"لا أحد آمن في غزة...الحرب تطول الجميع وكل شيء"

عمل الطبيب النرويجي البروفيسور مادز غيلبرت، من جامعة ترومسو، متطوعا في مستشفى الشفاء بغزة خلال حرب غزة الثالثة وعايش أحوالها لحظة بلحظة. تطوع غيلبرت للعمل في غزة بين الحين والآخر لفترة تجاوزت الـ 17 عاما. كما قدم تقريرا للأمم المتحدة حول الوضع الصحي في غزة. يصف غيلبرت، في هذ الحوار مع روما ربجبال فايس لموقع قنطرة، الأحوال في غزة وفي مستشفى الشفاء خلال الهجمات الإسرائيلية. ويرى أن "ممارسات إسرائيل أثناء الحرب إرهاب دولة ممنهج باستخدام السلاح والتهديدات النفسية".

الكاتبة ، الكاتب: Roma Rajpal Weiss

كيف لك أن تصف وضع الحرب في غزة ، دكتور غيلبرت؟

مادز غيلبرت: تقصف القوات الهجومية الإسرائيلية كافة الأماكن في قطاع غزة بكثافة شديدة ويبدو أنه لا نهاية لما يستهدفونه. اليوم استهدفوا مستشفيات، إنهم يواصلون مسلسل قتل المدنيين. الحركة محدودة للغاية فالناس لا يستطيعون الخروج للشوارع خوفا من أن تصيبهم الصواريخ التي تقصفها الطائرات التي تجوب الأجواء في جميع الأوقات وطائرات الـ إف ستة عشر F16 التي يملأ أزيزها الأجواء. شهدنا قصفا بحريا كثيفا من جانب السفن الحربية الإسرائيلية التي استقرت قبالة الساحل وقصفت مناطق سكنية، الأمر أشبه بالرعد المتواصل.

ماذا عن الوضع في مستشفى الشفاء التي تعمل بها؟

مادز غيلبرت: خلال فترات الهدوء المعتادة، تأتي إلينا سيارات الإسعاف بعدد كبير من المصابين والقتلى. ثمة تدفق دائم: (في العشرين يوما الأولى من الحرب) قُتِل أكثر من ألف وأربعين شخصا بينهم أكثر من 200 طفل فلسطيني، كما أصيب آلاف آخرون تجاوز عدد الأطفال بينهم الألف وعدة مئات (في هذه الفترة). وتتجلى هذه الأرقام في مستشفى الشفاء. لا يأتي كل هؤلاء المصابين إلى مستشفى الشفاء إذ توجد مستشفيات أخرى لكن الضغط يتزايد بشكل كبير جدا على مستشفى الشفاء بسبب الدمار الذي لحق بالعديد من المستشفيات مثل مستشفى شهداء الأقصى الذي تعرض أيضا للقصف.

يمكنني رؤية السماء المظلمة بينما أجلس هنا لأن الإسرائيليين قصفوا محطة توليد الكهرباء المركزية. قبل هذا لم تكن معدلات تغطيات احتياجات الكهرباء في غزة تتجاوز نسبة 40% فقط والآن وبعد قصف المحطة المركزية سيصير الوضع أكثر صعوبة. يعتمد مستشفى الشفاء على مولدات كهربائية تتوقف بشكل متكرر وعندها يتوقف كل شيء من المراوح وإضاءة غرف العمليات والإنترنت. كل شيء يتوقف ثم يعود مجددا.

نسمع أصوات القصف والانفجارات وأزيز الطائرات وهجمات الصواريخ على مقربة من المستشفى. نسمع بين الحين والآخر الصواريخ التي تقصف من غزة. إنها حرب ونحن في قلبها.

Palestinian volunteers at al-Shifa Hospital in Gaza lift a body bag (photo: Marco Longari/AFP/Getty Images)
Palestinian volunteers at Gaza City's al-Shifa hospital lift a body bag containing the remains of children after an Israeli air strike in Gaza City killed 11 people, including five children on 21 July 2014, the bloodiest day in the Palestinian enclave since 2009

المستشفى مكتظ بالنازحين المحليين الذين تقصف القوات الإسرائيلية مساكنهم. تختلف الصور من يوم إلى آخر والمشاهد محبطة في المستشفى. قسم الطوارئ هنا ربما يكون الأكثر تصويرا في العالم: هناك سيارتان إسعاف بأضواء حمراء وموجة من أناس جاؤوا مع مرضى جدد وعدد كبير من كاميرات التليفزيون. مكان ركن السيارات المقابل لمدخل المستشفى مكتظ بأقارب المرضى ممن لا يجدون مأوى بعد تعرض المنطقة بالكامل والقرى للقصف. إنه خليط بين هذه الأصوات وصور الحرب.

ما تأثير هذا على الإمدادات؟

مادز غيلبرت: هذا المستشفى كما الحال في باقي غزة، تحت الحصار منذ سبعة أعوام. خطوط الإمداد ضعيفة كما أن انهيار الاقتصاد في غزة يعد مشكلة للقطاع العام في غزة بأكمله. كانت الأنفاق مع مصر بمثابة مصدر للحياة الطبيعية في غزة بعد بدء الحصار. تم إغلاق أكثرمن ألف نفق. كانت هذه الأنفاق خط مرور إمدادات الوقود والدواجن والحمير والسيارات وكل ما تحتاجه غزة للبقاء. ارتفعت أسعار الوقود أربع مرات عندما أغلق المصريون الأنفاق. ارتفعت الأسعار بنسبة 400 في المئة وهذا دمر كل شيء.

ما هي نوعية الإصابات التي تعالجها حاليا؟

مادز غيلبرت: الإصابات متشعبة وفي حاجة إلى جهد فائق من أجل الحفاظ على حياة المصاب. بالطبع هناك مرضى أصيبوا بجروح سطحية وخدوش لكن هؤلاء لا يقبلهم المستشفى. الحالات التي يتم قبولها شديدة التعقيد لأن المدرعات التي تستخدمها إسرائيل تعتبر، ويا لسخرية الموقف!، قمة أجهزة القتل الحديثة التي طورها الجيش والجامعات الإسرائيلية والجيش والجامعات الأمريكية.

حتى الصواريخ الصغيرة تحدث إصابات مدمرة يمكن أن تتسبب في بتر الذراعين والقدمين. ثمة إصابات ناتجة عن انهيار المباني مثل تمزق الأنسجة وكسور الجمجمة.

تتسبب القذائف المدفعية التي تقصِف بها الدبابات في إصابات هائلة، فشظايا القذائف يمكنها أن تصل إلى مئات المترات وهي في حدة الشفرات المدببة، وبالتالي يمكن أن تقطع عنقك أو تخترق مخك أو صدرك أو بطنك وتتسب في نزيف. حاولنا ظهر اليوم إنقاذ شخص أصيب بمئات الشظايا التي اخترقت جسده ونزف بحدة قبل أن يصل إلى المستشفى. لم نتمكن من الوصول به إلى غرفة العمليات لذا اضطررنا إلى إنهاء الأمر في قسم الطوارئ.

Man receiving treatment at al-Shifa Hospital, in Gaza City, 18 July 2014 (photo: MOHAMMED ABED/AFP/Getty Images)
A wounded man receives treatment at al-Shifa hospital, Gaza City, on 18 July 2014. Israeli tank fire killed four Palestinians in two separate attacks, medics said, as Israel launched a ground offensive in an operation to stamp out militant rocket fire

جاء إلينا شاب أصيب بشظايا اخترقت فكه وحطمته بالكامل. استقرت الشظية في الجانب الخلفي لرقبته وتطلب الأمر التدخل الجراحي من قبل فريق من جراحي العظام والتجميل والأعصاب من أجل علاج إصابته المدمرة. لدينا ست غرف عمليات فقط وهذا لا يكفي للتعامل مع التدفق الكبير للمصابين الذين يأتون إلينا.

 كيف يتكيف فريق العمل مع هذا الوضع؟

مادز غيلبرت: في وسط كل هذا، يتحلى الفلسطينيون بالثبات فهم يتصرفون بود وأدب ويحافظون على ثقافتهم كما فعلوا دوما ويعملون بكل طاقتهم في المستشفى من أجل مساعدة المصابين الذين تم إنقاذهم.

لم يتلقَّ معظم العاملين في المستشفى أي أجر مادي، لم يحصلوا على رواتبهم خلال الشهور الأربعة الأخيرة. خلال الشهور الثمانية السابقة لهذا كانوا يحصلون على نصف رواتبهم فقط. بالرغم من هذا يحضر الأطباء وطاقم التمريض والمسعفون للعمل. قاموا بالعمل المتواصل على مدار الساعة لأكثر من 16 يوما بهدف محاولة إنقاذ أكبر عدد ممكن من الأشخاص. إنهم ينامون في المستشفى. منازل الكثير منهم تعرضت للقصف وبعض أفراد عائلاتهم قتلوا أو أصيبوا.

في ليلة مجزرة الشجاعية، تلقى ثلاثة من الأطباء الذين يعملون في المستشفى مكالمات هاتفية من عائلاتهم يخبرونهم فيها بأن منازلهم تتعرض للقصف والتدمير لكنهم بالرغم من هذا لم يتركوا العمل. الحرب تطول كل شخص لكن الجميع يواصل عمله بالرغم من ذلك.

هل تعتقد أن مستشفى الشفاء آمن في الوقت الراهن؟

مادز غيلبرت: عليك توجيه هذا السؤال إلى الحكومة الإسرائيلية ومجلس الحرب الإسرائيلي أما نحن فلا نعلم، فهم لا يخبرونك عن موعد قصفك ولا يعطونك خبرا قبل استهداف سيارة الإسعاف. هم قتلة لا يرحمون، هذه هي حقيقتهم. ما تمارسه إسرائيل هو إرهاب الدولة الممنهج. إذ بحثنا في تعريف مصطلح الإرهاب فسنجد أن معناه هو نشر الخوف في نفوس الناس باستخدام التهديدات النفسية والسلاح وهذا هو بالضبط ما يفعله الإسرائيليون. هذا إرهاب دولة على نطاق واسع، منظم ومخطط ومنفذ من قبل حكومة إسرائيل.

لا يوجد عذر لذلك إذ يتحتم وجود خيارات سياسية على الطاولة، كان من اللازم وجود نقاشات سياسية حول كيفية تعامل الأعداء مع الموقف دون قتل. هل نشعر بالأمن في المستشفى مع كل هذا التسلح والقوات الجوية والبحرية حولنا طوال الوقت، وعندما نشاهد الجثث المقصوفة وعظام الأطفال المكسورة؟ لا، لا يوجد أي شيء آمن في غزة. لا يوجد شخص آمن في غزة لكننا لا نخضع أمام الضغوط.

Damage sustained by al-Aqsa Martyrs Hospital in Deir al-Balah, Gaza, on 21 July 2014 (photo: MOHAMMED ABED/AFP/Getty Images)
A Palestinian employee inspects damage to the al-Aqsa Martyrs hospital in Deir al-Balah, Gaza Strip, after the building was shelled by the Israeli army on 21 July 2014, killing five people and wounding at least 70

ما الذي يجعلك تواصل العمل في هذه الأوقات العصيبة؟

مادز غيلبرت: ما يجعلني أواصل هو هذا الإلهام الكبير الذي أحصل عليه من الفلسطينيين هنا في مستشفى الشفاء من المرضى وأقاربهم. كل شخص أقابله هنا مرفوع القامة ومؤمن بأنه صاحب قضية عادلة ولديه الحق في البقاء هنا وتلقي معاملة مثل الآدميين وليس الحيوانات. عِزّتهم في هذه الأوقات المظلمة هي التي تهزني، أنا معهم في هذا. أرى المرضى يأتون إلى هنا، مدنيون ويدركون هذه الحقيقة. إذا أدرت ظهري لهم فسأصير جزءا من المشكلة، جزءا من الجهل والوحشية.

غزة هي قلب الكرة الأرضية هذه الأيام لأنها مغطاة بالدماء ومع ذلك تواصل النبض وهو ما يظهر الإنسانية ويكشف عن عدم سهولة كسر الناس. أؤيد الفلسطينيين وحقهم في مقاومة الاحتلال والحصار وهذا ما يجعلني أواصل العمل.

ما الذي تحتاجه الآن وبشكل عاجل من العالم؟

مادز غيلبرت: نحتاج إلى التضامن. نحتاج إلى أن يتوقف الناس عن غض الطرف وإدارة ظهورهم لغزة. قتلت أسرة ألمانية قبل يومين هنا، أريد أن أعلم ما رأي السيدة ميركل بهذا الشأن. التضامن بالنسبة لي هو أحد أهم القوى السياسية في عالمنا الحالي وغالبا ما يتم إغفالها. يتعين علينا المشاركة في المسؤولية مع العالم. لا يمكننا إدارة ظهورنا ببساطة. من المهم أن يشعر الفلسطينيون بأنهم لم يتركوا وحدهم وبأنهم لم ينسوا.

 

حاورته: روما ربجبال فايس

ترجمة: ابتسام فوزي

تحرير: علي المخلافي

حقوق النشر: قنطرة 2014