"فكرة الفيدرالية في الجزائر ضرب من الوهم"

تتحدث هيلين سيكسو، الفيلسوفة الفرنسية الشهيرة والمنظرة البارزة للحركة النسوية، المولودة عام 1937 بالجزائر والمقيمة في باريس ككاتبة وناقدة أدبية، عن عملها الأدبي "الإصرار" وعن علاقتها بالفيلسوف الفرنسي الشهير جاك دريدا، الذي يعد أبا المدرسة الأدبية التفكيكية والنظرية الأدبية ما بعد الحداثية، وعن علاقتها المعقدة بمسقط رأسها الجزائر. الصحافية كلاوديا كراماتشيك حاورتها لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Claudia Kramatschek

السيدة هيلين سيكسو، صدر خلال هذا الربيع عن دار نشر باساجن مؤلفك الذي يحمل عنوان "الإصرار" Insister، كتاب لذكرى جاك دريدا الذي توفي سنة 2004 والذي كان لفكرك وأعمالك ارتباط وثيق به. كما أنه كان يربط بينكما ذلك النوع الخاص من الصداقة وكونكما كليكما جزائرييْ الأصل أيضا. في أية لحظة تم لكما أن تتعرفا على بعضكما لأول مرة؟ 

هيلين سيكسو: لأول وهلة على ما أعتقد. وهذا أمر مازال يفاجئني اليوم عندما ألقي نظرة إلى الوراء، بل هو أكثر ما يفاجئني. وسيظل مفاجأة دوما. فمن أول لقاء، كانت المحادثة ذات طابع أدبي وفلسفي وجرت بيننا سنة 1963 في مقهى بالزار Café Balsar. تشابكت الخيوط بيننا، وهكذا ظلت، إلى الأبد. أحسست بذلك مثل ضرب من المعجزة. فعندما التقيت به كان لدي إحساس كما لو أنني أرى نفسي أولد من جديد. وعندما ألقي الآن نظرة إلى الوراء وأتمعن في الآثار العديدة التي تركتها مسيرتنا المشتركة، تتملكني الدهشة. إذ أننا، ومنذ محادثاتنا الأولى، أفصحنا عن أشياء جوهرية لبعضنا، دون علم منا بذلك. أما فيما يتعلق بمسألة أنه، من وجهة النظر الأدبية والفلسفية والعاطفية، كان يمثل نظيري الآخر، فلم يتغير شيء في ذلك.

في كتابك "الإصرار" Insister تصفين كيف أن نصوص دريدا قد أيقظت فيك ذكريات عن طفولتك في الجزائر. تلك الجزائر كانت مستعمرة، أي عالما منقسما على نفسه. فإلى أي مدى كان لهذه الجزائر المستعمرة تأثير على رؤيتك وفكرك؟

Der französische Philosoph Jacques Derrida; Foto: dpa
"Als ich Derrida begegnete, hatte ich das Gefühl, neu geboren zu werden. Und wenn ich jetzt zurückschaue und die vielen Spuren betrachte, die wir gelegt haben, staune ich", erzählt Hélène Cixous. Ihr Freund, der weltweit bekannte Protagonist der Postmoderne starb im Oktober 2004 im Alter von 74 Jahren in Paris.

هيلين سيكسو: كانت تلك فترة محدِّدة بالنسبة لي. فأنا حصيلة وجوه وهويات مختلفة كثيرة من الجزائر؛ جميعها مشبعة عنفا، وكلها مؤلمة. تلك التجربة المؤلمة كانت فائقة الثراء. وأنا لست نادمة على أنني تعلمت في تلك المدرسة الجزائرية: مدرسة الحقد، والاحتقار، والفقر، والخطر، وإقصاء الآخر؛ ولكن أيضا كان ثمة جمال فائق، وكذلك غياب كل أمل، إذ كنا حينها في زمن الحرب العالمية الثانية التي كانت تطغى على كل شيء. ثم تلت ذلك حرب التحرير.

ثم، ومع نهاية الحرب، وقد وجدنا أنفسنا دون جنسية بسبب قوانين فيشي (نظام فيشي هي الدولة الفرنسية التي استمرت بين عامَيْ 1940 و 1944)، وبالتالي لا نعتبر فرنسيين، قد انتابنا إحساس بتحرر عظيم، وجُعل منا عندها يهودا. فجأة وجدنا أنفسنا محاصرين بين شكلين من معاداة السامية: من طرف الفرنسيين ومن طرف الجزائريين الذين كانوا يسمون آنذاك عربا. أي، وبمعنى أوضح: في تلك الفترة، أو زمن كل الوعود الممكنة انغلقت الدائرة مباشرة، وذلك وفقا لنمط استعمار من أشد الأنواع قسوة. وعوضا عن الأمل انتباني إحساس بالقرف واليأس، فالجزائر قد انغلقت على نفسها. وقد كانت هذه التجربة السلبية والشنيعة حافزا بالنسبة لي للتفكير في التقيد السياسي لدى الإنسان: في الحقيقة المتمثلة في أننا، حتى ونحن ننفي ذلك، نكون خاضعين لسلطان السياسة، وأن هذا الأمر يعني دائما تقريبا أن نرى إمكانياتنا وحرياتنا تسلب منا. وبالتالي فإن تربيتي الحميمية كانت تربية سياسية.

في كتابك "أحلام المرأة المتوحشة" Reveries de la femme sauvage نجدك تقولين: "لقد كان حلمي دائما أن أجد لي موطئ قدم في الجزائر"، فهل تحقق لك في الأثناء أن تجدي موطئ قدم هناك؟

هيلين سيكسو: لم أستطع أن أجد ذلك. لكن عدم قبولي لا يعني شيئا سيئا بالنهاية. إذ من خلال هذا فقط يظل الأمل قائما، أو الاشتياق إلى أن يتحقق ذلك القبول في وقت ما. لقد تاقت نفسي بشدة إلى الجزائر، غير أنها كانت بالنسبة لي دوما شيئا قد ضاع مني، ومنذ البداية. خلافا لدريدا الذي غالبا ما كنت أتناقش معه في هذا الأمر. كان دريدا يتبنى بالأحرى موقف كامو ويحلم بفيدرالية جزائرية يمكن أن يتعايش داخلها الجزائريون والجزائريون الفرنسيون. وكنت أعتبر ذلك ضربا من الوهم نظرا لما كانت عليه أوضاع المواطنين العرب حينها. لم أكن أستطيع أن أتصور كيف يمكن أن يبْرأ شعب من محنة وضع استعماري طويل وشنيع. بما معناه: إن مصالحة سريعة مفاجئة أمر كنت أراه غير قابل للتصور.

هل تزورين الجزائر أحيانا؟ وما هو إحساسك، في حالة حصول هذا؟

هيلين سيكسو: أحب البلاد، لكنني لسنوات عديدة لم أذهب إلى هناك. بقيت أمي في الجزائر بعد الاستقلال بسبب أصلها الألماني. ظلت تعيش وتعمل كقابلة في حي القصبة بمدينة الجزائر، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي طالبها فيه الجزائريون بمغادرة البلاد في ظرف لا يتجاوز الأربع وعشرين ساعة. أي أنها وجدت نفسها تهجّر من الجزائر بنفس الطريقة التي تم تهجيرها فيها من ألمانيا.

بعدها حصلت قطيعتنا مع البلاد. وبقيت أنتظر اليوم الذي ستستيقظ فيه الجزائر، وذلك ما لم يحصل طبعا. ثم جاء دور كل أولئك الذين لم يكن لهم نشاط في ذلك الاتجاه، ولم يستطيعوا أن يتماهوا مع دولة كانت تقصيهم، ليغادر هؤلاء أيضا البلاد ويأتوا إلى فرنسا. قلت لنفسي عندها: ربما ستكون هناك إمكانية جديدة بين المثقفين من العرب والجزائريين الفرنسيين واليهود. في تلك اللحظة أحسست أن بلادي عادت إلي مجددا، من جهة لم تكن متوقعة. وكان هناك شيء يقول لي: اكتبي! وهو ما لم أقم به من قبل؛ عن إحساس بـ"استعمار" الجزائر. وهكذا ذهبت إلى الجزائر.

نلاحظ أن اللغة الألمانية، لغة والدتك تنسرب داخل كل نصوصك. كيف يمكن أن تصفي علاقتك باللغة الألمانية وباللغة عموما؟

هيلين سيكسو: كانت هناك لغات عدة نتكلمها في بيتنا في سن طفولتي. كانت اللغة الفرنسية هي لغة المعاملات، إن أردنا. أمي وجدتي كانتا تتكلمان الألمانية، وجدتي من جهة أبي تتكلم الإسبانية. ولم تكن هناك لغة بعينها من بين هذه اللغات تمثل في عيني اللغة الأكثر نبالة: كنت أحبها كلها. أما كوني لم أختر الدراسة باللغة الألمانية فيما بعد، فذلك يعود إلى أمي وتجربتها التاريخية: اللغة الألمانية قد تم رفضها، وكان علي أن أتعلم عوضا عن ذلك الإنجليزية، التي تسمح لمتعلمها بالسفر في كل أنحاء العالم. هكذا كان رأي أمي. غير أن الألمانية ظلت لغة الحب لدي، ولغة حياتي الحميمية.

 

حاورتها: كلاوديا كراماتشيك

ترجمة: علي مصباح

تحرير: علي المخلافي

حقوق النشر: قنطرة 2014

 

الفيلسوفة هيلين سيكسو المولودة سنة 1937 بالجزائر، تقيم في باريس ككاتبة وناقدة أدبية. تعتبر إحدى المنظرات البارزات للحركة النسوية. حائزة على وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي. آخر إصداراتها سنة 2014  باللغة الألمانية كتاب "الإصرار"  Insister صادر عن دار النشر باساجن  Passagen.