نقد نخبوية الشعراء العرب

يري الشاعر الشاب تميم البرغوثي، الذي يشارك حالياً في عدة فعاليات ثقافية وأكاديمية في ألمانيا، أن ثمة مجموعة من الشعراء النخبويين العرب "تتقادم باسم الحداثة وتشيخ بدعوى الشباب منذ أكثر من ثلاثين عاماً"، وتتعمد تجاهل العدد الأكبر من المتكلمين بلغة الضاد. يوسف حجازي حاور البرغوثي للتعرف على رؤيته الأدبية.

الشاعر والباحث في العلوم السياسية تميم البرغوتي، الصورة: تميم البرغوتي
"الشرح هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنها باعتقادي أن تقرب فهم الشعر من لغة إلى أخرى. أما محاولة ترجمته شعراً أو نثراً فتؤدي إلى كتابة نصٍ جديدٍ إلى اللغة المنقول إليها مستوحى من الأصل وليس ترجمةً له" وفق رؤية الشاعر تميم البرغوتي.

​​شاركتَ بالفعاليات التي جرت تحت عنوان Di/Visions في بيت ثقافات العالم، كما شاركت بوصفك شاعراً في حفل الافتتاح وباحثاً في العلوم السياسية في اليوم الأخير، كيف نجحت في التوفيق بين الأمرين؟

البرغوثي: أعتقد أنه لا يمكن فصل الثقافة عن السياسة. الثقافة هي ممارسة الناس لحياتهم والسياسة هي تنظيمهم لهذه الحياة. لا يوجد فرق كبير بين الاثنين. هذا بالمعنى العام للمفهومين. وإذا نظرنا إلى السياسة بوصفها مرتكزات السلطة في أي مجتمع، وحركته تجاه المجتمعات الأخرى، وحركة المجموعات الفرعية فيه، طبقاته وجماعاته الاثنية والدينية وما إلى ذلك، سنجدها مرتبطةً بالهوية، فإجابتك على سؤال من أنا، شرط ضروري لتجيب على سؤال ماذا أفعل في التاريخ، وسؤال الهوية سؤال ثقافي. وعليه فإن أية محاولة للفصل بينهما قد تؤدي إلى تخريب الاثنين معاً.

تكتب قصائدك باللهجتين العامية الفلسطينية والمصرية وكذلك بالفصحى، وقصيدة الفصحى تأخذ الشكل العامودي أحياناً وتكون مزيجاً من العامودي والحر أحياناً أخرى. هل سبب ذلك بحثك عن أسلوب معين في الكتابة؟

البرغوثي: القصيدة تأتي بشكلها، وهي التي تقترح شكلها عليَّ. لا أقرر مسبقاً الشكل الذي أريد أن أكتب به، عامياً أو فصحى، عامودياً أو حرا، الخ. تبدأ القصيدة بإيقاعٍ في أذني وبصورة في مخيلتي، وعندما يتناغم الإيقاع والصورة يصبح لدي بيت من الشعر أو سطر أو مقطع، وهذا يحدد مسار القصيدة. بعض القصائد يأتي بإيقاع جليل فيفرض عليَّ أن أصيغه بشكل عامودي. وعندما أريد أن أخرج منه إلى ما هو أكثر أرضيةً أذهب إلى التفعيلة أو النثر. هذا الانتقال من إيقاع إلى آخر هو جزءٌ من حالتي العامة أثناء كتابة القصيدة، وجزءٌ من المعنى الذي أريد إيصاله. أما التخلي عن الوزن في موضعٍ محدد، أو تغير الإيقاع، أو العودة للعامودي مثلاً، فيهدف إلى توجيه رسالة إلى المتلقي ترتبط بمعنى القصيدة بشكل مباشر. إذن يأتي شكل القصيدة مرتبطاً بمعناها ولا يمكن فصل المعنى عن المبنى قط.

تكلمت عن الإيقاع والموسيقى في الشعر، وهذا مكوِّن أساسي من مكونات القصيدة، كيف تنظر إلى ترجمة الشعر إلى لغةٍ أخرى انطلاقاً من هذه الرؤية؟

البرغوثي: ترجمت الشعر مشكلة كبيرة، وأشك بإمكانية ترجمته. الشعر يمكن أن يُشرح لا أن يُترجم. وهذا ينطبق على كل النصوص المجازية أو النصوص حمالة الأوجه بما في ذلك القرآن الكريم. لا يوجد أبلغ من القرآن، لكن ترجمته الانجليزية لا تصل بحال إلى بلاغته العربية. النص كنص انجليزي فيه نظر، بينما شروح القرآن، وفقط شروحه بوسعها أن تبين مكامن البلاغة فيه. وهذا ينطبق على النصوص البلاغية الأخرى في اللغة العربية.

إذاً لا بد من أن تكون الترجمة ترجمةً شارحة، بسبب ارتباطات كل كلمة، وظلالها، والأصداء المختلفة التي تثيرها في التاريخ. وقع كلمة ردى، غير وقع كلمة موت ووقع كلمة مطر غير وقع غوث أو وبل. وعندما تقال في تركيبٍ حديث، كأن يكون ذلك في جريدة الأخبار مثلاً سيكون معناها شيئاً، وعندما تقال في سياق أقدم تعني شيئاً آخر تماماً. الحالة العاطفية أو النفسية المرتبطة بكلمة سيل أو غيث أو مطر أو ردى أو عيش أو حياة أو أية كلمة أخرى على بساطتها وسهولة ترجمتها، يكون وراءها تاريخ كامل من الأحاسيس والأصداء لا بد من شرحه. الشرح هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنها باعتقادي أن تقرب فهم الشعر من لغة إلى أخرى. أما محاولة ترجمته شعراً أو نثراً فتؤدي إلى كتابة نصٍ جديدٍ إلى اللغة المنقول إليها مستوحى من الأصل وليس ترجمةً له.

قلت أن القصيدة تصل إلى أذن المستمع وتوحي له بشيءٍ معيَّن. من يبحث الآن في الانترنت سيجد عدداً من أفلام الفيديو تتضمن إنشادك لقصائد مختلفة في برنامج أمير الشعراء الذي كنت قد شاركت به. أحد هذه الأفلام شاهده وسمعه أكثر من 300 ألف زائر، وهذا دليل على أن الناس تسمع القصيدة وتطرب بموسيقاها. هل يُسمع شعرك أكثر مما يقرأ؟

البرغوثي: أنا ممن يعتقدون أن الشعر فنٌ سماعيٌ في الأصل. وفي الأصل أيضاً أن تدوينه يكون للتوثيق لا للنشر. وقد يرى البعض أن الانحايز لكتابية الشعر على سماعيتها انحيازاً لتركيب المعنى على بساطته، وليس هذا صحيحاً، خاصة وقد أصبح ممكناً الآن ان يوثق المسموع توثيق المكتوب، فيمعن السامع السماع كما يمعن القارئ القراءة. أما بشأن النشر ففي زمننا هذا أصبحت وسائل النقل المسموعة والمرئية أكفء بكثير من وسائل النقل المطبوعة من ناحية الانتشار وإيصال الرسالة. الكتاب لا ينقل نبرة الصوت مثلاً، وأنا أزعم أن نبرة الصوت مهمة في الشعر كما هي مهمة في الغناء والمسرح.
أما بشأن انتشار الدواوين، فقد نفذت الطبعة الأولى من ديوان "قالوا لي بتحب مصر فقلت مش عارف"، التي صدرت قبل سنتين فقط، والآن نشرت الطبعة الثانية، وهناك رواج حتى للكلمة المكتوبة، ولا يمكنك أن تفرق بين الرواجين، فهناك علاقة تأثر وتأثير بين المقروء والمسموع والمطبوع، ناهيك عن أن القصائد الموجودة على الانترنت تصل كل الناس متخطيةً العقبات، التي تكبل انتشار الكتاب المطبوع في العالم العربي من رقابة وحواجز وتفتيش وحدود.

كيف تريد الاستفادة من الإعلام لنقل قصائدك؟

البرغوثي: الشعر هو كلام، والكلام وسيلة اتصال، والاتصال هنا ما بين قائل فرد ومتلقين جماعة. الشعر هو أن تعبر عن نفسك، أن تعبر عن ذاتك الفردية وذاتك الجماعية أيضاً. إن توفرت وسائل إيصال هذه الرسالة عبر الإعلام، فكان بها. وإن لم تتاح هذه الوسائل، سأبقى أعبر عن نفسي بالطرق المتاحة. لأن كل شيء في تاريخنا المعاصر، وكل ما يتعرض له الإنسان الفلسطيني والعربي، كما المظلوم في العالم كله، يجبره في جوهره على ألا يُسمع صوته. ولذلك فعليه أن يعمل على أن يصل صوته ويُسمع. من واجب الإعلام أن يوفر هذه الصلة، فإن فعل فهو مشكور وإن لم يفعل فمن واجبنا أن نسعى نحن للتعبير عن أنفسنا مهما كانت العقبات. ناجي العلي، رحمه ألله، كان يقول إن لم أجد جريدةً أنشر رسوماتي على صفحاتها، سأرسم على الجدران.

يقال أن الشعر العربي والشعر عموماً يعيش أزمة. هل تعتقد أن من شأن وسائل الاتصال الحديثة أن تشكل منقذاً للشعر ومخرجاً من الأزمة؟

البرغوثي: لا! الشعراء أنفسهم هم من ينقذ الشعر. لكن هناك مجموعة من الشعراء النخبويين في العالم العربي، تحكم بحجة الثورة، وتتقادم باسم الحداثة، وتشيخ بدعوى الشباب منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وتتعمد تجاهل العدد الأكبر من المتكلمين باللغة العربية، بينما الشعر كان يعني هؤلاء دائماً، ولا زال، من أغانيهم الشعبية إلى الملاحم، التي تغنى على الرباب في صعيد مصر، إلى جلسات العزاء الحسيني في جنوب العراق، إلى غناء الأبيات الشعرية الفصيحة وإعادة صياغتها بأبيات عامية.

الشعر والأغنية، كما الملحمة والنص الديني متداخلة كلها في حياة العربي العادي أينما كان وعلى مدى أزمنة طويلة جداً. لكن هذه المجموعة تدّعي أن الشعر يصاب بالتلوث إن فهمه المتلقي له، منطلقين من أن الشعر هو تعبير عن حرية الفرد المطلقة، لذلك على هذا الفرد أن يخلق لغته الخاصة، وأي خضوع منه للغة الجماعة يعتبر خيانة لعملية الكتابة الشعرية وللإبداع.

وأنا أرى أن اللغة، أية لغة عامة في الأصل، ولا تصبح خاصة إلا إذا قارنت أختلافها بأصلها العام، فاللغة العامة المفهومة هي مرجع اللغة الشعرية الخاصة وقاموسها، فحتى صفة الغموض لا تلحق بالنص الغامض إلا عند مقارنته باللغة العامة. لا يمكن للفرد أن يتحرر من الجماعة، شاء أو أبى. وعليه فأنا لا أحبذ هذا المذهب في الشعر، مع احترامي لمن شاء أن يختاره، وأزعم أن الاستمرار به يخلق أزمة، والخروج عنه قد يخرجنا من هذه الأزمة.

هل تعتقد بأن ابتعاد الشاعر عن الموضوع الذي يهم "الجماهير" سيجعل منه شاعراً نخبوياً؟

البرغوثي: لم أقصد ذلك إطلاقاً! المسألة ليست مسألة موضوع. المسألة مسألة مذهب في كتابة الشعر. بوسع المرء أن يكتب عن نفسه، أو عن تجربته مع الحب أو الموت أو أية تجربة أخرى ويبقى شعره مقبولاً من الناس. هل لدينا نحن اليوم قضايا مع الدمستق؟ مع بيزنطة؟ لكننا عندما نسمع قصائد المتنبي عن حروب سيف الدولة مع الدمستق نُطرب لها، لأنها مكتوبة بشكلٍ جميل، ومكتوبة لنا نحن، مكتوبة لمن يفهم اللغة العربية. إذاً المسألة ليست مسألة موضوع، بل مسألة اعتراف بأن الشعر لغة، واللغة تواصل وليست انعزالا. أزعم أن الناس على استعداد لسماع الشعر بل وتحبه. وإذا لم نكن نحن الشعراء قادرين على أن ننتج نصاً يعجب الناس وإن لم نكن نحن منهم، وإن خرجنا عنهم وعليهم، فلا نلومن إلا أنفسنا، إذا بقينا نكتب شعراً لا يفهمه سوانا.

أجرى المقابلة يوسف حجازي
حقوق الطبع: قنطرة 2005

تميم البرغوثي، شاعر فلسطيني ولد في القاهرة عام 1977، حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة بوسطن الأمريكية، وهو يقيم حالياً في برلين بدعوة من معهد برلين للدراسات المتقدمة حيث يمضي سنةً بحثية بوصفه باحثاً في العلوم السياسية، كما يعمل محاضراً في نفس الاختصاص في جامعة برلين الحرة. للبرغوثي أربعة دواوين باللغة العربية الفصحى وبالعاميتين الفلسطينية والمصرية: ميجنا (1999)، المنظر (2002)، قالوا لي بتحب مصر قلت مش عارف (2005)، مقام عراق (2005). كما نشر كتابين أكاديميين في العلوم السياسية: "الوطنية الأليفة: الوفد وبناء الدولة الوطنية في ظل الاستعمار" (2007)، و"الأمة والدولة" بالإنجليزية تحت الطبع.

قنطرة

ملف خاص من موقع قنطرة
التبادل الأدبي الألماني - العربي
يعتبر الأدب دوما أحد الوسائل الرئيسية في حوار الحضارات، وغالبا ما يتمثل هذا في شكل أنشطة صغيرة تعمل في الخفاء. الملف التالي يعرض نخبة من المبادرات الأدبية العربية والألمانية.

عن لقاء الشعراء الألمان والمغاربة في الرباط:
إلتباس خلاّق
التحرر من القوالب الكلاسيكية، والاستفادة من الشعر العربي كمنبع لاستلهام قوة مضادة لشعر ما بعد الحداثة: هكذا يمكن تلخيص توقعات الطرفين الألماني والعربي. تقرير شتيفان فايدنر أحد النقاد الألمان الذين شاركوا في اللقاء

مختارات الشعر العراقي الجديد باللغتين الألمانية والعربية:
العودة من الحرب