"إذا طلب الناس مني الترشح، فلن أتخلى عنهم"

في هذا الحوار يتحدث محمد البرادعي حامل جائزة نوبل للسلام والرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي عن إمكانية التغيير في مصر ومعوقات ذلك وموقفه من حركة الإخوان المسلمين في أي عملية تغيير سياسي قادم. غيرو فون راندو وميشائيل ترومان أجريا معه الحوار الآتي:

البرادعي، الصورة: د.ب.ا
"التحول إلى الديمقراطية ممكن إذا تغيرت العقلية وإذا كانت الحكومة مستعدة للسير على هذا الطريق"

​​ ما المشكلة في مصر؟

محمد البرادعي: المواطنون في هذا البلد لا حول لهم ولا قوة، فهم لا يستطيعون انتخاب ممثليهم، كما أن لا صوت لهم عند تداول السلطة، أما القضاء فلم ينضج نضجاً كاملاً بعد. الرئيس يتمتع بسلطات هائلة. في الواقع يمكن اعتبار مصر بلد الحزب الواحد. أكبر الأحزاب المعارضة ليس له سوى عشرين في المئة من المقاعد. وكل هذا تم ترسيخه منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً بواسطة قانون الطوارئ.

في مصر ينتشر الفساد واللاشفافية والمحسوبية. الأثرياء يعيشون في مناطق سكنية مغلقة، بينما يجد 42 في المائة من السكان أنفسهم مجبرين على سد الرمق بما يوازي دولارا في اليوم. لدينا مطارات بأكملها مخصصة للطائرات الخاصة فحسب، بينما ما زال مصريون كثيرون يمتطون ظهر الحمار. 30 في المائة من المصريين أميون. لقد فقد الناس الأمل ولا يرون أي مستقبل لهم. وكل من يستطيع مغادرة البلاد بأي طريقة، يغادرها.

هل مصر ناضجة للديمقراطية؟

البرادعي: الناس مستعدون للديمقراطية. إنهم يدركون مدى القمع والتخلف اللذي يعيشون فيه. كما أنهم يشعرون بالقلق على المستقبل. إن استراتيجية الحكومة تنحصر في التحذير: التغيير معقد وخطير. أنت تعلم أن الأنظمة المستبدة تهوى التحدث دائماً عن الاستقرار؛ ولكن أين الاستقرار إذا كان الناس لا يثقون في حكومتهم. انظر إلى أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية: إن التحول إلى الديمقراطية ممكن إذا تغيرت العقلية وإذا كانت الحكومة مستعدة للسير على هذا الطريق.

هل يمكن الجمع بين الإسلام والديمقراطية؟

البرادعي: الإسلام، كأي دين، هو ما يطبقه الناس. صحيح أنه في ظلال الإسلام لم تتكون في العصور الأولى مجتمعات مدنية متطورة تطوراً كاملاً، بل بالأحرى نظم مستبدة وحكام مطلقين؛ غير أن الوضع كان في أوروبا أيضاً كذلك في يوم ما، إلى أن تغير. لماذا يجب أن يمثل الإسلام استثناء في هذا المجال؟ في القرآن آية تقول: "وشاورهم في الأمر". من الممكن أن تمثل هذه الآية نقطة انطلاق. ولا تنسى أن هناك ديمقراطيات جيدة في بعض الدول الإسلامية، مثل تركيا وإندونيسيا.

الديمقراطية التركية تضع النماذج الغربية نصب أعينها. هل الغرب بالنسبة لك هو النموذج؟

مبارك، الصورة: د.ب.ا
البرادعي: الرئيس يتمتع بسلطات هائلة في مصر، حيث ينتشر الفساد واللاشفافية والمحسوبية.

​​ البرادعي: ليس للديمقراطية موطن. إنها ترتكز على حرية التعبير عن الرأي وعلى الحرية الدينية والتحرر من الخوف والعوز. هذه القيم عالمية.

هل هناك نماذج في مصر نفسها؟

البرادعي: كان لدينا ذات يوم نظام ديمقراطي، حتى عام 1952. لم يكن نظاماً مكتملاً، ولكنه كان نظاماً ديمقراطياً على كل حال. غير أن الجيش استولى على السلطة عام 1952.

يخشى البعض أن تجلب الديمقراطية في مصر الإخوان المسلمين إلى الحكم.

البرادعي: ليس من اللازم أن يتفق المرء فكرياً مع الإخوان المسلمين، ولكن لا بد أن نقر بأنهم جزء من المجتمع ولديهم الحق في المشاركة فيه. لقد تم تصوير الإخوان على أنهم حلفاء أسامة بن لادن – هذا لغو وهراء. إنهم بالطبع محافظون، منكفئون على ذاتهم، لكنهم لا يستخدمون العنف، بل لا يطمحون إلى السلطة. لديهم عشرون في المائة من مقاعد مجلس الشعب، ولكن لا يُعترف بهم كحزب: هذه، بامتياز، سياسة دفن الرؤوس في الرمال. كلا، علينا أن نشركهم أكثر! إنهم يتمتعون في مصر بمصداقية كبيرة لأنهم – بحسن تنظيمهم – يعملون على إشباع احتياجات الناس الأساسية، في الخدمات الصحية والتعليم والإغاثة في الكوارث.

هل تتعاون معهم؟

البرادعي: عندما عدت إلى مصر قبل أسابيع تحدثت مع رئيس كتلتهم النيابية. للمرة الأولى في حياتي تحدثت مع رجل من الإخوان المسلمين. لقد كان الرجل معارضاً للأحزاب الدينية والعسكرية ومؤيداً للدولة المدنية. أنا آخذ كلامه على محمل الجد، سواء كنت أصدق كل ما قاله أم لا.

منذ سنوات طويلة وأنت تعيش خارج مصر، والآن تريد أن تمارس السياسة فيها. كيف؟

البرادعي: أنا عائد لأعمل من أجل التغيير. أريد أن أكشف عن الأخطاء التي ارتُكبت، كما أريد أن أساعد مصر في عملية التحول إلى نظام ديمقراطي ذي مؤسسات نظيفة.

كرئيس للوكالة الدولية كانت الدقة هي نقطة قوتك. غير أن الساسة يخاطبون العواطف. هل هذا الدور يصلح لك بالفعل؟

البرادعي: أتعلم، المصريون ضحية العواطف. العواطف هي كل شيء. ليس باستطاعة المرء أن يتحدث عن أي شيء بصراحة. ولكنك محق، عليّ أن أتعلم في هذا المجال، كما يجب عليّ بالتأكيد أن أغيّر من أسلوبي.

وتُقبّل الأطفال الرضع وتحضر حفلات العشاء ...

البرادعي: أعترف بأن هذا ليس مجالي، كما أني بالتأكيد لست من الذين يستقطبون الأضواء في الحفلات. غير أني سأذهب بالطبع إلى مثل هذه المناسبات لكي أتحدث عن مشكلات مهمة. علينا أن نتحدث كثيراً. أتعلم، في الشرق الأوسط تُرسم أشياء كثيرة بالأبيض والأسود. ولكن الأشياء في حياتنا غالباً ما تكون رمادية. على المرء أن يحدد السلبيات والإيجابيات. إني أفعل ذلك على نحو غير مألوف، هذا أكيد، ولكن يبدو أن الناس يحبون أسلوبي، ويلتفون حولي.

كيف تتواصل مع الناس في مصر؟

البرادعي: لقد اندهشت عندما ذهبت إلى الريف، في الشمال الشرقي، إلى المنصورة. لقد أتى أناس بالفعل فقراء ليقابلوني ويحتضنوني ويقبلوني – لا أستطيع تفسير ذلك سوى بشعورهم بالأمل فجأة. رغم أنهم يعرفون أنني لا أفكر مثلهم، ولا أحيا مثلهم، كما أني لا أتصرف مثلهم.

ماذا فاجأك؟

البرادعي، الصورة: ا.ب
البرادعي: الناس مستعدون للديمقراطية. إنهم يدركون مدى القمع والتخلف اللذي يعيشون فيه.

​​ البرادعي: مقدار اليأس وانعدام الأمل. والخوف. أتفهم ذلك تماماً؛ من يعرف كيف كنت سأتصرف اليوم لو كنت قد عشت حياة مثل مواطنيّ. ولكنني لست نتيجة حياة متواصلة في مصر عبر ثلاثين أو أربعين عاماً. هذا شيء لا أخفيه على الإطلاق. على كل حال فإنني أتفاهم مع الفقراء أفضل مما يحدث مع عديدين من النخبة. مع النخبة يجب على المرء الحذر، فلديهم ما يخسرونه.

هل سترشح نفسك للانتخابات الرئاسية؟

البرادعي: في عمري؟ على الأقل ليس ذلك من أولوياتي. إن تحديث مصر يحتاج إلى وقت طويل، قد يستغرق جيلاً أو جيلين. عليك أن تغير أشياءً كثيرة: القيم، التربية، البنية التحتية! أود أن أشكل بداية كل تلك الأشياء. على جانب آخر، وحتى أوضح الأمر: إذا كان الناس يطلبون مني بالفعل الترشح، فلن أتخلى عنهم.

تغيير البلد دون تولي منصب – هل هذا، بالأساس، ممكن؟

البرادعي: نعم، بالطبع. علينا أن نمارس ضغطاً. مثلاً عن طريق حملة جمع التوقيعات. تخيل ماذا يعني أن يقوم عدد كبير جداً من المصريين، عدد بالفعل كبير جداً، بالتوقيع وكتابة أرقام بطاقاتهم الشخصية ليقولوا: نريد التغير، نريد الديمقراطية!

أنت تضع أفلام فيديو في الإنترنت، كما تستخدم "التويتر" و"الفيس بوك". ولكن ليس لديك حتى مكتب في القاهرة.

البرادعي: ورغم ذلك يتوافد المتطوعون إلينا من كافة طبقات المجتمع، ويسألوننا: ماذا يمكننا أن نفعل؟ لقد بلغ عددهم حتى الآن 15 ألف متطوع يجولون في المدن والقرى وفي كل ربوع البلاد لكي يطلعوا الناس على حركتنا المدنية الجديدة.

وكل هذا دون هيكل تنظيمي؟

ثورؤة الخبز..الصورة: أ.ب
"الأثرياء يعيشون في مناطق سكنية مغلقة، بينما يجد 42 في المائة من السكان أنفسهم مجبرين على سد الرمق بما يوازي دولارا في اليوم"

​​ البرادعي: هذا بالفعل مأزق. إننا بحاجة إلى تنظيم، ولكن ليس من المسموح لنا بأن نكونه – ماذا نفعل إذاً؟ أن نعمل بطريقة غير مشروعة؟ أرجوك أن تتخيل شخصاً مثلي يخرج عن القانون! مستحيل. لقد كنت دوماً رجل القانون. إذن ليس بمقدوري سوى أن أراهن على حدوث شيء آخر: أن يتحرك المصريون أنفسهم، أن يتحركوا على نحو لا يستطيع أحد منعه. ربما يستغرق ذلك ستة أشهر، وربما ستة أعوام. على كل حال فإن الناس بدأوا يتناقشون حول السياسة! كان ذلك من المحرمات تقريباً في مصر، منذ عقود. السكوت والذهاب إلى العمل، كانت هذه هي القاعدة. مثلما كان الحال في ألمانيا الشرقية. ولهذا راهنت على التغلب على الخوف، مثلما قام الألمان بهدم السور.

وكيف تصل إلى الذين لا يستخدمون الإنترنت؟

البرادعي: لحسن الحظ هناك محطات تلفزيونية خاصة. في بعض الأحيان أظهر في برامج "التوك شو"، كما حدث مؤخراً في برنامج شاهده 44 مليون إنسان.

لكن أنصارك يواجهون مصاعب الآن، حتى في البلدان العربية الأخرى. في الكويت أُلقي القبض عليهم، وفي السعودية حُجبت صفحتك. هل يعاديك العالم العربي؟

البرادعي: ليس هذا مقصوداً على نحو شخصي. (يضحك)، كلا. إنهم يعتبرون إمكانية دخول الديمقراطية إلى الشرق الأوسط تصوراً غير مريح.

الرئيس المصري حسني مبارك حذر المعارضة قبل فترة قصيرة تحذيراً عنيفاً. هل تعتبر ذلك تهديداً شخصيا لك؟

البرادعي: لا، أنا لا أريد أن أصدق ذلك مطلقاً. ولكن، بالفعل، هناك رعب ما في الوقت الحالي في الطبقة الحاكمة– رغم أني لم أتِ إلى مصر بشيء سوى بأفكاري. ولكن ما يصيبهم بالعصبية على ما يبدو هو مصداقيتي الدولية. ولهذا يشنون علي حملات مغرضة. ولكن كلما أضحت الحملة شخصية، زاد الاعتقاد التالي بين المصريين: طالما يتعرض الرجل إلى مثل هذا الهجوم، فلا بد أن لديه ما يقدمه حقاً.

منافس مبارك في انتخابات عام 2005، أيمن نور، انتهى به المطاف في السجن. ألا يخيفك هذا؟

البرادعي: لا. شهرتي هي ما توفر لي الأمن. عندما أذهب إلى أي مكان في مصر، يرافقني دائماً نحو خمسين من العاملين في مجال الإعلام، أيضاً الدولية، وهو ما يمنحني بعض الحماية.

أجرى الحوار: غيرو فون راندو وميشائيل ترومان
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: أسبوعية دي تسايت الألمانية / قنطرة 2010

الدبلوماسي المشهور محمد البرادعي (مستر ذرة) ولد عام 1942 في القاهرة، تولى من عام 1997 وحتى عام 2009 رئاسة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. بسبب معارضته للحرب على العراق اعتبرته حكومة بوش خصماً. في عام 2005 حصل البرادعي على جائزةى نوبل للسلام مناصفة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

قنطرة

أبعاد عودة محمد البرادعي إلى مصر:
البرادعي...أحلام التغيير في مواجهة سيناريوهات التوريث سيناريوهات التوريث
أثارت عودة محمد البرادعى، المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى القاهرة جدلا واسعا، لاسيما بعد تصريحاته التي أعلن فيها استعداده للترشح لمنصب رئيس الجمهورية في حال توافر الأرضية المناسبة لذلك. هذه العودة أوجدت حراكا سياسيا في المشهد المصري العام، تراوح بين حملات التأييد والمعارضة. نيللي يوسف ترصد لنا من القاهرة واقع هذا المشهد.

المشهد السياسي في مصر ومسألة التوريث:
من الجمهوريات إلى الملكيات المقنعة
يرى الباحث الألماني المختص في الشؤون المصرية، شتيفان رول، في هذه المقالة التحليلية أن النظام المصري يتبنى إستراتيجية مزدوجة لتأمين سلطة الرئيس مبارك والعمل على توريث الحكم إلى ابنه جمال، مستفيدا بذلك من كبار رجالات الأعمال الذين يشكلون غطاء لهذا السيناريو وسط عجز المعارضة المصرية عن التصدي لهذه المحاولات.

قراءة في فترة حكم الرئيس المصري حسني مبارك:
مصر من الفوران إلى البركان...هرم مصر الرابع ومستقبل بلاد الفراعنة
يحكم حسني مبارك مصر منذ 28 عاما، ونشأ معه جزء كبير من الشعب كرئيس دولة يتواجد في كل مكان. والآن وبعد أن أصبح عمره 81 عاما تتساءل مصر كلها كيف سيكون مستقبل هذه البلاد؟ أميرة الأهل في استقصاء لفترة حكم حسني مبارك.