'' ليس للإسلاميين برنامج سياسي واضح يتعلق بمستقبل بلدانهم''

الفيلسوف والمؤرخ محمد تركي، أستاذ الفلسفة بجامعة تونس وعضو جمعية الفلسفة المابين ثقافية، يتحدث في هذا الحوار الذي أجرته جيداء نورتش عن المخاطر التي تهدد الربيع العربي والفرص التي يتيحها، كما يجيب على السؤال التالي: لماذا يجب علينا أن نُراعي الثقافة البينية لدى إرساء أسس ديمقراطيات جديدة.

الكاتبة ، الكاتب: Ceyda Nurtsch



أنتم تراقبون مراقبة نقدية التطورات التي تشهدها الدول العربية. عندما ننظر إلى سوريا نجد أن الناس هناك يخرجون منذ أكثر من عام إلى الشوراع - فهل ولّد الربيع العربي تطلعات لا يستطيع أن يلبيها؟

محمد تركي: لقد بدأت التطورات في الدول العربية بداية جيدة مُبشرة بالفعل بمقدم الربيع. كان الشعور السائد أن الربيع العرببي سيجعل الثورات تُزهر. ولهذا كانت تسمية "ثورة الياسمين" في تونس تسمية وجيهة. غير أن الأحداث ونتائج عملية الدمقرطة في تلك البلدان تمخضت للأسف عن صيف حار ودموي.

لقد أظهر الخريف – إذا أردنا أن نواصل استخدامنا لهذه الصورة البلاغية – أن الانتفاضات قد أصبحت تُقمع غالباً بشكل دموي. هذا ما لاحظناه في ليبيا، مثلما لاحظناه في اليمن وقبلها في البحرين، وهذا ما نعايشه الآن في سوريا. لم يكن ذلك هو هدف صنّاع الثورة وحاملي لوائها الذين بدأوا تلك العملية في تونس ومصر. لقد كان هدف الثوار في الأساس أن تبدأ عملية ديمقراطية سلمية في كافة أنحاء العالم العربي. إنهم كانوا يطالبون في الأساس بمبادئ حقوق الإنسان والحرية والعدالة، كما كانوا يريدون في المقام الأول محاربة المحسوبية والفساد، وأن تكتسب النظم والمؤسسات الجديدة وجهاً إنسانياً، لا وجهاً دموياً. صحيح أن هذه العملية لم تنته بعد، غير أن الخطر ما زال قائماً بأن يغدو الربيع العربي بداية لمرحلة جديدة، لأن حركات المعارضة أصبحت غالباً ما تُقمع بشكل دموي.

الفيلسوف الجزائري المشهور والمفكر الإسلامي محمد أركون انتقد "النظام الدوغمائي المغلق" للمجتمع العربي. أنتم أيضاً تتبنون رأي المؤرخ اللبناني هشام شرابي الذي ينتقد النظم "النيو بطريركية" التي ترون فيها شراً عظيماً.

رويتر
"هدف الثوار في الأساس أن تبدأ عملية ديمقراطية سلمية في كافة أنحاء العالم العربي"

​​محمد تركي: النظام النيوبطريركي، أي النظام الأبوي الذي يبدو من الخارج نظاماً حديثاً، هو نظام يتشبث بأسس راسخة يقوم عليها الحكم. هذا النظام يعارض بكل قوة تغيير ظروف السلطة السياسية. ولهذا تظل هذه الأسس المابعد أبوية – التي تبدو من الخارج حديثة، لكنها في الحقيقة تتظاهر بالحداثة فحسب – أسساً مختلة. الحداثة تتطلب أكثر من ذلك. الحداثة مشروع ذو أوجه متعددة، وتغيرات كثيرة. يبدأ هذا المشروع بدولة القانون وحقوق الإنسان إلى أن يصل إلى الأسس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي ينبغي أن تكون منفتحة. ليس هذا هو الحال لدى النظام المابعد بطريريكي، ولا في النظام البطريركي بطبيعة الحال.

وكيف يمكن التغلب على هذه الأسس؟

محمد تركي: هناك ثلاث نقاط أعتبرها أساسية. أولاً، لا بد من تحسين الظروف الاقتصادية. بعد ذلك ينبغي أن تحدث تغيرات في المجال الاجتماعي، مثلاً فيما يتعلق بتحرر المرأة، غير أن الأهم هنا هو التعامل الاجتماعي بين الناس. إذ لا ينفع في شيء أن يكون المظهر حداثياً تماماً، ولكن الأسس الأبوية القديمة تظل قائمة داخل العائلة، وهي الأسس التي لم تقم على مبدأ المساواة.

ثالثاً: إننا بحاجة إلى تغيرات سياسية. ولكني أريد هنا أن أوضح شيئاً: لا أريد سلعاً مستوردة. الديمقراطية أيضاً ليست سلعة مستوردة، بل عملية مستمرة بشكل دائم داخل المجتمع نفسه الذي يتطور باستمرار ويتقدم ويصحح مساره. أي أننا لا نستطيع أن نقتبس نماذج غربية، بل عينا أن نراعي واقع البلدان. علينا أن نتساءل: أي العناصر هنا هي العناصر الأساسية، وكيف يمكننا أن نغيرها حتى تتوائم مع العصر؟ إذا أخذنا بعين الاعتبار هذه العناصر الثلاثة - الاقتصاد والعامل الاجتماعي والعنصر السياسي – يصبح لدينا في الحقيقة مشروع للحداثة، وذلك كعملية متطورة.

كثيراً ما نسمع في بلدان العالم العربي نفسه أن الثورات قامت بدون مساعدة من الغرب، بل بالرغم من الغرب. هل تتبنى هذا الرأي؟

الجزائر رويتر
"حكم العسكر في الجزائر: النظام النيوبطريركي، أي النظام الأبوي الذي يبدو من الخارج نظاماً حديثاً، هو نظام يتشبث بأسس راسخة يقوم عليها الحكم"

​​محمد تركي: لا أميل لرؤية الأمور بالأبيض أو الأسود. بمعني أن نقول: الغرب لديه كل شيء، فهناك التنوير والفكر، وهناك المدارس الفكرية وروادها، وما على الآخرين سوى اتباعهم، بل والخنوع لهم، أو استلهام أفكارهم أو الأخذ بها، ولهذا لا يستطيع الناس أن يشاركوا في العملية بشكل إبداعي. إنني أعتبر ذلك تصوراً خاطئاً. إننا نجد في العام العربي، لا سيما خلال المئتي عام الأخيرتين، مفكرين وأيضاً أسساً لعملية التنوير هذه. الدستور التونسي، على سبيل المثال، وُضع في عام 1864، أي قبل أن يحتل الفرنسيون البلاد ويستعمرونها. أي أن التونسيين كانوا متقدمين في مطالبهم نحو تغيير الأسس الاجتماعية. قرطاج كان لها أيضاً دستورها. ولكن ليس المهم هنا هو البحث عن المصدر ، لأن كل شيء يسير ويتحرك مثل النهر. إذاً، عندما يقوم المرء باقتباس شيء من الغرب فهذا جزء من العملية، تماماً مثل قيامه بتشكيل الأمر على نحو إبداعي. إذا كنا نعيش في مجتمع مفتوح، فلا يمكن أن نقول: هناك الغرب، وهنا الشرق. إن المهم هو أن نعمل معاً، لا أن نعمل ضد بعضنا البعض، أن نعمل ما بين الثقافات، وعلى نحو عابر للثقافات – هذه هي العناصر التي تجعلنا نتقدم، لا التفكير بالأبيض والأسود أو التفكير المضاد. فالغرب، في نهاية المطاف، هو نتاج تطور تاريخي، تماماً كالثقافة العربية الإسلامية.

إنكم تقارنون الربيع العربي – الذي تقولون عنه إنه أخرج الدول العربية من العصور الوسطى قاذفاً بها إلى الألفية الثالثة – بنظرية كانط التي تقول إن التنوير هو "خروج الإنسان من مرحلة القصور المسؤول عنها". وأنتم تعلقون على المرأة في هذا السياق آمالاً خاصة. هل النساء هن اللاتي آتين إلى العالم العربي بالتنوير الذي انتظره الغرب طويلاً؟

الإخوان المسلمون البرلمان المصري
'' ليس للإسلاميين برنامج سياسي واضح يتعلق بمستقبل بلدانهم''

​​محمد تركي: في البداية هذه الملاحظة المبدئية: هذه العملية لا يدفعها إلى الأمام الرجال وحدهم، أو النساء وحدهن. إن من ينهض بهذه العملية هم الشباب، والشباب لا يعرف الفروق الجنسية. عندما يتواصل الشباب عبر الفيسبوك والتويتر، فإنهم في الغالب لا يعرفون بعضهم البعض، غير أن هناك أهدافاً مشتركة تجمعهم. إنهم في المقام الأول بشر، وهذا هو المهم. علينا هنا ألا نقع في فخ موقف نسوي أو جنسي.

أعتقد أنه من المهم أن نتحدث هنا عن عملية تقوم على الأسس الإنسانية، عملية تدفعنا إلى الأمام، بمعنى أن تفرز مجتمعاً يتساوى فيه الجميع، ويعترف بحقوق الجميع، مجتمع يستطيع الناس فيه أن يطالبوا بحقوقهم، وبالطبع أن يتعرضوأ للنقد أيضاً حتى يطوروا هذا المشروع ويجعلونه أفضل. هذا المشروع لا ينبغي بالضرورة أن يكون غربياً أو شرقياً، بل عليه أن يكون عَلمانياً. وهذا – في واقع الأمر – هو أهم شيء في مفهوم التنوير الذي لم يبدأ – بالمناسبة – في القرن الثامن عشر، بل بدأ في القرن الحادي عشر في العالم العربي الإسلامي، مع ابن سينا، وخصوصاً مع ابن رشد.

رد فعل الغرب تجاه نجاح القوى الإسلامية في المغرب العربي يتسم بالشك والريبة. ولا يعرف الغرب على وجه التحديد أين يضع تلك القوى. في كثير من الأحيان كان الحديث يدور حول حزب مشابه للحزب "الديمقراطي المسيحي"، كما ترددت كثيراً المقارنة مع حزب "العدالة والتنمية" التركي. ويرى بعض المنتقدين أن الإسلاميين سيضحون بمطالب شعبهم على مذبح الإيديولوجية الإسلامية – ما رأيك؟

محمد تركي: إنني أوافق جزئياً على هذا الرأي. ليس للإسلاميين برنامج سياسي واضح فيما يتعلق بالهياكل الاقتصادية أو الآفاق المستقلبية لبلدانهم. لا يستطيع المرء أن يطعم الشعب بالشعارات التي تقتصر على مسألة الهوية أو قضايا الهوية الثقافية. عندما يشعر الشعب بالجوع وعندما لا تتحسن الظروف الاقتصادية والاجتماعية في وقت مناسب، عندئذ تصبح الحكومات ضحية الإيديولوجية التي تنادي بها، لا العكس. إن الشعب سيواصل كفاحه من أجل الحصول على حقوقه وانتزاعها. ومن حسن الحظ لقد أصبح هناك عديد من الأحزاب والكتل النيابية التي تقول: علينا في البداية أن نهتم بالاحتياجات الأساسية للشعب، وأيضاً بإزالة الفوارق والتناقضات بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية، أو بين المدن والأرياف، بين أولئك الذين يعملون عملاً حقيقياً يصب في صافي الدخل المحلي، وبين أولئك الذين يستفيدون من ذلك الدخل فحسب. هناك في تونس من المثقفين من ينتقد ويرفض هذه السلبيات، وهؤلاء سينظمون أنفسهم في يوم ما. وهكذا فإنني - من هذا المنظور – أشعر بالتفاؤل، وإن كان تفاؤلاً محدوداً.

 

أجرت الحوار: سيدة نورتش
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012