''الإنسانية هي هدف كل الفنون''

يُجسِّد الفنان محمد رضا شجریان الثقافة الفارسية الكلاسيكية بالنسبة للإيرانيين في كل أنحاء العالم. ولا تعود شهرة "أستاذ الفن" إلى أنه مطرب إيران الشعبي منذ خمسين عامًا وحسب، بل أيضًا إلى أنه صانع آلات موسيقية وخطّاط. ماريان بريمر أجرت معه هذا الحوار.

الكاتبة ، الكاتب: Marian Brehmer



السيد شجریان، تقوم حاليًا بجولة فنية في أوروبا. هل ترى أن الأوروبيين قادرون في الواقع على إدراك أعماق الموسيقى الفارسية؟

محمد رضا شجریان: الإيرانيون المقيمون في أوروبا الذين يحضرون حفلاتي الموسيقية يعرفون موسيقاهم جيدًا. أما الأوربيون ممن ليست لديهم جذور إيرانية فيستطيعون التفاعل مع الموسيقى إنما ليس مع الكلمات. تستقي موسيقاي روحها من الأبيات الشعرية على وجه الخصوص. ولا غاية لها سوى التعبير عن الشاعرية. لذا لا يستطيع غير الملم بالأدب الفارسي أنْ يفهم الربط بين الموسيقى والكلمات.

صورة إيران لدى الرأي العام الألماني موسومة بالسياسة وخصوصًا بالجدل الراهن حول القنبلة النووية. هل تعتبر نفسك عبر موسيقاك أيضًا سفيرًا لبلدك؟

شجريان
يعتبر محمد رضا شجریان من أشهر ممثلي الموسيقى الفارسية الكلاسيكية. وقد منحته اليونسكو في عام 1999 "ميدالية بيكاسو الذهبية" وفي عام 2006 "ميدالية موزارت".

​​شجریان: لا أدري إنْ كان الإيرانيون يعتبرونني سفيرًا لهم. لكن إيراننا ليست إيران التي تطالب الحكومة الإيرانية بها. الناس عندنا يختلفون تمامًا عن حكومتنا. ولا علاقة لهم بالإرهاب أو الطاقة الذرية. في هذا الفارق الشاسع تكمن أسباب النزاع الكبير بين الناس والحكومة التي ترأسنا حاليًا.

 صورة إيران لدى الرأي العام الألماني موسومة بالسياسة وخصوصًا بالجدل الراهن حول القنبلة النووية. هل تعتبر نفسك عبر موسيقاك أيضًا سفيرًا لبلدك؟

 شجریان: لا أدري إنْ كان الإيرانيون يعتبرونني سفيرًا لهم. لكن إيراننا ليست إيران التي تطالب الحكومة الإيرانية بها. الناس عندنا يختلفون تمامًا عن حكومتنا. ولا علاقة لهم بالإرهاب أو الطاقة الذرية. في هذا الفارق الشاسع تكمن أسباب النزاع الكبير بين الناس والحكومة التي ترأسنا حاليًا.

العزف على الآلات الموسيقية الوترية محظور بحسب المفهوم الإسلامي الصارم. وبالرغم من ذلك توجد في إيران تقاليد عريقة في الموسيقى الكلاسيكية. لكن النساء تُمنع في إيران من الغناء في العلن، وتـُعتبر أصواتهن مصدر إغراء. بهذا تُحرَم مغنيات موهوبات كثيرات من خوض غمار هذا المجال والنجاح فيه. كيف يتوجب التعامل مع هذه التناقضات؟

شجریان: صُنع هذا التناقض قبل 1400 عام. ولن تتوقف الأحزاب الإسلامية عن ازدراء ثقافتنا، كما لن يتخلى الإيرانيون عن ثقافتهم. وهذا التناقض سيظل قائمًا. الحكومة تعادي بشدة الهوية الفارسية الراسخة في نفوس الإيرانيين وتريد أن تفرض علينا هويتها الإسلامية. وبالرغم من أن الإيرانيين قد اعتنقوا الإسلام، إلا أنهم لم يتخلوا عن ثقافتهم قط.

هل كانت أوضاع العازفين والمغنين الإيرانيين أقل تعقيدًا في عهد الشاه؟

 شجریان: لم يحتج أحد إلى تراخيص في عهد الشاه. لكنَّ العازفين والمغنين مضطرون منذ قيام الثورة لتقديم الطلبات بغية الحصول على تراخيص من جهاتٍ مختلفةٍ، منها وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي ومركز الشرطة في المنطقة التي سيقام فيها الحفل الموسيقي ومن الإمام المحلي.  وإذا اعترضت جهة واحدة فقط من هذه الجهات لا يتم منح الترخيص. تضع السلطات هذه العوائق لكي يستسلم الفنانون. ولا يتبقى لنا نحن الموسيقيين بحسب قواعدهم إلا طريقًا وحيدًا ضيقًا في نهاية المطاف. الحكام ليسوا على خلافٍ تامٍ مع ثقافتنا وحسب، إنما يريدون القضاء عليها أيضًا.

هل تعتقد بإمكانية التصالح مع الثقافة في ظل النظام الحالي؟

 شجریان: لا، بالتأكيد لا.

هل ترغب في إعادة عجلة الزمن إلى الوراء؟

 شجریان: لا، ليس هناك فائدة من الرجوع بالزمن إلى الوراء. إنما علينا أنْ نتطلع للمستقبل.

لماذا كنت من العازفين والمغنين القلائل الذين سُمح لهم في إيران بإقامة حفلات موسيقية بانتظام بعد ثورة 1979؟

شجريان وفرقته
صوت الحرية والاحتجاج ضد الاستبداد والوحشية: في صيف عام 2009، أدت مواقف شجریان الداعمة لحركة الإصلاح الإيرانية إلى تبلور شعبية جديدة له لدى جيل الشباب.

​​شجریان: بعد عام 1979 أوقفت نشاطاتي عدة سنوات. وأول حفل فني قمت به كان بعد مرور أربع سنوات على الثورة. وقد سمحوا لي بنشر ألبوماتٍ موسيقيةٍ جديدةٍ من وقت لآخر. ومعظم الفنانين الذين يعيشون حليًا في المنفى كانوا يقيمون قبل الثورة حفلات موسيقية في الحانات الليلية. إلا أن جميع الحانات جرى إغلاقها بعد الثورة. وفيما يخصني أرادت الحكومة استخدامي مثالاً للفنان المقبول لأنني لم أعزف قط في الحانات، حيث أرادوا أنْ يُظهروا أنهم ليسوا ضد الموسيقى تمامًا.

كيف عايشت مرحلة الثورة؟

شجریان: يناضل الإيرانيون من أجل حريتهم منذ مائة عام. والهبة الأخيرة كانت في عام 1979. ولم تكن الثورة في البداية إسلامية على الإطلاق، إلى أن ظهر رجال الدين على المسرح وطرحوا فكرة الجمهورية الإسلامية. وأجري وقتئذٍ استفتاءٌ منحت الأغلبية فيه ثقتها لرجال الدين وصوتت للجمهورية الإسلامية. أما أنا شخصيًا فلم أثق بهم ولم أعطهم صوتي ولن أعطيهم إياه أبدًا.

لكنك ناصرت الثورة بموسيقاك أيضًا. فما الذي أردت التعبير عنه عبر أغانيك في ذلك الوقت؟

شجریان: إن الأغاني التي تـُغنى في أجواء الحالة الثورية يكون لها تأثير كبير على الناس. أغنيتي "إيران ای سرای امید" (إيران بلد الأمل) كانت وقتئذ مشهورة للغاية. كان الشعب يريد الخلاص من نظام الشاه. وكانت الأغنية تتحدث عن نهضة الناس من جديد، وعن سعيهم لتحقيق الديمقراطية.  جرى بث الأغنية في الإذاعات فترة طويلة بعد انتصار الثورة. واستمر بثـُّها إلى فترة ما بعد الاحتجاجات في عام 2009 حيث طالبتهم بالكف عن بثها وقلت لهم: لم أغنِ هذه الأغنية لكم، إنما صُنعت لفترة زمنية مختلفة. كانت هذه المرة الأولى التي اكتسبت فيها موسيقاي أهمية سياسية بالفعل.

لقد أثار منعك بث الأغنية ضجة كبيرة. ما الذي دفعك إلى هذه الخطوة؟

 

شجريان ودربي
محمد رضا شجریان: " ينبغي أن تحكم الإنسانية العالم وليس الدين أو القومية أو الأيديولوجية"

​​شجریان: السبب الذي دفعني للتدخّل كان سلوك الحكومة تجاه الناس. فالوضع كان لا يطاق، ولم يكن للصمت مكان. أنا لست ناشطًا سياسيًا، بل مجرد فنان يعرف مجتمعه ويضع نفسه في خدمته. وعندما رأيت أنهم يعرضون أغنياتي في التلفزيون قمت بمقاضاة وسائل الإعلام الحكومية.

بعد شهرين من الانتخابات الرئاسية المشكوك بنزاهتها وفي خضم الاحتجاجات في عام 2009 غنيت "زبان آتش" (لغة النار). هذه الأغنية جعلتك من مؤيدي الحركة الخضراء وزادت شعبيتك كثيرًا لدى جيل الشباب في إيران في وقت قصير جدًا. ما هي الرسالة التي تحملها هذه الأغنية؟

 شجریان: خرج إلى الشوارع كثيرون وتعرضوا للضرب والاعتقال. كل هذا دفعني لأن أغني "لا ترفعوا أسلحتكم". واعتبرت إطلاق هذا التصريح من دواعي واجبي الفني. لا يمكن النقاش مع الأسلحة بل مع العقل فقط. إنَّ "لغة النار" لن تؤدي إلى شيء، إنما تجعل الطريق أكثر خطورة.

كيف كان ردّ فعل الحكومة على ذلك؟

 شجریان: كنت في جولة فنية في أوروبا هذا الصيف. ونشرت الأغنية مباشرة على "يوتيوب". بيد أن أجهزة الاستخبارات لم تحذرني إلا بعد إجرائي مقابلة مع محطة بي بي سي. وكان جوابي لهم: أنتم تفعلون ما يتوجب عليكم فعله، وأنا أفعل ما يتوجب علي فعله. ومنذ ذلك الحين مُنِعت من نشر أغانٍ جديدة. وسحبوا مني ترخيص القيام بحفلات موسيقية.

لماذا لم يتم اعتقالك؟

 شجریان: الحكومة خائفة لأنها تدرك مكانتي لدى الشعب. هم يحاولون بكل الوسائل قطع ارتباطي بالناس وبث الشائعات حولي. وقد زعموا ذات مرة أنني قد غادرت إيران بشكل دائم على سبيل المثال.

هل تعتقد أنَّ المسئولين الحكوميين يستمعون إلى موسيقاك في حياتها الخاصة؟

شجریان: نعم، بالطبع. فهم أيضًا قد ترعرعوا في هذه الثقافة، وهي ليست غريبة عليهم. كانوا يسمعون موسيقاي في الماضي وما زالوا يفعلون ذلك اليوم أيضًا. لكنهم حبيسو أفكارهم، ولديهم أيضًا صراعات بين بعضهم البعض، حيث يؤيد بعضهم تحريم الموسيقى بشكل تام بينما لا يؤيد البعض الآخر ذلك.

اتسمت عقود مسارك الفني الخمسة في إيران بالتغيرات السياسية والاضطرابات. ما هو الدور الذي لعبته موسيقاك بالنسبة للإيرانيين في كل هذه السنوات؟

 شجریان: كانت موسيقاي دائمًا مرتبطة بشكل تام بالأحداث في إيران. واختياري القصائد يشبه بالفعل تاريخنا الاجتماعي. فهي تعكس السياسة حتى وإن لم تكن تستهدفها مباشرة. أغنياتي تتناول حياة الناس. ولا بدَّ لي من أن أكون مع الناس لأستوحي ما أغنيه، ولا أستطيع الغناء من دون ذلك.

لعبت الموسيقى دورًا في التحولات الراهنة في العالم العربي أيضًا، في تونس ومصر على سبيل المثال. هل يمكن أنْ تكون الموسيقى أداةً لتحقيق تغيير حقيقي؟

شجریان: لطالما لعبت الموسيقى دورًا في استنهاض المجتمعات. وهذا لا يختلف في الحركات العربية. إنَّ ما يحصل هناك جيدٌ طالما انتصرت إرادة الناس. لا تأتي الديمقراطية من خلال الشعارات والثورة فقط. بل ينبغي أن تبدأ من العائلة. إنَّ المجتمعات التي لا تكون فيها العائلات ديمقراطية، لن يكون باستطاعتها بلوغ الديمقراطية.

أين ترى بلدك بعد عشر سنوات؟

شجریان: أمامنا طريق شائك وحاسم وخطير للغاية. هذا الطريق لا مفر منه، ولا يوجد خيار آخر لدى الناس. (يتوقف عن الإجابة ويسرح بفكره) إذا بقي الوضع على ما هو عليه الآن، لا أرى مستقبلاً لإيران. الوضع يزداد سوءًا يومًا بعد آخر. أحوال الناس في تردّي مستمر. أجل، إنه طريق صعب وخطير للغاية. ينبغي علينا محو هذه العقود الثلاثة من تاريخنا. لأنه لا يوجد أي ارتباط لهذه الفترة بثقافتنا.

ما هي الأفكار التي تراودك وأنت تغني على خشبة المسرح؟

 شجریان: أفكر بتطلعات الناس العميقة. ينبغي أنْ تحكم الإنسانية العالم، وليس الدين أو القومية أو الأيديولوجية. عندما يُحترم البشر يكون كلُّ شيءٍ في حالة اتزان. إنَّ الغرض من الدين هو خلق الصلات بين الناس. لذا يتوجب علينا أنْ لا نضعه في الصدارة ونضحي بالبشر من أجله. الإنسانية هي هدف كل الفنون. وأنا أنظر إلى كل الأمور من خلال هذه الرؤيا.

 

أجرت المقابلة: ماريان بريمر
ترجمة: يوسف حجازي
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2011