"لا يجب علينا تعميد الدستور"

يُعتبر عالم الدين البروتستانتي فريدريش فيلهلم غراف من أبرز رجال الدين في عصرنا. في الحوار التالي الذي أجراه يوهان شلومان يعبّر غراف عن موقفه من النقاش الدائر حول المسلمين ونظام القيّم الألماني، كما يشرح لماذا يجب علينا أن ندافع عن دستور الدولة المحايد الليبرالي، وتحديداً من أجل الاعتراف بالخصوصيات الدينية.

يعد عالم الدين البروتستانتي فريدريش فيلهلم غراف من أبرز رجال الدين في عصرنا. في الحوار التالي الذي أجراه يوهان شلومان يعبّر غراف عن موقفه من النقاش الدائر حول المسلمين ونظام القيّم الألماني، كما يشرح لماذا يجب علينا أن ندافع عن دستور الدولة المحايد الليبرالي، وتحديداً من أجل الاعتراف بالخصوصيات الدينية.

الصورة جامعة ميونخ التقنية
يرى غراف أن "من الخطورة بمكان استخدام مصطلح "مسيحي يهودي" مثلما يستخدم حالياً، لأنه يهوّن من شأن التفرقة بين القانون والدين".

​​ رداً على ما قاله الرئيس الألماني كريستيان فولف عن الإسلام يتحدث كثيرون، ومنهم فولكر كاودر، رئيس الكتلة النيابية للحزب الديمقراطي المسيحي والاجتماعي المسيحي، عن "الدستور الألماني الذي يرتكز على التراث المسيحي اليهودي". ماذا يعني ذلك؟

فريدريش فيلهلم غراف: علينا أن نقول في البداية أن هذا الادعاء هو ببساطة إدعاء خاطئ. الدولة الدستورية الحديثة، ودولة القانون في ألمانيا بشكل خاص، تأسست لتحل محل القوانين الكنسية. على سبيل المثال، حتى سنوات الخمسينات كانت الكنيستان الكبيرتان، الكاثوليكية والبروتستانتية، تنظران نظرة نقدية إلى حد كبير إلى مفهوم "حقوق الإنسان"، وكانتا تعتبرانه علامة على الضياع الليبرالي للإنسان الحديث.

فيما بعد، وفي سياق النقاش حول كرامة الإنسان، بدأت الكنيسة تفكر في الجذور الدينية. إن مصطلح "كرامة الإنسان" ينبع من المدرسة الرواقية الفلسفية. هذا المصطلح استخدمه آباء الكنيسة المسيحية بعد ذلك، وأدخلوه في فلسفة النهضة المسيحية. لكن الارتباط الوثيق بين كرامة الإنسان وتصورات خلق الإنسان على صورة الله ومثاله لم يتبلور إلا في القرن العشرين.

الصورة دب.ا
مصطلح "مسيحي يهودي" لا يساعدنا كثيراً لأنه يغض البصر عن الفروقات الجذرية بين المسيحية واليهودية، مثلما يقول غراف.

​​ وماذا يعني مصطلح "المسيحي اليهودي" الذي يُستخدم لأغراض سياسية؟

غراف: هذا المصطلح لا يساعدنا كثيراً لأنه يغض البصر عن الفروقات الجذرية بين المسيحية واليهودية. هذا المصطلح تم استخدامه بعد عام 1945 على وجه الخصوص، وذلك لتأكيد الصوابية السياسية للمتحدث.

بالتأكيد أرسى أنبياء العهد القديم، أو الأنبياء العبرانيون اليهود، مبادئ دستور أخلاقي عالمي، هذا صحيح، كما أنه صحيح أن ذلك أثّر في المسيحية. إلا أنه من الخطورة بمكان استخدام مصطلح "مسيحي يهودي" مثلما يستخدم حالياً، لأنه يهوّن من شأن التفرقة بين القانون والدين.

إلى أي حد يمثل هذا المصطلح خطراً؟

غراف: إن دولة الدستور الليبرالية ترتكز على الحيادية الدينية وعلى التفرقة الواضحة بين القضايا الأخلاقية والدينية والقانونية.

​​ في الردود التي أعقبت كلمة الرئيس الألماني تحدث البعض عن "الجذور" المسيحية اليهودية أو عن "التراث" الذي استمد منه الدستور مواده، كما تحدث البعض عن "القيم" المسيحية اليهودية. ما الفارق بين الحالتين؟

غراف: كان الدستور الألماني وليد الفكير التنويري. أما الخطاب الذي يتحدث عن القيّم فهو خطاب متناقض بشدة، لأنه هو أيضاً يُميّع التفرقة بين الأخلاق والقانون. إن على مواطن الدولة أن يقوم بواجبات، وهذه الواجبات عليه أن ينهض بها بغض النظر تماماً عن الدين أو طاعة القوانين. غير أن المواطن ليس من واجبه أن يوافق على أي "قيّم". ليس على المسلم المهاجر الذي يصبح مواطناً في ألمانيا أن يقبل بنظام قيّمي معين، بل أن يقبل بالنظام القانوني.

لكنهم يقولون: قد يكون الإسلام جزءاً من ألمانيا، غير أنه لا يساهم في تشكيل قيمنا. هل هناك فارق بين "المساهمات" التي يساهم بها دين السكان الأصليين ودين المهاجرين؟

غراف: كلا. في كل الثقافات المتأثرة بالدين هناك توترات بين القانون الديني والقانون المدني. حتى القانون الكنسي لا يتوافق توافقاً تاماً مع قانون جمهورية ألمانيا الاتحادية. ولكن ذلك لا يدفع أحداً إلى القول: الكاثوليك ليسوا مواطنين ألماناً. إن سبب التوترات الناشئة في كلتا الحالتين هو حدوث مواجهة بين التصورات الأخلاقية والدينية وبين قوانين أخرى، مثل قانون الأحوال الشخصية.

ولهذا، ليس على الإسلام أن يساهم في قيّم جمهورية ألمانيا الاتحادية، لأن التحدث عن وجود قيم للجمهورية الألمانية هو خطأ في حد ذاته. يستطيع المسلمون في حياتهم الخاصة أن يعيشوا وفق قوانين الشريعة الإسلامية، ولكن لا بد أن يكون واضحاً للجميع أن "القانون الأساسي" هو المصدر المُلزم الذي تستمد منه الدولة نظامها القانوني.

وإلى شيء ترجع ردود الفعل القوية التي أثارتها عبارة "الإسلام جزء من ألمانيا"؟

غراف: لا أفهم ذلك – إن الجملة ليست بالفعل جديدة، فقبل سنوات عديدة أعلن وزير المالية الحالي فولفغانغ شويبله شيئاً مماثلاً. كما أن الجملة لا تتسم أيضاً بالذكاء، لأنها تتأرجح بين الاستدلال الاستنباطي وبين التقييم الإيجابي.

الصورة د.ب.ا
في رأي غراف فإن "الحوار بين الأديان لا يساعدنا في التعامل بشكل مناسب مع بعض الصراعات الاجتماعية والمشكلات التعليمية".

​​ النقاش الدائر حول كتاب تيلو زاراتسين نقاش ساخن للغاية. ما هي العلاقة بين المشكلات الحقيقية التي تعوق اندماج المهاجرين – والتي يدور النقاش حولها – وبين الدين؟

غراف: الواقع إن كثيرين من المهاجرين لا يحددون هويتهم في المقام الأول وفق الدين، غير أن أعضاء مجتمع الأغلبية أو السياسيين هم الذي ينظرون إليهم من واقع هويتهم الدينية. إن عديداً من المسلمين الذين يعيشون في ألمانيا لا يمارسون الشعائر الدينية.

من هذا التناقض تتولد توترات. على الجانب الآخر، قد يعني كون المرء مسيحياً أشياء مختلفة: أن يكون الإنسان عضواً في كنيسة أو أن يمارس الشعائر الدينية ... إلخ. الجماعات الدينية المسلمة في ألمانيا تكوّن نفس الصورة المختلطة المتعددة.

أي أن "الإسلام" يُستخدم في الوقت الحالي كمصطلح للصراع السياسي، مثله في ذلك مثل "المسيحية" ومصطلح "المسيحي اليهودي" ؟

غراف: نعم، هذا هو الوضع إلى حد كبير. هذه المصطلحات لن تساعدنا على أي حال في إيجاد تسمية موفقة للمشكلات الاجتماعية التي تواجهنا. هذه المشكلات ترجع – وكما هو معروف – إلى أننا كنا واقعياً، ومنذ فترة طويلة، بلد هجرة، دون أن نريد أن نكون كذلك، ولهذا لم يوجه أحد عملية الهجرة إلى ألمانيا توجيهاً صحيحاً، ولم يقم أحد بمرافقتها.

لمواجهة الصراعات الثقافية الخطيرة يرى كثيرون في "الحوار بين الأديان" وسيلة ناجعة.

غراف: إن الذين يقومون بـ"الحوار بين الأديان" هم في المعتاد رجال الدين. وهذا أمر جيد، لأنه من الجيد دائماً أن يتحدث الناس مع بعضهم البعض وأن يتبادلوا الآراء حتي تتضح لهم الفروقات في التقاليد والتراث والطباع.

يجب على الناس في المجتمعات المتعددة أن يتبادلوا الآراء حول الاختلافات المعيارية. في هذه الحالة تزداد أهمية قانون الدولة كوسيلة لتشكيل التعايش بين البشر.

غير أن الحوار بين الأديان لا يساعدنا في التعامل بشكل مناسب مع بعض الصراعات الاجتماعية والمشكلات التعليمية. الفيصل هنا هو اتباع سياسة تعليمية طويلة الأمد، وهي سياسة حققت بعض النجاح. عندما يتحمل الناس في مجتمع معقد، مثل مجتمعنا، ما لا طاقة لهم به، فليست لذلك في معظم الأحيان علاقة بالدين.

مع اعترافنا بأن التصنيفات الدينية في السياسة تستخدم هي في أغلب الأحيان في إطار صراعات – ماذا عن نقاط التصادم الملموسة بين الدولة العلمانية والممارسات الدينية التي تميّز نفسها عن الدولة، مثلاً في المدرسة أو في التربية؟ أليست هناك تصورات متباينة كل التباين فيما يتعلق بحرية العقيدة؟

الصورة دب.ا
يرى غراف أن "الدستور يجب أن يتضمن أيضاً قانوناً كنسياً يُطبَق على مستوى الدولة، أو بالأحرى يجب أن يتضمن قانوناً دينياً. على هذا القانون أن يكون منفتحاً أمام التعددية – ولا يفترض الاعتراف بالمسيحية".

​​

غراف: بالطبع يعني المزيد من الاختلاف، حتى داخل النظام القانوني، المزيد من الصراع. إن الصراعات القانونية المتزايدة فيما يتعلق بالقضايا الدينية هي مؤشر على التحول الديني.

إن ممثلي الجماعات الدينية في ألمانيا ينالون - تقليدياً - حقوقاً قوية. الدولة – رغم أنها محايدة فيما يتعلق بالدين والرؤى العقائدية – تسلك سلوكاً إيجابياً تجاه الجماعات الدينية. هذا النموذج الألماني الخاص يمكن أن يُطبق أيضاً على ممثلي المسلمين في البلاد. غير أن ذلك أمر يُنظر إليه في بعض الأحيان نظرة نقدية للغاية في بقية أنحاء أوروبا. وبالتالي فمن المنتظر حدوث صراعات أخرى على هذا الصعيد.

ماذا سيساعدنا أكثر: الأخذ بالتقاليد الألمانية فيما يتعلق بحرية العقيدة، أم الممارسة العلمانية الصارمة التي تطرد الحجاب خارج المدارس مثلاً؟

غراف: لقد أتت العلمانية بنتائج عكسية على كل حال. فالصراع في فرنسا لم يُحل، بل وّلد في الحقيقة صراعات جديدة. التلميذات المسلمات مسموح لهن في ألمانيا بارتداء الحجاب – أعتقد أن المنع سيكون بالأحرى ضاراً.

إن ما يبدو لي أكثر نجاعةً من القمع هو المزيد من المرونة، والمزيد من الصراحة في الإعلان عن القناعات الدينية على الصعيد العام. وعلى كلٍ، فإن التراث الخاص بحرية الأديان منصوص عليه في القانون الألماني.

يجب أن يتضمن الدستور أيضاً قانوناً كنسياً يُطبق على مستوى الدولة، أو بالأحرى يجب أن يتضمن قانوناً دينياً. على هذا القانون أن يكون منفتحاً أمام التعددية – أي: لا يفترض الاعتراف بالمسيحية؛ أعني: علينا ألا نعمّد الدستور، فإن ذلك لن يزيد الأمور إلا صعوبة.

أجرى الحوار: يوهان شلومان
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم

حقوق النشر: صحيفة زود دويتشه/ قنطرة 2010

فريدريش فيلهلم غراف عالم دين بروتستانتي يعيش في ميونيخ. ظهر له حديثاً كتاب "استغلال الآلهة" (دار بيك للنشر، ميونيخ 2009)

قنطرة

كتاب " البنات المسلمات" للكاتبة زينب المصرار:
كيف تعيش "البنات المسلمات" في ألمانيا؟
بعد فترة وجيزة من صدور كتاب" ألمانيا تلغي نفسها" لتيلو سارازين الذي يصور فيه المسلمين في ألمانيا بأنهم لا يجيدون سوى"إنجاب فتيات محجبات"، صدر كتاب " البنات المسلمات" للكاتبة زينب المصرار حول المسلمات في ألمانيا. منى صالح تلقي الضوء على هذه القضية.

الجدل المُثار حول أراء تيلو زاراتسين المتعلقة بالمسلمين في ألمانيا:
التلذذ باحتقار الآخرين!
يرى روبرت ميزيك في هذا التعليق أن أطروحات السيد زاراتسين، عضو إدارة البنك المركزي الألماني والحزب الاشتراكي الديمقراطي، المتعلقة بالمهاجرين عامة، والعرب والمسلمين خاصة، في ألمانيا متعجرفة وجارحة وشاذة، كما أنها مطعّمة بالعبارات العنصرية والصياغات التي تنم عن احتقار غريب للمهاجرين.

دراسة عن "حياة المسلمين في ألمانيا":
الاندماج بدل الانعزال
على الرغم من أوجه النقص في مجال التعليم وتطوره أوضحت دراسة للمكتب الاتحادي للمهاجرين واللاجئين تحت عنوان "حياة المسلمين في ألمانيا" أن الاندماج الاجتماعي للمسلمين أفضل كثيراً من صورته النمطية. سونيا هاوغ تلخص نتائج الدراسة.