماحها لحركة طالبان بفرض الشريعة الإسلامية في منطقة وادي سوات. الكاتب والصحفي المقيم في كراتشي، محمد حنيف يرصد في هذه القراءة واقع الحياة تحت طالبان وكيف تتم مواجهة تقدّم الإسلامويين في باكستان.

صورة رمزية، وادي سوات
وادي سوات في شمال باكستان، كان يعرف سابقًا بأنَّه مركز سياحي، وصار في يومنا هذا معقلا لحركة طالبان

​​سمحت الحكومة الباكستانية في السادس عشر من شهر شباط/فبراير لحركة طالبان الباكستانية ضمن إطار اتِّفاقية سلام بفرض الشريعة الإسلامية كأساس قانوني مثلما تراها حركة طالبان في منطقة وادي سوات. وفي اليوم التالي شهدت "الساحة الخضراء" Green Chowk في مدينة مينغورا Mingora التي تعد أهم مدينة في المنطقة ازدحامًا في حركة المرور. وفي الواقع يطلق الناس منذ فترة على هذه الساحة اسم "ساحة الدماء" Khooni Chowk؛ حيث اعتاد الطالبان هنا على عرض ضحايا أعمالهم الانتقامية الإجرامية.

يقول صاحب متجر وهو يشير إلى شخص آخر يحاول تنظيم حركة المرور: "أنظر إلى هذا... هذا هو ما نريده بالذات - الخروج والعمل. وإذا خرجت قوّات الأمن وإذا خرج مقاتلو طالبان فعندئذ سيكون بإمكاننا العيش من جديد مثل ذي قبل". وصاحب المتجر هذا يعتقد مثل الكثيرين من الباكستانيين أنَّ الاتِّفاق مع حركة طالبان هو الطريق الوحيد من أجل وضع نهاية لظهور الجثث الممزَّقة في "ساحة الدماء".

ومدينة مينغورا ليست مدينة مريبة وليست جزءًا من الغرب الباكستاني المتوحّش الذي تميل كثيرًا وسائل الإعلام الغربية إلى ذكره في تغطيتها الإعلامية حول حركة الطالبان؛ بل هي مدينة مفعمة بالطاقات والطموح، وفيها معاهد للفقه والحقوق والطب وفيها معهد عالٍ للتمريض ومدارس خاصة تدرِّس باللغة الإنكليزية وفيها حتى متحف للتراث المحلي.

ولكن في اليوم الذي تم فيه التوصل إلى اتِّفاق السلام اختفت النساء من هذه المدينة - من الشوارع ومن المكاتب وحتى من السوق الكبيرة التي لا يسمح دخولها إلاَّ للعائلات ولا يباع فيه شيء آخر سوى الأقمشة الملوّنة والحقائب والأحذية والإكسسوارات. وكذلك اختفت سوق الموسيقى وتم إغلاق جميع محلات بيع الاسطوانات والأشرطة الموسيقية. وهكذا قام أحد أصحاب هذه المحلات بتحويل محله إلى مطعم للكباب وصار يحاول من خلال ذلك الاستمرار في العمل.

يقول هذا الرجل وهو يُهوِّي على منقل الفحم الذي يخرج منه دخان أكثر من النار:"هذه هي الشريعة". وكذلك رفع الحلاق الموجود في المحل المقابل لافتة كتب عليها "لا نقص قصات شعر غير إسلامية ولا نحلق الذقون". وهذا هو ثمن السلام مثلما قيل لي.

خيبة أمل في النظام

توصَّلت حكومة الإقليم الحدودي الشمالي الغربي في شهر شباط/فبراير إلى هدنة مع حركة طالبان في منطقة وادي سوات - مقابل السماح بتطبيق الشريعة الإسلامية في هذه المنطقة

​​وفي مدينتي التي تقع في إقليم البنجاب كان هناك صديق لي يعمل رجل أعمال ولم يكن يكاد يكتم تحمّسه للتطوّرات الأخيرة. فقد قال صديقي هذا: "إذا استولى مائتا رجل من حركة طالبان على المدينة فعندئذ سيكون بإمكاننا أخيرًا إصدار قراراتنا بأنفسنا. ومَنْ الذي يحتاج أصلاً لهذا النظام الفاسد الذي يحكمنا؟".

وصديقي هذا يعتبر نموذجًا للباكستانيين المحافظين من أبناء الطبقة الوسطى، وكذلك من الممكن في جميع أرجاء البلاد سماع آراء مشابهة لرأيه لدى سكان المدن. وأنا بدوري حاولت تذكيره وقلت له: "أنت توصل بناتك في كلِّ صباح إلى المدرسة، وتسمع دائمًا الموسيقى في سيارتك. وإذا استولى الطالبان على الحكم فسينتهي كلّ هذا".

فتردَّد لحظة ثم ذكر التفسير الذي يحاول من خلاله أغلب الباكستانيين الأغنياء تهدئة أنفسهم؛ إذ قال: "ما يفعلونه في سوات يتطابق مع ثقافتهم البشتونية. ولكن الإسلام يأمر بالعلم للرجال والنساء. ونحن البنجابيون لدينا ثقافة مختلفة".

خروج الطالبان في مسيرة سلمية

السادة الجدد في وادي سوات: ينتقد المراقبون الباكستانيون والغربيون اتِّفاقية الهدنة مع حركة طالبان ويصفونها بأنَّها ركوع للإسلامويين المتطرِّفين

​​سمعت مثل هذه الأقوال الساذجة في برامج تلفزيونية حوارية وقرأتها في صحف باكستانية: "إيديولوجيا حركة طالبان سليمة ولكن فقط طرقهم غير سليمة". ويبدو أنَّ لدى الناس أمل في أنَّ الطالبان سوف يثبتوا بمجرّد دخولهم إلى لاهور أو إسلام أباد أنَّ الإسلام دين سلام ولا يوجد فيه إكراه.

ولكن مَنْ عاش تحت حكم حركة طالبان لا يستسلم لمثل هذا الوهم. وعندما استولى مقاتلو حركة طالبان على الحكم في وادي سوات قاموا بتنظيم مسيرة سلمية خرج فيها آلاف من الرجال المعمَّمين بعمامات سوداء وملتحين بلحى إسلامية صحيحة وكانوا يجوبون شوارع مدينة مينغورا. ويتذكَّر مدرِّس يعمل في مينغورا تلك المسيرة: "لم يكن من بينهم أي وجه معروف. وبقيت جالسًا مع عائلتي في البيت وكنت أرتجف من الخوف".

قال المدرِّس ذلك ثم تردَّد وتأكَّد من أنَّ جهاز التسجيل الذي بحوزتي كان مقفلاً، وكأنَّه كان على وشك الكفر وأضاف: "شعرت وكأنِّي واحد من أهالي مكة غير المسلمين في يوم دخول النبي محمد وجيشه مكة، على الرغم من أنَّني مسلم ملتزم". وما تريد حركة طالبان فرضه في وادي سوات ليس ثقافة بشتونية. فهم يريدون العودة إلى فجر الإسلام - إلى عصر لم تكن توجد فيه بطبيعة الحال لا مدارس إنكليزية ولا كليات للبنات ولا متاجر لبيع الاسطوانات والأشرطة الموسيقية.

سجينات في بيوتهن

أما الخوف واليأس اللذان يثقلان على عاتق النساء في وادي سوات فهما أشد وأصعب؛ إذ قام الطالبان بتفجير مدارس البنات وألقوا بجثث الراقصات التي اخترقها وابل من الرصاص في "ساحة الدماء". لقد روت لي النساء قصصهن من خلف أبواب موصدة وتحت عباءات البرقة التي اشترينها حديثًا ومن خلال حجاب بثلاث طبقات ودائمًا بعد تأكيدي لهن أنَّني لن أذكر أسماءهن.

وقيل لي مرارًا وتكرارًا: "بإمكان الرجال الاستمرار في الذهاب إلى المدرسة والعمل تحت حكم الطالبان إذا التزموا بتطبيق القوانين، ولكن نحن أصبحنا سجينات في بيوتنا. كما أنَّنا لا نستطيع حتى الذهاب للتسوّق وشراء المواد الغذائية. لقد انتهى كلّ شيء بالنسبة لنا".

وفي العامين الماضيين تمكَّن المجتمع المدني الباكستاني من تنحية دكتاتور عسكري عن منصبه وأجبر بعد ذلك الحكومة المنتخبة على إعادة تعيين قاضي القضاة، افتخار شودري في منصبه الذي أبعده عنه الرئيس برويز مشرف، بالإضافة إلى إعادة تعيين قضاة المحكمة العليا. ولكن عندما يتعلَّق الأمر بحركة طالبان لا يتحدَّث الناس بصوت واحد. ولا شكّ في أنَّ آلافًا من الباكستانيين خرجوا في مسيرات محتجين على الأصوليين وأنَّ معارضي حركة طالبان يعبِّرون عن آرائهم على شبكة الإنترنت ضمن عدد كبير من مجموعات الفيس بوك.

الصحفي محمد حنيف
يرى الصحفي محمد حنيف أنَّ السخرية واللامبالاة سلاح ضعيف من أجل التصدي لامتداد سلطة طالبان.

​​ولكن الناس يعرفون في داخلهم أنَّ المرء لن يستطيع من خلال التوقيع على عريضة على الإنترنت أو من خلال رفع لافتة إقناع مقاتلي حركة طالبان بإلقاء أسلحتهم والعودة بسلام إلى مزاولة مهنهم السابقة. وفي البدء كان الناس يعقدون آمالهم على تمكّن قوات الأمن الباكستانية من محاربة مقاتلي حركة طالبان؛ ولكن يبدو أنَّ للجيش وأجهزة الاستخبارات جذور راسخة في معسكر المحافظين.

وإذا لم يكونوا متواطئين بشكل مباشر مع حركة طالبان، مثلما يقول عنهم بعض المراقبين، فإنَّهم يلتزمون على كلِّ حال درجة غير طبيعية من الحياد. وفي الواقع هم يؤجِّرون من ناحية قواعدهم الجوية للولايات المتَّحدة الأمريكية التي تسطيع من هناك إرسال طائرات بدون طيار لترمي حمولتها من القذائف والقنابل فوق مناطق باكستانية، وثم يقدِّمون من ناحية أخرى التعازي لضحايا هذه الهجمات الأمريكية.

وفي سوات سمعت هذه القصة مرارًا وتكرارًا: "قبل اتّفاق السلام مع مقاتلي حركة طالبان كان الجنود يوقفون الناس في الشارع ويقولون لهم »لا تذهبوا إلى هناك لأنَّ الطالبان يذبحون الآن شخصًا هناك." ولكن لم يتبادر لهم التدخّل ضدّ هذا العمل البشع. والأمريكيون بدورهم يقولون لنا إنه يجب علينا أن نعارض حركة طالبان ونقاومها، ويبيحون في الوقت نفسه لطائراتهم التي تسير بدون طيار قتل مدنيين باكستانيين في العمليات التي يتم توجيهها عن بعد لمطاردة قادة حركة طالبان وتنظيم القاعدة.

ولا يوجد أي باكستاني يؤيِّد هذه الهجمات أو الطريقة التي يتم تنفيذها بها. وإذا كان كلّ من الأمريكيين وطالبان لا يكنّون لنا سوى الاحتقار، فماذا نفعل؟ وفي شوارع لاهور يشاهد المرء الشيء الفعَّال الذي يجب فعله؛ حيث يقف بعض الحراس أمام باب فندق ما يزال يعتبر آمنًا بصورة خاصة.

ومشاهدة الحراس في باكستان أمر مألوف، بيد أنَّ هؤلاء الحراس يشهرون أسلحتهم. وعندما تحدَّثت مع أحدهم حول ذلك قال لي من دون مبالاة إنَّ هذه أوامر. ولكن كيف يريد هذا الحارس الدفاع عن نزلاء الفندق وحمايتهم من فرقة مقاتلين يحملون قاذفات صواريخ أو من سيارة محمَّلة بالمتفجِّرات أو من أيديولوجيا تريد منا قبول قوانين مكة وعاداتها وتقاليدها التي تعود إلى عام 570 - هذا ما لا يعرفه أي أحد حتى الآن.

محمد حنيف
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: نويه تسورشر تسايتونغ/قنطرة 2009

ولد محمد حنيف عام 1965 في مدينة أوكرة الباكستانية. وكان طيارًا في سلاح الجو الباكستاني قبل أن يصبح كاتبًا صحفيًا. وحاليًا يعيش في لندن، حيث يدير تحرير قسم اللغة الأوردية في هيئة الإذاعة البريطانية BBC. وصدرت مؤخرًا الترجمة الألمانية لروايته "A Case of Exploding Mangos".

قنطرة

الرئيس الباكستاني الجديد آصف على زرداري:
من سجين إلى رئيس للبلاد
أصبح آصف علي زرداري - أرمل زعيمة المعارضة الباكستانية بينظير بوتو - رئيس باكستان الجديد. وارتقاؤه من سجين إلى رئيس للبلاد يشكِّل العودة الأكثر إثارة للدهشة في المشهد السياسي الباكستاني الذي يمتاز بكثير من التناقضات والتداخلات والتعقيدات وفق تعليق عرفان حسين.

إعادة تعيين قاضي القضاة افتخار شودري:
انتصار متأخر للقضاء الباكستاني
بعد الاحتجاجات الشديدة التي قادتها المعارضة الباكستانية رضخت الحكومة في إسلام أباد وأعلنت عن أنَّها سوف تعيد تعيين قاضي القضاة، افتخار شودري في منصبه. وقد وعد الرئيس الباكستاني آصف علي زرداري في أثناء حملته الانتخابية بإعادة تعيين شودري، بيد أنَّه لم يفِ بهذا الوعد وفق تعليق غراهام لوكاس.

سيناريوهات النزاع الباكستاني:
إذا ما تفتتت باكستان . . .
يحلل هيرفريد مونكلر الباحث في علم السياسة تواصل الأزمة السياسية في باكستان ويطرح السؤال التالي: ماذا سيحدث فيما لو تعرضت باكستان كدولة وكوحدة إقليمية إلى التجزئة وانقسمت إلى دويلات متعددة علما بأن الحكومة المركزية اليوم عاجزة عن السيطرة التامة على كامل أرجاء البلاد؟