يجب الحيلولة دون وقوع مجازر بعد النصر على نظام الأسد

عاش الأب باولو دالوليو في سوريا أكثر من 30 عامًا وأعاد إحياء دير مار موسى الحبشي شمال دمشق. وحتى منتصف 2012 كان يرسل تقارير حول المآسي الحادثة يومياً بسوريا، إلى أن أبعَدَهُ نظام الأسد عن البلاد. أنطونيلا فيتشيني أجرت معه الحوار الآتي.

ورَدَ في تقرير صدَر مؤخرًا عن الأمم المتَّحدة أن عدد القتلى منذ الخامس عشر من آذار/ مارس 2011 يزيد عن 60 ألف شخص، في الحرب الأهلية السورية. ولكن مع ذلك لا يزال النظام متشبثاً باستخدام سياسة العنف. برأيك هل ستتحوّل الحرب الدموية في سوريا إلى حرب استنزاف طويلة الأمد؟

باولو دالوليو: أنا شخصيًا لا أستطيع تقييم هذه الأرقام، ولا يمكنني بالفعل تقديرها. ولكن من تجربتي الخاصة، لاحظتُ أن الثوَّار يميلون، بهدف الدعاية، إلى تضخيم أعداد القتلى أكثر مما هي عليها في الواقع.

وفي المقابل تعتمد الأمم المتَّحدة على مصادر موثوق بها، وقد توصَّلت إلى عدد أكبر (أي بزيادة 15 ألفًا عن العدد الذي قُدِّر بِ 45 ألفًا من قبل). وهذا لا يفاجئني، ولكني أخشى، بعد انتهاء كلّ شيء وإحصاء عدد الضحايا، من أننا سنُفجَع بعدد من القتلى على أرض الواقع أعلى من ذلك بكثير.

فليس من المنطقي أن تتساقط القنابل شهرًا تلو الآخر على المدنيين ومن ثم يدور الحديث عن عدد قليل نسبيًا من الضحايا. هذا كذلك أمر سيء من وجهة النظر الأخلاقية على الأقل. وفي سوريا لا يتم فعل أي شيء لاستهداف قادة المقاومة، بل يتم قتل المواطنين السوريين البسطاء في مجازر جماعية. وببساطة تتمثَّل أخلاق النظام في شعار هو: "إما الأسد أو نحرق البلد".

كيف تفسِّر غياب المجتمع الدولي إلى حدّ كبير عن هذا الصراع وعدم إنهاء العنف في سوريا؟

دالوليو: منذ اللحظة التي أشار فيها النظام السوري وأتباعه إلى خطر الإسلامويين المنبعث من الثوَّار، شعر المجتمع الدولي أنَّ من حقِّه الوقوف موقف المتفرِّج، وذلك وفق شعار: إذا لم تنشأ في سوريا ديمقراطية فلا يوجد أيضًا أي سبب يدعو للدفاع عن الديمقراطية في هذا البلد. لذلك فنحن نواجه مفارقة، وذلك لأنَّ هذا الموقف بالذات يُهيِّئ الظروف الملائمة لانتشار الإسلام الراديكالي.

النظام في سوريا كان ينظر إلى الثورة منذ بدايتها باعتبارها مؤامرة على الدولة السورية. ومثل هذه الادعاءات لم تنطلي عليّ قطّ، ولكن من المعروف أنَّ عمليات التلاعب والتدليس ليست بالأمر الجديد على التلفزيون الرسمي في سوريا وأنَّ النظام كان يخترق منذ ردح طويل صفوف الخلايا المتطرِّفة.

وفي هذا الصدد أود القول ومن دون تبسيط الأمور إنَّ العمليات التي يقوم بها المتطرِّفون الإسلاميون كانت منذ البداية في صالح هذا النظام الذي يدَّعي أنَّ الثورة كلها ليست إلاَّ مجرَّد إرهاب تدعمه قوى أجنبية.

وهذه الجماعات على الرغم أيضًا مما تبدو عليه من انقسام وتعقيد، إلاَّ أنَّها قدَّمت للمجتمع الدولي،عندما تمكَّنت أخيرًا من كسب المزيد من التأثير داخل الثورة، عذرًا مقبولاً عن سلبيته وتقاعسه. لقد كان هذا خطأ لا يُصدَّق في تقدير الحسابات.

الطفل السوري عبد الله رَسَمَ صورة يبين فيها مآسي الحرب. مخيم قطمة. دويتشه فيله
نظام يخوض حربًا ضدّ شعبه - وفق تقديرات الأمم المتَّحدة من الممكن أن يرتفع عدد اللاجئين السوريين في هذا العام إلى مليون لاجئ، ومن المفترض كذلك أنَّ أكثر من 60 ألف شخص قتلوا في سوريا منذ بداية الثورة.

​​

وردَ في تقرير صدر عن لجنة تقصي الحقائق في سوريا التابعة للأمم المتَّحدة أنَّ الحلّ العسكري لهذا الصراع يعتبر أمرًا مستحيلاً، وذلك نظرًا إلى الأوضاع السائدة على أرض الواقع، وأنَّه لا أمل إلاَّ في إجراء مفاوضات...

دالوليو: يبدو حاليًا أنَّ الحلّ عن طريق المفاوضات أمراً غير محتمل أيضًا. والنظام يصرّ على إجراء المفاوضات من أجل كسب الوقت؛ ومن أجل إلحاق المزيد من الدمار الممنهج بالبلاد. وهو يريد بذلك دخول المرحلة الثالثة، التي تتمثَّل في استعادة سيطرته على البلاد.

كنتُ أتوقّع أن يعترف النظام في دمشق بعدم تمكّنه من السيطرة على كامل الأراضي السورية وأن يحاول لذلك تقسيم البلاد على طول نهر العاصي.

ونظرًا إلى زيادة اتساع نطاق الثورة فإنَّ الخيار الوحيد لحلِّ الأزمة السورية كان ممكنًا في التعامل مع سوريا على غرار ما تم فعله في كوسوفو، أي من خلال الاعتماد على ولاء العلويين وأبناء الأقليات الأخرى في المنطقة، مثل المسيحيين.

لقد كان من الممكن قبول مثل هذا الحلِّ حتى من قبل الشيعة في إيران باعتباره أهون الشرّين. ولكن هذا لم يحدث وكذلك صار يرد من أوساط الثوَّار أنَّ حدوث ذلك لم يعد ممكنًا في الوقت الراهن، وذلك لأنَّ الثوَّار باتوا يمتلكون في هذه المنطقة قوة كبيرة لدرجة أنَّ مثل هذا التقسيم لم يعد يشكِّل خيارًا ممكنًا بالنسبة للنظام.

لماذا لم يتم تطبيق هذا الحلّ الانفصالي عندما كان لا يزال يشكِّل خيارًا ممكنًا؟

دالوليو: هذا يعود حسب رأيي إلى سببين. السبب الأوَّل يعود إلى عوامل نفسية؛ إذ إنَّ بشار الأسد كان دائمًا يقول عن نفسه: "أنا من دمشق ولست من جبال العلويين". أي أنَّ أفقه الثقافي والفكري يشمل جميع أنحاء سوريا. والمفارقة أنَّ بشار الأسد يعدّ من هذا الجانب "غير طائفي".

صحيح أنَّه يستخدم طائفته من أجل دعم سلطته - بيد أنَّ السلطة التي لا تمتد فوق كامل الأراضي السورية لا تعنيه. ومن هذه الناحية ثمة فجوة تفصل بين إدراكه والواقع السائد على الأرض.

وتقوم الفرضية الثانية على فكرة مفادها أنَّ النظام السوري يشكِّل منظومة معقدة، يجب عليها أن تحاول دائمًا خلق التوازن بين عقيدة حزب البعث غير الانفصالية ومعتقدات العلويين. وصحيح أنَّ هاتين العقيدتين تبتعدان منذ فترة عن بعضهما، ولكن ليس إلى درجة تقسيم البلد جغرافيًا.

لقد تحدَّثتَ حول ضرورة السيطرة - على الأقل - على المناطق التي تعتبر الآن محرَّرة...

دالوليو: نشرتُ مؤخرًا على صفحتي في موقع فيسبوك رسالة باللغة العربية طالبت فيها قادة الائتلاف الوطني السوري الإسراع في تشكيل حكومة انتقالية في المناطق المحرَّرة. وأكَّدتُ على عدم الإبطاء في تشكيل الحكومة الانتقالية من أجل تجنّب خلق الانطباع الذي يفيد أنَّ سوريا قد سقطت كلها الآن في أيدي الجماعات الإسلاموية المتطرِّفة والسرِّية التي تعمل في الخفاء.

وأيضاً للتأكيد على إلى أنَّ السوريين سوف يبدؤون في إعادة تسليم الدولة للمدنيين. وبالإضافة إلى ذلك توجد في سوريا أيضًا الكثير من مشكلات الحياة اليومية التي يتعيَّن حلها، مثل مشكلة توفير إمدادات المياه والكهرباء وكذلك مشكلة توفير فرص العمل وتسديد الرواتب لمستحقيها.

هل ترى أنَّ الوقت لا يزال مبكرًا للحديث حول مستقبل الأقليات؟

دالوليو: على العكس من ذلك، الوقت ليس مبكرًا على الإطلاق من أجل الخوض في هذا الموضوع الذي تجب مناقشته الآن، لكن التنبؤ بالمستقبل بات صعبًا للغاية، وهذا يعود قبل كلِّ شيء إلى عدم وجود أية مساعدات من الخارج.

نأمل أن تكون لدى الثورة قدرات كافية للحكم الذاتي بغية تمكين البلاد من عدم التفكّك أثناء عملية المصالحة - وهذا ما تأمله أيضًا جميع القوى الديمقراطية المشاركة في الثورة. ولا يوجد في الواقع سوى القليل من الجماعات العسكرية التي تشكِّل تهديدًا حقيقيًا على مصير الأقليات في سوريا، على الرغم من أنَّ هذه الجماعات لم تستهدف المسيحيين حتى الآن.

مدنيون سوريون في قرية مدمرة. دويتشه فيله.
استنتجت اللجنة الدولية لتقصي الحقائق في سوريا في تقرير أصدرته عام 2012 أنَّ "حرب الاستنزاف التي تدور في سوريا أدَّت إلى وقوع أضرار لا تحصى ومعاناة إنسانية. ومع استمرار النزاع يزداد عنف الأطراف المتحاربة ولا يمكن التكهّن بردود أفعالها".

​​

لكن لقد ظهر مؤخرًا تقرير بهذا الشأن من الأم أغنيس مريم (راهبة كرملية ورئيسة دير مار يعقوب في بلدة قارة في ريف حلب، معروفة بموقفها الناقد جدًا للثوَّار)...

دالوليو: الأخت أغنيس دقيقة وحذرة جدًا في كلامها وأنا أريد التأكيد على أنَّ هذا ليس إلاَّ مجرَّد مثال آخر على تأثير عمليات الكذب والتزييف التي يمارسها النظام السوري بمهارة. والأخت أغنيس هي رئيسة حركة لا يوجد لها تمثيل في البلد اسمها "مصالحة"، وهذا يشكِّل في الحقيقة مشكلة كبيرة، وذلك لأنَّ تفسيرها للأحداث انتقائي جدًا ولأنَّها تنظر إلى الثورة على أنَّها إرهاب!

برأيك، كيف ستبدو سوريا بعد نظام الأسد؟

دالوليو: من المعروف أنَّ سوريا تملك مكانة حضارية تختلف عن الاتجاه الإسلاموي في دول الخليج. وعلى هذا أعقد أملي أيضًا. سوف أشارك في نهاية شهر كانون الأوَّل/يناير في اجتماعات للجان الثورية التي تم تأسيسها من أجل الحيلولة دون وقوع مجازر بعد النصر على نظام الأسد.

إذ لا يمكن لسوريا أن تخرج منتصرة من هذه الثورة، عندما يسقط مئة ألف قتيل من العلويين في ساحة المعركة. ولذلك لا بدّ لنا من إيجاد وسيلة سياسية وكذلك دينية من أجل منع وقوع أعمال انتقامية من العلويين، وفي الوقت نفسه معاقبة جميع المجرمين عقابًا عادلاً.

 

أجرت الحوار: أنطونيلا فيتشيني
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: ريزيت دوك/ قنطرة 2013