تركيا والربيع العربي: الإيدولوجيا الناعمة في خدمة البرغماتية النفعية

يقدم الباحث السوري والخبير المعروف في الشؤون التركية عقيل سعيد محفوض في الحوار التالي، الذي أجراه معه لؤي المدهون، رؤية تحليلية أكاديمية رصينة لخلفيات وأبعاد تحولات السياسة الخارجية التركية في ظل تنامي دور تركيا في محيطها الشرق الأوسطي.

الكاتبة ، الكاتب: لؤي المدهون

قنطرة: بداية ما هو سر صعود وتنامي دور تركيا في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة  الحكم؟ هل لديكم تفسير علمي للظاهرة التركية؟

عقيل سعيد محفوض: إن صعود السياسة الخارجية التركية في المنطقة هو نتيجة "توافق موضوعي" بين عوامل مختلفة، داخلية وخارجية. ويبدو أن التغييرات في السياسة الخارجية اليوم هي بالتحليل العميق نتيجة مدارك معينة لدى النخبة السياسية حول ضرورة اتباع "سياسة مناسبة"، وهي نوع من "الاستثمار" في توافق نشط ووعي بالتغيير، أكثر منه إحيائية دينية أو ثقافية.

وقد تجلى ذلك بالتنظير لـ"الوسطية" و"التوليف" و"المزاوجة" بين البعدين الشرقي والغربي في التكوين التركي المعاصر، ومن ذلك مثلاً التأكيد على أن مطلب الانضمام للاتحاد الأوربي والتحالف مع الولايات المتحدة – بكل ما يقتضيه ذلك من مواقف وسياسات - لا يتعارض مع الهوية الدينية والتاريخية، أو العكس؛ وأن التوسط بين الغرب والإسلام السياسي (وصولاً إلى إقامة نوع من التحالف بينهما) شَكَّلَ فرصة ثمينة أمام تركيا لأن تحقق مكاسب ريادية وقيادية وأن تطمح لأن تكون "الدولة المركز" – بتعبير داوود أوغلو - في الشرق الأوسط وربما في المجال الإسلامي.

وبالمقابل يمثل "انفتاح" دول المنطقة على تركيا واندفاعها نحوها نوعاً من الاستجابة لتحديات مختلفة لدى تلك الدول، أو لدى نظم الحكم فيها، وقد تلقتها إيران وسوريا ودول الخليج ومصر وغيرها، بكيفيات متقاربة ولكن لأسباب مختلفة، وأحياناً متناقضة، وخاصةً أن تركيا تبدو - بنظر العديد من اللاعبين الإقليميين والدوليين - تمثل عامل توازن بالنسبة لتلك الدول أو نظم الحكم مقابل دول أو نظم حكم أخرى أو بالنسبة لسياسات معينة مقابل سياسات أخرى.

وهكذا فقد ارتفع مستوى التوقعات الإقليمية (والدولية) تجاه تركيا، وبرز قدر من "التوافق" النسبي مع الجوار والعالم حول عدد من قضايا السياسة الخارجية، وهذه جميعاً عوامل تمنح تركيا إمكانية نهج سياسات فعالة ومؤثرة.

قنطرة: في كتابكم الأخير "السياسة الخارجية التركية: الاستمرارية - التغيير" قمتم بتقديم مقاربة جديدة للسياسة الخارجية التركية ودوائرها الرئيسية. ما هي الثوابت التي كانت تقوم عليها السياسة الخارجية التركية قبل الحقبة الإردوغانية وبعدها؟

عقيل سعيد محفوض: يمكن التركيز في مقاربة السياسة الخارجية التركية على بعدين رئيسين هما: الأهداف البعيدة التي تظللها إيديولوجيات أو "سرديات كبرى" بالمعنى الذي يورده "ف. ليوتار"، وهي هنا إيديولوجيا عثمانوية وإسلاموية هجينة يتداخل فيها الحداثي الغربي والتراثي التاريخي والمشرقي والديني ... إلخ، والسياسات العملية التي تحكمها حدود القدرة والإرادة السياسية وفرص وإكراهات الواقع.

كتاب السياسة الخارجية التركية الاستمرارية والتغيير
هذا الكتاب بحث في السياسة الخارجية التركية التي بدت في الفترة الأخيرة كأنها امتحان عسير للكتابات السياسية العربية التي أخفقت في تقديم فهم علمي للظاهرة التركية.

​​

وتكاد أفكار أحمد داوود أوغلو عن "العمق الاستراتيجي" أن تكون "تظهيراً" لهذه الدينامية في السياسة الخارجية. ويركز كتابي على السياسة الخارجية التركية التي تتصف بأنها سياسات "انتقالية دائمة"، ويتناول دينامية الاستمرارية – التغيير، ويتقصى ما يشير أو يحيل إلى مشروع "قطيعة" ممكنة أو محتملة فيها.

وإذا كانت مفردات السياسة التركية لم تتغير جدياً بعد مرور عدة عقود على تأسيس الجمهورية (ربما قبل ذلك) لجهة طبيعة المجتمع والدولة والنظام السياسي، وإشكالية الدين والحداثة، والحريات العامة، والديمقراطية، والعامل الإثني، والتفاعلات الخارجية...إلخ، فإن ذلك يعزز فرضية أو بالأحرى إشكالية الكتاب في أن التغيير الحاصل اليوم هو تغيير في الشكل أكثر منه في المضمون، أو في الدرجة أكثر منه في النوع. وهكذا فإن ما يجري هو تغيير في الخطاب السياسي وفي الترتيب أو الوزن النسبي لأولويات السياسة الخارجية، وأما الثابت الرئيس أو "البراديغم" العميق أو "النموذج الإرشادي" للسياسة فيتمحور حول "الغرب".

وهذا يفسر كيف أن "الغرب" يشغل المرتبة رقم (1) في السياسة التركية. و"الغرب" بهذا المعنى هو "الثابت" الرئيس في السياسة التركية، وهو عامل "مؤسس" لـ "الحدث التركي" اليوم، وقد كان كذلك بالنسبة لـ "الحدث العثماني" أيضاً.

قنطرة: ارتبطت التحولات الأخيرة في السياسة الخارجية التركية ارتباطا وثيقا بشخص وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو وفكرة "تصفير المشكلات" و"عمق تركيا الاستراتيجي". ما المقصود بهذه الفرضية أو الاستراتيجية من وجهة نظركم؟

عقيل سعيد محفوض: تقوم تركيا بمراجعة للسياسة الخارجية لا تطال الناظم الضمني (أو البراديغم) الذي تصدر عنه، وإنما "تأويل" يفضي إلى تغيير في الكيفيات والوسائل وإلى حد ما التجليات وليس الأولويات والمعاني والتحالفات العميقة والمديدة.

ويبدو الحديث عن تركيز تركيا على "العمق الاستراتيجي"، وخاصةً ما يتعلق بالشرقين الأوسط والأدنى وآسيا الوسطى – جنوب القوقاز، نوعاً من مراجعة بقصد تدوير الزوايا وإعادة التهيئة الرامية لتعزيز وتأكيد اتجاهاتها نحو "الغرب". بمعنى الاتجاه شرقاً لحيازة المزيد من القوة والمكانة والقابلية للاندفاع نحو "الغرب".

وتقوم فكرة "تصفير للمشكلات" ليس على "حلها" وإنما "تسكينها" و"الحجر عليها" من خلال تبني "تحالفات تكتيكية" متنقلة ومؤقتة. وقد تحدث داوود أوغلو في كتابة "العمق الاستراتيجي" عن ذلك. وأظهر موقفُ تركيا من إيران وإسرائيل وتحولات "الربيع العربي" أن فكرة داوود أوغلو عن ذلك النمط من التحالفات أصبح سياسة مباشرة تولاها بنفسه عندما أصبح وزيراً للخارجية.

وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو
ارتبطت التحولات الاخيرة في السياسة الخارجية التركية ارتباطا وثيقا بشخص وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو وفكرة "تصفير المشكلات" و"عمق تركيا الاستراتيجي"

​​

وتلعب الجغرافيا دوراً كبيراً في السياسات التركية، الأمر الذي يعطي "المكان" قدرةً أو قوامة نسبية على قاطنيه، ويفرض منطقاً ما للسياسة أو يفرض نفسه عليها، ويدفعهم للانطلاق إلى مجال أكبر، إذا كانت لديهم القوة، وقد "يغوي" آخرين للتدخل في شؤونهم، إذا كانوا ضعافاً، أو هو يضطر أهله لمكابدة متطلباته الحيوية.

وتتركز السياسة الخارجية التركية على منطقة أو مجال جغرافي – سياسي يشهد بدوره تحديدات عليا ودنيا انطلاقاً من داخل جغرافيا تركيا نفسها وصولاً إلى الجوار السياسي وديناميات التأثير الخارجي.

"النظرية الجديدة" للسياسة الخارجية تباشر "مشروع قطيعة" مع اللحظات السابقة، إلا أنها لم تُسقِط مفرداتها وإنما أعادت ترتيبها لتجد تركيا نفسها في بدايات القرن الحادي والعشرين أمام جدول أعمال كبير ومُعقَّد تنضاف إليه قضايا مُربكة من دون أن يخفف ذلك من حساسية وخطورة واستعجال تلك القضايا التي لم يعطها الترتيب الجديد الأهمية السابقة نفسها!

ذلك أن الإصلاح وفق معايير الاتحاد الأوربي (وبسبب الضغوط والتطورات الداخلية) لم يؤدِّ إلى النهاية السعيدة لحلم قديم بأن تكون تركيا "من أوروبا"، كما لم تنتهِ قصة "الشجن" أو "الأسى" الكردية والعلوية ولا مأزق "الإبادة" الأرمنية، ... إلخ، وهي القضايا التي يُنظَر إليها باعتبارها تحديات داخلية وخارجية على حد سواء.

قنطرة: بعض المراقبين يصفون التوجه التركي نحو الشرق بـالـعثمانية الجديدة ويشيرون إلى رغبة النخب التركية الجديدة في الهيمنة على دول المشرق العربي. هل تعتقد أن لتركيا أجندة للسيطرة على تلك البلدان وما هي الأهداف الحقيقية لتوجه تركيا الجديد نحو الشرق؟

عقيل سعيد محفوض: اعتمدت السياسة التركية تجاه المنطقة على نوع من "الإيديولوجيا الناعمة"، الكثير من الخطب عن الثقافة والنوايا الطيبة والتاريخ المشترك، ... إلخ، وهذا من مقتضى بناء الثقة بعد عقود من "القطيعة" بين الطرفين، وقد يكون وفق مبدأ "التمكين" هو جزء من الإيديولوجيا الدينية وتتبناه الحركات الإسلاموية، وحزب العدالة والتنمية هو أحد فروع العائلة "الإخوانية" كما هو معروف.

وقد قلل المسؤولون الأتراك لاحقاً من الاهتمام بـ "تبديد" المخاوف والهواجس من "العثمانية الجديدة"، وانشغلوا بالترويج لمقولات "الدولة المركز" و"الدولة النموذج" والمسؤولية الحضارية والتاريخية، ... إلخ، وهذا يذكر البعض بـ "عبء الرجل الأبيض"!

وعلى الرغم من المؤشرات الكثيرة على سياسات تدخلية مباشرة في عدد من الدول، علنية وفجة في بعض الأحيان، إلا أننا لا نتحدث عن أجندة صريحة، وإنما عن نزوع متزايد لـ "الهيمنة". ولا ننسى أن بعض ما تقوم به تركيا، هو نتيجة "استدعاء" و"غواية" طوعية لموازنة أو مواجهة تحديات أخرى (خصوم محليين أو إقليميين، ... إلخ). والأهم من كل ذلك هو التعاطي مع الدور أو التدخل التركي على أنه "مطلب جماهيري"!

كتاب سوريا وتركيا الواقع الراهن واحتمالات المستقبل
عملت دراسة الباحث عقيل سعيد محفوض على تفحص عدد من المقولات، منها؛ إن السياسات الخارجية لسورية وتركيا تتشارك في المفردات التكوينية، وتتفاوت في التشكيلات والتجليات. كما أن كلّ مفردة من مفردات العلاقات بين الدولتين تنطوي على أبعاد تقارب، مثلما تنطوي على أبعاد تنافر.

​​

قنطرة: دعنا نتطرق إلى سياسة تركيا تجاه ثورات الربيع العربي. رئيس الوزراء التركي رحب بسقوط نظام مبارك وبن علي، لكنه تردد في دعم الثورة في ليبيا وسوريا في البداية. ما هي أسباب التباين في الموقف التركي وهل هناك استراتيجية تركية واضحة في التعامل مع المتغيرات الدراماتيكية في ظل الثورات العربية؟

عقيل سعيد محفوض: عالجتُ الموقف التركي من سوريا بشكل مفصل في دراسة منفصلة صدرت مؤخراً بعنوان: سوريا وتركيا: "نقطة تحول" أم "رهان تاريخي"؟ كما تناولتُ جانباً منه في كتابي "السياسة الخارجية التركية: الاستمرارية – التغيير".

هناك أولاً مخاوف تقليدية لدى تركيا من "التورط" في أزمات معقدة، وهذا يفسر التردد أول الأمر الذي وسم الموقف تجاه ليبيا وإلى حد ما سوريا، وقد اختلف الأمر حيال الحدثين التونسي والمصري، لأن الأمور هناك كانت واضحة ولم توحِ بالانفجار، ... إلخ، وهناك ثانياً ذهنية المساومة، وثالثاً ذهنية المنافسة، وهذا يفسر تغير موقفها تجاه الحدث الليبي من التردد إلى الاندفاع الحماسي ومن رفض التدخل الخارجي إلى المشاركة في عمليات الناتو، ويذكرنا ذلك بموقف تركيا من الاحتلال الأمريكي للعراق.

وقد ساعدت التوافقات الإقليمية والدولية في احتواء المخاوف التقليدية ودفع تركيا للانخراط المتزايد في الحدث العربي على الرغم من الهواجس الداخلية العميقة.

وقد تحدثنا عن مبدأ الدخول في تحالفات وسياسات تكتيكية، وعن قيام السياسة التركية على مقاربات متداخلة واصطفافات متنقلة، وبهذا المعنى – الذي نستند في تحديده على ما يورده داوود أوغلو نفسه في كتابه "العمق الاستراتيجي" - يمكن الحديث عن مقاربة ذات عنوان علماني أو مدني تجاه ما حدث في مصر حيث القوى المدنية قوية، وعن مقاربة ذات طابع مذهبي تجاه إيران والعراق، وعن أخرى دينية ثقافية تجاه الغرب تتمثل بالحديث الدائم عن الإسلاموفوبيا والجاليات التركية والمسلمة هناك، وعن مقاربة أطلسية تخص التحالف مع الغرب كأولوية أمنية واستراتيجية. وهناك مقاربة مركبة من كل ذلك أو أكثره تجاه الحدث السوري.

قنطرة: بعض الخبراء يرون أن نظرية "تصفير المشاكل" وفرضية "العمق الاستراتيجي" فشلتا في أول امتحان جدي للسياسة الخارجية التركية، خاصة في التعامل مع الأزمة السورية؟ ما هو تقييمكم لهذه الرؤية ولتعامل حكومة إردوغان مع الوضع في سوريا؟ وما هي محددات الموقف التركي من الأزمة السورية؟

عقيل سعيد محفوض: الحديث عن "الفشل" في السياسة هو أمر إشكالي، ذلك أن النظريات السياسية تتطلب تقييماً حذراً أو متحفظاً، دعنا نتحدث عن "اختلالات" ملازمة للسياسة، فهناك مثلاً الفكرة القائلة بأن الكلام عن أمر ما "يوجده"، كأن يكون "الكلام" عن "تصفير المشكلات"، و"العمق الاستراتيجي" ... كما لو أنه بذار لا يلبث أن يولد نبتاً وغرساً، وهذا من باب التأكيد على تأثير الأفكار والخطاب على المدارك والأفهام والمواقف، ... إلخ، ولكن الخطر هو في التقدير الخاطئ للمقتضيات المعرفية والزمنية والعملية لذلك. هنا لا يبدو أن داوود أوغلو كان موفقاً في "مغامرته" النظرية والسياسية.

ولكن الاختلال أو الاضطراب هو أيضاً ناتج عن الفهم أو التلقي السطحي للظاهرة التركية، أو الفهم والتلقي الإيديولوجي لها بكيفية تقسرها على (أو توجهها نحو) دلالات أو معان محددةً. وهذا يمكن ملاحظته بقوة في الترويج النَشِط للسياسة الخارجية التركية وفي تلقيها أيضاً. وقد تناول كتابي المشار إليه اختلالات وإشكاليات أخرى لا يتسع المجال لذكرها.

وقد يكون من المناسب الإشارة إلى أكثر الاختلالات أو مصادر الخطأ شيوعاً وتأثيراً وهو تفسير نظرية داوود أوغلو (والسياسة الصادرة عنها) بما هو متوقع منها، وإذا ارتفع سقف التوقعات فهذا يزيد من قدر أو حيز الاختلال الحاصل أو الممكن أو المحتمل.

هنا يمكن الحديث عن "محنة" نظرية السياسة الخارجية لداوود أوغلو، بوصفها نظرية تصدر عن "سردية" قوموية – إسلاموية، وهي (أي النظرية) تشتكي من نقاط ضعف واختلالات رؤيوية ومعرفية عديدة، ومغالطات سياسية وتاريخية كثيرة، وقد نالت الكثير من التقريظ والقليل القليل من التقصي العميق والنقد.

وكل ذلك لم يدفع للقول بـ "سقوطها" معرفياً، ما دفع لذلك القول هو موقف تركيا من الحدث الإقليمي (السوري على نحو خاص) الذي كشف – من منظور العديد من المراقبين – عما "سكتت عنه" و"تنكرت له" تلك النظرية ومجمل الخطاب السياسي (الرسمي وشبه الرسمي) في تركيا، وقد قام داوود أوغلو في هذا السياق بتأويل متعجل لنظريته – وهو قادم من تيار لا يحفل بالتأويل بل ربما يؤثمه – خلاف ما كان يقوله عنها منذ نشر كتابه المشار إليه عام (2000) أو (2001).

كانت سوريا نقطة انطلاق ومصداق لتلك النظرية – السياسة، ولكنها تشكل اليوم تحدياً عميقاً لها، فإذا نجحت السياسة التركية هنا، فإن النظرية سوف تخضع لتأويل آخر أكثر تعجلاًً، وربما أكثر تشدداً، وسوف تنتقل إلى مفردات أخرى. غير أن الحدث السوري تجاوز أي تنظير حوله، كما تجاوز كل المقولات والنظريات التي هجس أي أحد في إسقاطها عليه أو إسقاطه عليها.

وأما ما يخص الموقف التركي فقد تحدث تجار من مدينة حلب (شمال سوريا) عن صدمتهم من أن الاتفاق بين حكومتي رجب طيب أردوغان وبشار الأسد أدى إلى توقف المعامل في حلب ومناطق أخرى، وان النزاع بين الطرفين أدى إلى تدميرها أو تفكيكها ونقلها إلى تركيا.

هذا مؤشر على مآل نظرية داوود أوغلو في مدينة ذكرها في أكثر من موضع في كتابه المشار إليه، كما ذكرها هو وأردوغان مراراً في تصريحاتهما وخطبهما السياسية.

قنطرة: كثرت في أوروبا في الآونة الأخيرة دعوات تعتبر تركيا أنموذجا يحتذى به في العالم العربي، خاصة بعد خطاب إردوغان في القاهرة في شهر أكتوبر الماضي ودعوته إلى إرساء دستور علماني في مصر. ما هو تقييمكم لمحتوى هذه الدعوات ودوافعها وهل يمكن نقل التجربة التركية إلى البلاد العربية.

عقيل سعيد محفوض: بالنسبة لموقف أردوغان في القاهرة، فربما لم يكن يعني ما يقول، وقد يكون عدل عنه الآن، لأنه يتجه لنقضه في سياساته داخل تركيا نفسها، وهناك "أسلمة" قصدية متسارعة للمجتمع والدولة، وهناك ما ينطوي على دلالات وأبعاد ارتدادية ونكوصية - وثأرية! - ضد "العلمنة" في تركيا.

ومهما يكن فقد أشرنا في حديثنا إلى مقاربات مختلفة وقد يمكن تفسير ذلك من هذا الباب، وهو (أي إردوغان) لن يجد حرجاً في مراجعة موقفه هذا، كما أن اختلاف الذهنية والأطر المعرفية يعطي أبعاداً ودلالات مختلفة للمفاهيم نفسها. وهذه مسألة إشكالية إلى حد كبير...

 foto reuters العلمانية التركية وأزمة الربيع العربي
كثرت في أوروبا في الآونة الاخيرة دعوات تعتبر تركيا انموذجا يحتذى به في العالم العربي، خاصة بعد خطاب اردوغان في القاهرة في شهر أكتوبر الماضي ودعوته إلى إرساء دستور علماني في مصر

​​

لقد أصبح جدول أعمال السياسة الخارجية التركية أكبر وأكثر تعقيداً ويتضمن مفردات هي خليط من قضايا تاريخية "مغلقة" أو "صعبة الحل" مثل: المسألة الكردية، و"الإبادة الأرمنية"، والمطالب (أو الحقوق) الجغرافية لدول الجوار، والعلاقة مع الغرب، والشرق الأوسط، وآسيا الوسطى – جنوب القوقاز، وروسيا (...إلخ). وقضايا أخرى مثل: الهوية، والدولة، والنظام السياسي، والإسلام، والديمقراطية، والحداثة، والتكوينات الإثنية، والذاكرة التاريخية، ... إلخ.

وتتطلب تركيا إجراء تغييرات أساسية في الـ "البراديغم" أو "الرؤية المعرفية" الحاكمة والناظمة لصنع السياسة الخارجية، وليس فقط إقامة تحالفات وتوازنات تكيتيكة مؤقتة – وهذه واحدة من المقولات الرئيسة لنظرية "العمق الاستراتيجي" لدى داوود أوغلو – أو إجراء تغييرات نسبية، جزئية أو بلاغية، في الخطاب السياسي أو حتى في السياسة العملية.

ثمة الكثير من الكلام في السياسة التركية وثمة تجاذبات ومواقف على السطح، فيما تتكشف الأمور عن مسارات أخرى "خلف الكواليس"، وتبرز أزمات ومواقف عديدة، فيما تكون تغطية لأمور أخرى تجري "من وراء حجاب". فأيها "الأصل" وأيها "الفرع" أو "الصورة"، وأيها "الناسخ" وأيها "المنسوخ"، إذا أردنا أن نستخدم تعابير من وحي الموضوع؟ هذا يحيل إلى صعوبة "تعيين" المشهد، ومن ثم صعوبة "تعيين" ما يكون "مثالاً" وما لا يكون.

إن تعقيد الظاهرة التركية وإكراهات البيئة الداخلية والخارجية عوامل تفسر ذلك القدر من "عدم اليقين" بشأن المستقبل، خاصةً في حالة دولة لم يتفق أهلها على أن "تأسيسها" في بدايات القرن العشرين كان هو الخيار الأفضل آنذاك، كما لم يتفقوا حتى الآن على أية "تسوية" بهذا الخصوص. ومن ثم فإن التركيز يجب أن ينصب على "مشروع" سياسة خارجية تتجاذبها ديناميات عميقة بين "الاستمرارية" و"التغيير"، أو سياسة خارجية "غير متفق عليها" لدولة "غير متفق عليها" أو "غير نهائية".

ويبدو أن المهمة الأكبر اليوم (كما كانت في الماضي) هي الحفاظ على غلبة نسبية لعوامل وديناميات الدولة واستمرارها مقابل عوامل وديناميات تغييرها (وربما انقسامها). هنا قد تكون تركيا "نموذجاً" ولكن ليس بالمعنى الذي يروج له اليوم.

 

 

 

أجرى الحوار: لؤي المدهون
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013