الإنترنت والديموقراطية في العالم الإسلامي

يزداد استخدام الإنترنت في الدول العربية والإسلامية. هل يؤدي ذلك إلى تغييرات بنيوية في الرأي العام؟ وهل تتعامل المجتمعات الإسلامية بشكل جديد مع المسائل الدينية والسياسية؟ هذه هي بعض محاور الحوار مع الباحث الألماني ألبرشت هوفهاينز

ألبريشت هوفهاينس
ألبريشت هوفهاينس

​​

ألبرشت هوفهاينز منذ سنوات تبحث في موضوع استخدام الإنترنت في العالم الإسلامي – العربي، كيف نشأت فكرة البحث؟

ألبرشت هوفهاينز: في التسعينات كنت أحضر لرسالة الدكتوراة في النرويج. هناك كانت تجهيزات الإنترنت التقنية في الجامعة أفضل منها في المانيا. وقد استطعتُ عبر هذا الوسط الذي شدني كثيرا أن أشهد عن كثب بدايات ظهور المواقع الإسلامية الأولى في المغترب. عندها راودتني فكرة هذا البحث.

هل لك أن تصف لنا موضوع البحث؟

هوفهاينز: في بداية التسعينات كان لسان حال المتحمسين للإنترنت كالتالي: لن يحتاج المرء لأكثر من مودِم، وكمبيوتر واتصال بشبكة الإنترنت – ليملك العالم بأسره.
في هذا السياق نشأت فرضية مفادها أن الامتلاك الوافر والسهل للكثير من الناس لإمكانيات النشر سوف يُغيّر جذريا طبيعة بناء الرأي العام، ولسوف تمتد المناظرات العامة على مدى العالم وبالتالي ستتغير أيضا بشكل حاسم عملية تشكيل الرأي العام في البلدان العربية – الإسلامية. من الممكن أن يُحدِث تتطور كهذا نتيجتان يؤديان إلى التحرر: الاشتراك العريض لقطاعات واسعة من المجتمع في بناء الرأي العام وتبعاً لذلك مشاركة عامة أوسع في صيرورات إتخاذ القرار.

حسب هذا القول سيساعد استخدام الإنترنت على انتشار الديموقراطية؟

هوفهاينز: أردت أن اتحقق في مشروع بحثي من الأطروحة التالية: هل سيزيد استخدام الإنترنت من عدد ودور المشاركين في قضايا بناء الرأي العام. إذا كان الأمر كذلك فهذا يعني تماما أن هيمنة الهرميات التقليدية والسلطات على بناء الرأي ستكون مهددة. سيكون من الطبيعي لمستخدمي الإنترنت أن يبنوا آراءهم بأنفسهم بدلا من الرجوع الى المصادر السلطوية أو الأخذ بالآراء الموجودة والجاهزة بدون أية تساؤلات. إن إدلاء المشتركين بتعليقاتهم على ما ينشره الآخرون ومناقشة الحلول بأسلوب أقل هرمية، بإمكانه أن يطور ديناميكية اجتماعية تُسهِم بقوة بالضغط في سبيل دمقرطة صيرورات إتخاذ القرار. من هذه الفرضية إنطلق مشروع البحث.

غالبا ما يُشكك المراقبون بهذا التأثير الديمقراطي ويدّعون أن مستخدمي الإنترنت يزورون فقط مواقع الدردشة أو يبحثون في الشبكة عن صور جنس.

هوفهاينز: هذا القول يقلل من تأهيل مستخدمي الإنترنت العرب. وهذا ليس مقصدي – بالعكس. تيم برنرز-لي، "أبو" الشبكة العالمية www)) عبََّرَ حديثاً في القمة العالمية للمعلومات في جنيف عن تفاؤله الكبير، إذ قال: بغض النظر عن بعض الخصوصيات الثقافية يرينا الإنترنت في المحصلة، بأننا لا نختلف كثيرا عن بعضنا البعض. هذا أيضا كان من النتائج المهمة لعملي. عندما يريد الناس الدردشة أو النظر إلى صور الجنس، فأنهم يتابعون بشكل أو بآخر اهتمامات مشتركة لدى البشرية في كل أنحاء العالم، أعني هنا بالتحديد الاهتمام بالتواصل مع الأصدقاء، وتوسيع دائرة المعارف من خلال مستخدمين لا يسكنون بالضرورة في الجوار، ولكن لديهم إهتمامات متشابهة، أو لديهم الرغبة بالتواصل مع الجنس الآخر وكسر الحواجز الإجتماعية للمحيط الإجتماعي القريب.

أول حاسوب منزلي عرضته آي بي إم في العام 1981 في الأسواق. بعد فترة وجيزة تأسست شركة "صخر" في العام 1982 في الكويت وعرضت العديد من برامج تقنيات المعلوماتية. هل يواكب العرب ركب التطور العالمي؟

هوفهاينز: "صخر" تأسست لإنتاج تقنيات معلوماتية باللغة العربية، وطورت بدايةً حاسوباً خاصاً ولوائح خاصة للتشغيل. إلا أن هذه المنتجات لم يكتب لها البقاء نظراً لسيطرة مايكرو سوفت على الأسواق. وبالرغم من هذا فأن "صخر" حالياً من المنتجين المهمين لبرامج الإنترنت العربية.

عُقِدَ الكثير من المؤتمرات العربية بهدف التوحيد القياسي لحلول تكنولوجيا المعلومات العربية. اقتراحات الجامعة العربية ومصر والسعودية لتوحيد الأنماط في هذا المجال فشِلت، ولم يستطع أي منها أن يفرض نفسه. في النهاية فرضت أنماط مايكرو سوفت نفسها. وهذا ما يشير إلى قوى السوق وإلى من له كلمة الفصل.

كيف تطور استخدام الإنترنت في البلدان العربية؟

هوفهاينز: لا يمكن وضع البلدان العربية كلها في كفة واحدة. ردود الفعل على ظاهرة الإنترنت كانت مختلفة بإختلاف الدول العربية. حاليا لم يعد هناك من هذه البلدان من يرفض الإنترنت تماما. ولكن البعض يتعامل مع هذه الظاهرة بشكل أكثر تقييدا من الآخر. الدول التي أفسحت المجال بشكل مبكر لإستخدام الإنترنت، كانت دول الأنظمة الاقتصادية الليبرالية ذي التوجهات الغربية مثل الأردن، لبنان، الكويت، مصر، الإمارات والبحرين.

الأردن ولبنان اعتُُبِروا في نهاية التسعينات جنة حرة لأسواق تكنولوجيا المعلومات، ولكنهما الآن تراجعتا أمام مصر والإمارات. ذلك لأن الأخيرتين استطاعوا أن يقدموا حوافزا من جهة الدولة، وعملوا أكثر على تحسين البنية التحتية. والدعم الحكومي المباشر لعب دورا ملحوظا.

تأسس مركزين لتكنولوجيا المعلومات واحد في القاهرة والآخر في دبي وذلك لتوفير شروط ملائمة لإستخدام الإنترنت في المجال الإقتصادي. كيف تتعامل الدولة مع تنظيم الشبكة ومع التشريع القانوني؟

هوفهاينز: اذا قارنا دول العالم العربي سنجد بينها من يُتيح المجال للمُشترِكين بدخول كامل الحرية للشبكة وأخرى تقود مجمل سير المعلومات عبر مصفيات (Filter). هذه المصفيات المركزية بإمكانها سد الطريق على المشترك لدخول مواقع معينة. إلا أن المستخدمين البارعين والعارفين بتقنيات الإنترنت يستطيعون تجاوز هذه السدود.

مصفيات الرقابة نجدها على سبيل المثال في السعودية والامارات وفي سورية. السعودية على سبيل المثال سمحت للعموم بالدخول الى الإنترنت في العام 1999 بعد تردد طويل ، وبعد أن أوجدت الشروط التقنية للتصفية المطلقة. سبق هذه الخطوة جدال حول كيفية حماية المجتمع السعودي من التأثيرات الضارة الناجمة عن الإنترنت. و لعبت المخاوف من تهديد نظام البلد السياسي دورا كبيرا طبعا. بيد أنه من الخطأ الاعتقاد بأن المخاوف الأخلاقية هي مجرد حجج واهية، بالرغم من أن الرقابة السياسية تُبرَر غالبا بحجة الأخلاق، إلا أنه هناك بالفعل مخاوف جدية حول التماسك الإجتماعي وحول الهوية الدينية.

التيارات الإسلامية تعتبر المكون الرئيسي للميول في البلدان العربية. كيف تتعامل هذه التيارات مع الإنترنت؟ وهل هناك إختلافات عن مستخدمي الإنترنت الآخرين؟

هوفهاينز: كان هناك نوعا من التحفظ والمخاوف عند الكثيرين من المفكرين والعلماء المسلمين من أن الإنترنت سيسهم في التسرب الى المعايير الاجتماعية والأخلاقية الخاصة وفي إفراغها من محتواها. في هذا السياق كان هناك نقاشا على خلفية إسلامية، دار في اماكن أخرى تحت مؤشرات مختلفة. في آسيا على سبيل المثال، ولكن أيضاً في كل مكان وفي اوروبا حيث تسود النظرة بأن الإنترنت يساعد على تجانس الثقافات.

ما يعني بالتحديد ونظرا لموازين القوى السائدة، أن القيم والمضامين الثقافية الغربية أو بالأحرى الأمريكية سوف تنتشر. هذا النقاش لم يخبو حتى الآن. المجموعات الإسلامية بالذات كانت من جهة أخرى من أوائل من إستفاد من الشبكة.

قلت في البداية، أن مجموعات المغترب كانت مُشاركة منذ البداية، مالذي كان مختلفا آنذاك؟

هوفهاينز: مجموعات المغترب الإسلامية دخلت الى الإنترنت في وقت لم يكن الإنترنت موجودا في الشرق الاوسط بعد. فمن جهة كان لديهم مخاوف ومن جهة ثانية إدراكا بفرصة نشر رسالتهم الخاصة. هذا ما برز في المواقع الاولى التي نشرها المغتربون العرب المسلمون في امريكا وبعدها تكرر ذلك في الشرق الاوسط.

هل وجدت فقط مواقع إنترنت بمحتويات إسلامية؟

هوفهاينز: إذا أردت أن أفرز قليلا وبشكل تخطيطي: إسلاميون هنا – وغير دينيون هناك، سأجد الإسلاميين حتى الآن أكثر حضورا، وأسرع حركة، كان لديهم مالا أكثر وعلاقات أكثر. لا أريد أن أقول بهذا أن حضورهم في الشبكة يعكس تمثيلهم في المجتمع، ولكنهم على أية حال يَنشُرون أكثر عبر مواقع الانترنت.

عند تحليل المواقع العربية ال 100 الأكثر شيوعا نجد عشرة مواقع إسلامية شديدة التدين ذات محتوى ديني – اجتماعي وعددا منها أيضا ذات محتوى سياسي. هذه الظاهرة فريدة من نوعها في العالم ، لأنه لايوجد باللغات الأخرى في المواقع ال 100 الأولى مواقع دينية على الاطلاق.

لماذا تتكلم فقط عن المجموعات الإسلامية؟

هوفهاينز: لا، هذا سوء فهم. بمعنى أنه صحيح أن الإنترنت العربي يعكس دورا أكبرا للدين عما نعهده في المجتمعات الأخرى. إذ أن 10% من المواقع الأكثر شيوعا هي مواقع شديدة الإرتباط بالدين، إلا أنها تبقى 10 % فقط، ظاهرة الدين يجب أن تُرى من خلال السياق الإجتماعي العام ولا يجوز المغالاة بها.

انت تستخدم تعبيرات تثير الخوف مثل الجهاد الرقمي (الديغيتالي) و الجهاد الإلكتروني، ماذا تقصد بهذه المفاهيم؟

هوفهاينز: مفهوم الجهاد الرقمي ظهر في التسعينات، ولم يكن له بداية علاقة بقرصنة الانترنت، بل كان يعني مجرد الجهاد من خلال الانترنت. الجهاد بالمفهوم الأوسع، أي " بذل الجهد من أجل الإسلام" وفي حالتنا من خلال الإنترنت. أستُخدِم هذا التعبير على ما أعتقد من قبل مجموعات في المغترب – طلاب مسلمون – في امريكا.

وكان هدفهم تعبأة الرأي العام لصالح المجاهدين "المجاهدين الحقيقيين"، أو إذا جاز التعبير لصالح حركات التحرر في العالم الإسلامي مثل كشمير، البوسنة والشيشان. هذه كانت الشعارات الكبيرة في ذلك الوقت. أما عمليات الهجوم والقرصنة الإلكترونية فأتت بشكل كبير بعد عام 2000 مع بِدء الانتفاضة الثانية في فلسطين، وعلى فكرة من جانب الاسرائيليين كما من جانب الفلسطينيين.

علينا أن نميز على أية حال بين النشاطات الفعلية وبين الإحساس بها من خلال الإعلام المحلي الالماني أو الغربي. بعد 11 أيلول/سبتمبر لاحظنا في الإعلام الغربي مزيجا من حب تتبع الأحداث المثيرة ومن نشر الذعر في تقارير عن إستخدام الإنترنت في العالم الإسلامي، مما حجب غالبا رؤية الواقع الفعلي.

لنعود الى مسألة الديموقراطية، كيف يمكن لها أن تنشأ إذا كانت السيطرة بحسب قولك في الشبكة لمايكروسوفت؟

هوفهاينز: من خلال قرار المُشترِِك الذاتي والحر لإنتقاء ما يريد قراءته أو لا وما يريد كتابته أو لا. على الأقل من حيث المبدء هو سيد قراره فيما يود معرفته. ولكنني أريد أن أقول أيضا أن هذه الصورة مثالية. لأنني أعرف مدى القوة الإعلامية لمايكروسوفت وللشركات الضخمة الأخرى، التي تفوق قوتها الإعلام الرسمي للدولة مقارنة مع وسائل الإعلام التقليدية.

إلا إنه حتى لو كانت مايكروسوفت وشركاؤها يسيطرون على 30 بالمائة من الانترنت، وحتى لو أن أناسا كثيرون يدخلون الإنترنت مبدئيا عبر مواقع لمايكروسوفت وبذلك يزداد خطر جعل هذه المواقع منابع أولية للمعلومات، فإن عرض المنافسين للذين لديهم بعض المعرفة لايبعد إلا مدى نقرة واحدة.

حتى لو اعترفنا بقوة الشركات الضخمة في السوق فأنا لاأعتقد أن هذه الشركات تتحكم بكل شيء. التطور المضاد سيكون دائما موجودا وفي الإنترنت لايزال التعبير عن هذه الأصوات المضادة أسهل من الوسائط الأخرى، مع نمو شبكة الإنترنت سيكون هناك من جهة قوى أكبر في السوق ولكن من جهة أخرى مزيدا من التعددية.

دعنا نعود الى فرضيتك الأولى. هل لاحظت تغييرا بنيويا في المجتمع العربي؟

هوفهاينز: بعد هذه الفترة القصيرة مباشرة لم تتحقق فرضية البداية. ما لا يعني أن كل الفرص قد ضاعت. بإمكاني أن أقول أن الفرضية الأولى كانت ساذجة بتطرفها. توقع حدوث تغيُّر سياسي جذري، من خلال إدخال الإنترنت فقط كان ساذجا بكل الأحوال. لكن المفروض متابعة قضايا التشكلات الإجتماعية التي يعززها الانترنت.
اتجاه التطور واضح: الإنترنت يقوي دور و وعي الفرد. حتى دردشة الفتيان يجب عدم الاستهانة بها. في الدردشة يكون أسهل التحدث للملأ عن مواضيع لم يُحكى عنها حتى الآن إلا بين الأصدقاء.

لازال رأيي كما كان، هذا كله سيؤدي لتغيير في الثقافة السياسية. ليس بالضرورة إلى تغيير جذري، وليس فقط من خلال الإنترنت، إلا أن الإنترنت في كل الأحوال يشكل عاملاً مهماً.

أجرى الحوار يوسف حجازي

الدكتور البرشت هوفهاينز سيبدء عمله في آب/أغسطس 2004 كبروفسور للعلوم الإسلامية في جامعة اوسلو في النرويج. وقد عمل حتى الآن كمعيد في مركز الشرق الحديث (ZMO) في برلين.
وفي إطار عمله في المركز أجرى بحثا تناول تأثيرات الإنترنت على الصيرورات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي. وتضمن البحث عالم الإنترنت في سياق الفعل الإجتماعي وذلك لإدراك تأثير وأبعاد تغيُّرات عالم السايبر (Cyber World) الوهمي على العالم الواقعي.