إزاحة الحجاب عن الصدمة الجماعية للحرب الأهلية الجزائرية

في معرضها "الجزائر، في العام صفر: الماضي المُركَّب للمستقبل" تتناول الفنانة الفرنسية-الجزائرية المقيمة في برلين دليلة دالياس بوزار موضوع الصدمة الجماعية للحرب الأهلية الجزائرية، وترى أن كبت التعبير عن معاناة الماضي يولّد عنفاً كامناً، وتقول: "هناك حجاب أود أن أزيحه، فالجزائر دولة ديمقراطية رسميا، لكنها في الواقع دولة استبدادية تتكتم عن أشياء كثيرة خاصة من تاريخ الجزائريين"، في حوارها مع مارتينا صبرا في برلين.

الكاتبة ، الكاتب: Martina Sabra

ولدتِ في عام 1974 في وهران في الجزائر. وبعد سنتين انتقلتِ مع والديك إلى فرنسا. متى بدأ اهتمامك بتاريخ عائلتكِ الجزائرية؟ وما هو الدور الذي لعبته الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي في هذا المجال؟.

دليلة دالياس بوزار: لم تكن العائلة تهتم بالسياسة. ربما لا تصدقين، لكنني بدأت لأول مرة الاهتمام الشديد بتاريخ الجزائر، بعد انتهاء الحرب الأهلية بمدة. والدافع لذلك كان الفيلم الوثائقي "الجزائر" لباتريس بارا ومالك بن إسماعيل وتييري ليكليرك حول الحرب الأهلية الجزائرية في التسعينات.

شاهدتُ الفيلم لأول مرة في خريف عام 2010، حين انتقلتُ للعيش في برلين. بدا لي وكأنه صدمة كهربائية. فقد كنت أتابع الأحداث في التسعينيات مثل معظم الجزائريين في وسائل الإعلام فقط. ولكن لم أدرك بوعي بأن ضحايا هذا الإرهاب وهذه المجازر آلاف الآلاف من البشر.

هذا لا يمكن تصوره...

بوزار: نعم. لقد صُدِمْتُ وتسألت: كيف لم أستوعب ذلك، على الرغم من أنني كنت في بداية الحرب الأهلية في عمر الثمانية عشر عاما؟ ماذا تناسيت هنا؟

أردتُ تقصي حقيقة الأمر. حينئذ أدركتُ فورا أن والدي كان عام 1962 عند استقلال الجزائر في سن العشرين. ولأول مرة طرحت على نفسي السؤال: ماذا كان يفعل خلال الحرب؟ لماذا ذهبنا حينذاك إلى فرنسا؟.

الفنانة الفرنسية-الجزائرية دليلة دالياس بوزار. حقوق النشر Dalila Dalléas Bouzar
الفن والصدمة في الحرب الأهلية وثقافة الاستذكار: في صيف عام 2012 أصدرَت دليلة دالياس بوزار كتاب بلغتين عبارة عن مقالات مكملة للمعرض بعنوان "الجزائر سنة صفر".

​​
 لقد أجريتِ حديثا مع والدك لصالح مشروعك الفني "الجزائر سنة صفر"، ماذا قال لك؟

بوزار: تم تجنيد والدي قسرا في الجيش الفرنسي في الستينيات قبل نهاية حرب التحرير بوقت قصير. أردتُ أن أعرف منه : إلى أي جانب كان؟ هل رأى نفسه إلى جانب فرنسا أم إلى جانب الجزائر؟ ما هو الفرق بينه وبين الحركي؟ (الحركيون هم الجزائريون الذين تم تجنيدهم في صفوف الجيش الفرنسي لمحاربة جبهة التحرير إبان الثورة الجزائرية). عند هذه النقطة كان والدي شديد الحساسية، قال: لا، هو ليس حركياً وليس خائنا.

لقد أُجبِرَ على الانضمام إلى الجيش. سألته: "هل قتلت جزائريين؟" نفى ذلك. وفي نهاية المطاف قال لي: "هذا يكفي، لماذا تسألينني كل هذه الأشياء؟"

ماهي النتائج التي خرجتِ بها لنفسك؟

بوزار: أدركتُ أن الأمور لم تكن سهلة كما كنت أعتقد. عندما تدعي المصادر الرسمية اليوم أن الشعب الجزائري وقف كله وراء جبهة التحرير الوطني، هذه ليست هي الحقيقة. في الواقع لم يشترك الجميع في المقاومة.

أردت أن أتصور هذا التعقيد بشكل أفضل، لكن كل هذه المواضيع تعتبر إلى الآن في الجزائر من المحرمات الكبيرة . لا يرغبون الاعتراف بأن العديد تصرف بشكل انتهازي، وأدار الشراع باتجاه الريح، وأن الحكاية ليست أسود – أبيض، مثلما يريدون روايتها بسرور.

ما العلاقة التي ترينها بين حرب التحرير وإرهاب التسعينيات؟

بوزار: الحرب الأهلية في التسعينيات هي بالنسبة لي نتيجة مباشرة للتعامل مع مسألة العنف في حرب التحرير. وبما أنه لا يمكن في الواقع التحدث بصراحة عن العنف، فهذا يعني أن الكثير من الناس لا يمكن أن يعبروا عن حزنهم، وبالتالي ينجم عن ذلك أن المجتمع الجزائري يحمل في طياته إمكانية كامنة للعنف.

كيف نشأت فكرة معرض وكتاب "الجزائر سنة صفر"؟ وكيف أجريت أبحاثك؟

بوزار: كل شيء بدأ مع هذا الفيلم الوثائقي "الجزائر". عن طريق الفيلم أدركت أنه قلما توجد صور في الخارج توثق الحرب الأهلية الجزائرية. وكان هذا بالنسبة لي صدمة. نحن نعيش في مجتمع يطفح بالصور، وهنا تحدث أبشع الجرائم، ولكن دون صور.

في أول الأمر قمت بالبحث عن صور حول الحرب في وسائل الإعلام التي كانت متاحة لي. كان ذلك بالنسبة لي محاولة لإعادة صياغة جزء من تاريخي الشخصي. لقد كانت هناك فجوة ضخمة.

لوحة فنية للفنانة التشكيلية دليلة دالياس بوزار. حقوق النشر Dalila Dalléas Bouzar
بصيص أمل في طيف الماضي: "هناك حجاب أود أن أزيحه، فالجزائر رسميا دولة ديمقراطية، لكن في واقع الأمر هي دولة استبدادية تخفي أشياء كثيرة، وتتكتم عن أشياء كثيرة خاصة من تاريخ الجزائريين"، تقول بوزار.

​​

ما هي المعايير التي اخترتِ بها الصور؟

بوزار: لم أختَر الصور بحسب معايير تاريخية، وإنما بحسب معايير جمالية وعاطفية. قمتُ بتغير الصور التي تهمني فنياً، برسمها على الورق جزئيا مع الأشكال والألوان وتقنيات الرسم المختلفة.

وكتبتُ النصوص الموازية، وطلبت أيضاً من كُتّاب آخرين أيضا أن يكتبوا شيئا حول الموضوع، لأنني أردت الحديث عن الذاكرة، ولكن بالتفاعل مع الآخرين.

العديد من الصور تبدو سلِسلة وشفافة ومجزأة وتظهر تبايناً صارخاً للسمة البطولية، التي يعرضون بها أكثر الأحيان تاريخ تحرير الجزائر. فكيف كان رد فعل الزوار في الجزائر على معرضك؟ هل كانوا على استعداد لتقبل هذا الموضوع؟

بوزار: كنت أخشى أن ينكروا علي حق العمل في هذا الموضوع، لأنني كجزائرية لا أعيش في الجزائر، ولأنني لم أعاصر شخصيا الأحداث.

إلا أن معظم الناس استحسنوا الاهتمام فنيا بهذا الموضوع. وهذا شيء مازال نادرا جدا. وأعرب الناس عن تقديرهم لأنني كنت أسعى إلى الحياد السياسي.

في كتابك تتحدثين عن كشف النقاب عن الذاكرة. هل هناك واقع وراء الحجاب؟ هل تبحثين عن الحقيقة، أم أنها بالأحرى قضية أساسية بالنسبة لك؟

بوزار: نعم، هناك حجاب أود أن أزيحه. لأن هناك شيء واضح: الجزائر رسميا دولة ديمقراطية، لكن في واقع الأمر هي دولة استبدادية تخفي أشياء كثيرة. وتتكتم عن أشياء كثيرة خاصة من تاريخ الجزائريين، بداية في المدرسة، ولكن هناك حقائق واضحة ولا يمكن دحضها.

تعيشين في برلين منذ عام 2009. كيف أثر التفاعل مع هذه المدينة وسكانها على حياتك وعملك الفني؟

بوزار: بشكل قوي. حين أتيت عام 1995 لأول مرة إلى برلين، كنت طالبة في ورشة عمل في البيت الذي عقد فيه مؤتمر فانزي.

في ذلك الوقت كنت قد قررت: أنني لا أريد أن أصبح عالمة أحياء، وإنما فنانة تشكيلية. ومنذ ذلك الحين عرفت بأنني أريد في نهاية المطاف العيش لفترة أطول في برلين.

منذ عام 2009 أعيش هنا مجدداً، وأعتقد أن مشروعي حول الجزائر ما كان له أن يتحقق وما كنت أستطيع تحقيقه من دون برلين.

الذي أثار إعجابي بشكل كبير هو كيفية تعامل الألمان مع تاريخهم. لقد شاهدتُ المعرض "الخاص بـ "طبوغرافيا الإرهاب" بشكل عميق. كما أنني وجدت "العقبات" شيء جيد جدا، وبدأت أتعرف على فنانين ألمان مثل يوخن غيرتس، الذي له اهتمامات بموضوع الفن والذاكرة.

وآمل في المستقبل أن نقوم في الجزائر بتطوير هذه الأساليب الإبداعية في التعامل مع الماضي. حالياً لا يسمح السياق السياسي بذلك. بالنسبة لي، مجرد التفكير بذلك هو بالفعل خطوة إلى الأمام.

 

 

حاورتها: مارتينا صبرا
ترجمة: سليمان توفيق
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013