لا منفعة للمجتمع العصري في السخرية من الأديان

تستخدم مجلة "الدبّور" اللبنانية فن الكاريكاتور الانتقادي. وتنتمي هذه المجلة إلى أقدم المجلات الصادرة في بيروت. حول مهمة هذه المجلة وحرية التعبير في العالم العربي وحدود النقد الساخر، أجرى بيورن تسيمبريش لموقع قنطرة الحوار التالي مع جوزيف مكرزل رئيس تحرير مجلة "الدبور".

الكاتبة ، الكاتب: Björn Zimprich

لماذا أسس عمك مجلة انتقادية ساخرة ولم يؤسس مجلة سياسة مثلا؟

جوزيف مكرزل: لأنه كان يعتبر أن الطريقة الفضلى للمطالبة بالديمقراطية والاستقلال، وتثبيت حرية التعبير، يكمنان في الصحافة الانتقادية. كان يطمح إلى إثبات أن الشعب اللبناني قادر على إنشاء بلد حر وديمقراطي والعيش فيه. كان هذا تحديا كبيرا في ظل الانتداب الفرنسي الصارم، وقد دخل يوسف مكرزل السجن مرات عدة، كما اعتدي عليه مرارا بسبب مواقفه السياسية. لكنه لم يخف وواجه مصيره بشجاعة وقوة ورباطة جأش حتى وفاته عام 1944.

بعد أن أغلقت مجلة الدبور مكتبها عام 1977 خلال الحرب اللبنانية الأهلية قمت أنت بإعادة إصدار هذه المجلة عام 2000. ما هو الحد الذي لا بد أن تتوقف عنده مجلات الانتقاد وكاريكانورات السخرية السياسية في عالم اليوم؟ 

جوزيف مكرزل: ليس هناك أي سقف! عندما قررنا إعادة إصدار الدبور عام 2000 كان السوريون لا يزالون في لبنان. ولم يكن هناك ما يكفي من الحرية. لكننا قررنا المضي قدما في هذه المغامرة رغم كل شيء، وكان القراء يتصلون بنا ويهنئوننا قائلين "الله يحميكن".

كنت أردد دائما مع صديقي الشهيد جبران تويني: هناك حدود للحرية لكن علينا أن نتخطاها باستمرار، حتى لو تعدوا علينا نكون قد وسّعنا إطارها مرة تلو الأخرى. وهذا ما فعلناه، تخطينا الحدود المفروضة علينا ومن ثم هذا ما فعله باقي الزملاء. كان هذا بمثابة مقاومة بل حرب تعبير. كنا نقاوم ضعوط النظام السوري وتلقينا تحذيرات عدة بل تهديدات اضطررنا إثرها أن نتنقل مع رجال حماية، كما كانت عناصر من الشرطة اللبنانية تحمي منازلنا ومكاتبنا. كنا على علم بأننا نواجه خطر الاغتيالات، وقد دفع جبران الثمن بحياته.

هل من خط أحمر يقيد الرسوم الكاريكاتورية الانتقادية فيما يتعلق بالدين. هل بإمكانكم السخرية من الرموز الدينية في لبنان؟    

جوزيف مكرزل: ليس هناك أية حدود، خصوصا وأن العديد من رجال الدين البارزين يتعاطون الشأن السياسي في لبنان. من هنا أصبح من حقنا أن ننتقد. وهذا ما نفعله. علما بأننا نعتمد نهج الانتقاد الإيجابي من دون إهانة الشخص أو التعرض لديانته. نعترض فقط على أدائه السياسي أو مواقفه السياسية وليس هويته كرجل دين أو المجموعة الدينية التي يمثلها.

Joseph Moukarzel; Foto: Björn Zimprich
يشدد جوزيف مكرزل على ضرورة مواجهة التطرف، لكنه ينتقد الاستفزاز والسخرية من الرموز الدينية ويقول: "بنظري عندما نشرت الصحيفة الدنمركية الرسوم الكاريكاتورية للرسول محمد، كانوا يجهلون ماذا يفعلون وتأثيره على الطائفة الإسلامية. لكن بعد أن عرف الجميع أن هذا الأداء يسيء إلى الدين الإسلامي، تحول الجهل إلى تحدٍّ". ويضيف: "وبهذا التحدي يصبح المنتقدون مسؤولين عن كل قتيل وجريح يسقط في العالم نتيجة أعمال العنف".

على سبيل المثال نصور السيد حسن نصر الله كأمين عام لحزب الله في رسومنا الكاريكاتورية، لكن علينا أن نحترمه كقائد كاريسمي وشيخ لطائفته. علينا أن نحافظ على مستوانا الفكري في مقالاتنا ورسومنا وأن لا ننزلق إلى مستويات لا تليق بنا.

وماذا عن الصور الكاريكاتورية الساخرة التي نشرتها صحف غربية في سنوات سابقة. وهي صور قابلتها ردود أفعال في دول العالم العربي والإسلامي. ما رأيك في ذلك كمحرر لصحيفة انتقادية ساخرة وصادرة في بلد ينتمي إلى منطقة الشرق الأوسط؟

جوزيف مكرزل: قلتها مرارا وتكرارا في المحافل الدولية. بنظري عندما نشرت الصحيفة الدنمركية الرسوم الكاريكاتورية للرسول محمد، كانوا يجهلون ماذا يفعلون وتأثيره على الطائفة الإسلامية. لكن بعد أن عرف الجميع أن هذا الأداء يسيء إلى الدين الإسلامي، تحول الجهل إلى تحدي. وعلينا أن نعلم أن المتطرفين ليسوا وحدهم من استاء من الرسوم وأدانها، بل المسلمون بشكل عام ومن بينهم المثفقون والمعتدلون.

أعتبر أن علينا حل مسألة التطرف الإسلامي في العالم، لكن برأيي أن الحل لا يكمن بتحدي هؤلاء والتعرض لديانتهم. قلتها للمسؤولين عن الموضوع في فرنسا خلال لقاء في هذا الشأن: بتحدي المتطرفين تصبحون مسؤولين عن كل قتيل وجريح يسقط في العالم نتيجة أعمال العنف. أين الإيجابية في انتقاد الرسول؟ لا أرى أية مصلحة فيه للمجتمع العصري. هدفنا ليس تدمير العالم ولا الانتقاد للانتقاد.

وكما قال مؤسس الدبور عمي يوسف مكرزل: علينا أن نضع الإصبع على الجرح كي نشخص الداء ونصف الدواء. الانتقاد والسخرية يجب أن يهدفا إلى بناء عالم أفضل.

هل في رأيك يوجد فن كاريكاتور لبناني أو عربي خاص؟ أم أن السياق هو الذي يختلف في حين تبقى الفكرة الانتقادية الساخرة نفسها سواء في باريس أو في برلين أو في بيروت؟ 

هذا سؤال صعب جدا. أعتقد أن فن الكاريكاتور هو تعبيري متعلق بالمجتمع والبيئة وطريقة التفكير، ويتناغم مع كل ذلك. الرسالة من خلال الصورة المباشرة هي نفسها لكن إطار الإدراك الحسّي واسع جدا، وكل واحد يترجم الفكرة من خلال طريقة تفكيره، والبيئة التي يتواجد فيها، وعاداته وتراثه الثقافي والفكري. الرسم الكاريكاتوري في الدبور، يرافق بكلام باللغة اللبنانية المحكيّة، أي أنه بالمطلق هدفه القارئ اللبناني وليس العربي.

كاريكاتور من مجلة الدبّور. Foto: Facebook Ad-Dabbour/ Eliot
سوريا كأحد أسباب نشوب العنف في لبنان: في هذا الرسم تمثل الدمية مصدر إطلاق رصاص الكلاشنكوف من سوريا على مخيم عين الحلوة الفلسطيني القريب من مدينة صيدا اللبنانية الساحلية وأيضاً على مدينة طرابلس ثاني أكبر مدن لبنان.

لقد قلتَ أن مجلة الدبور تصدر في لبنان، البلد المعروف بحرية التعبير في المنطقة. فهل تعتقد أن مشروعا كمجلة الدبور قابل للتطبيق في بغداد أو القاهرة أو أبو ظبي أو في أي عاصمة أخرى في العالم العربي؟

جوزيف مكرزل: لا أظن. الدبور يثبت حقيقة حرية التعبير المطلقة التي ينعم بها لبنان. أنا لا انتمي إلى أي حزب أو تيار سياسي، وإنني مناهض للجميع باستثناء الدولة اللبنانية والجيش اللبناني. لكن إذا ارتكب أي أحد خطأ انتقده مباشرة، ولم أواجه حتى الآن مشاكل ولا ضغوطات لا تحتمل حتى الآن.

نحن لسنا مجلة عربية الانتشار والتوجه، ولن نكون. لأن التغيير شبه مستحيل في البلاد العربية من خلال النقد الإعلامي. إنها بمجملها بلدان غير ديمقراطية. لقد خلقوا منذ ما يقارب العشر سنوات مجلة اسمها الدبور، لكنها لم تنجح لأنها كانت تنتقد إسرائيل والولايات المتحدة ولا تتعرض للنظام أو السياسة الداخلية. هذا لا معنى له.

من السهل جدا أن ننتقد إسرائيل، كون الجميع سيصفق لنا في العالم العربي. هذا لا يعني أن هناك حرية تعبير. إننا ننتقد إسرائيل طبعا، لكننا في الوقت نفسه ننتقد لبنان وسوريا والمملكة العربية السعودية وقطر، من المفترض أن ننتقد جميع الذين يتعاطون مع لبنان لأية جهة انتموا. علما بأننا ليس مرغوبا بنا كمجلة في باقي الدول العربية.

في ظل الربيع العربي، من الملاحظ أن العديد من المعلقين الغربيين كتبوا حول القدرة الفريدة للإنترنت وإعلام التواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط. ما هي الفرص التي تراها لمجلة الدبور في هذا السياق؟

جوزيف مكرزل: الإعلام الاجتماعي والالكتروني هو ضرورة اليوم. لكن هدفنا ليس تجميع أكبر عدد من التابعين. علينا أولا أن نتميّز اقتصاديا، وفي حال انتقلنا إلى الوسائل الإلكترونية المجانية لن نتحمل العبء الاقتصادي. لذا ستبقى الدبور مجلة ورقية، وهدفنا من خلال الإطلالة الإلكترونيّة سيكون التواصل مع ملايين اللبنانيين عبر العالم. هؤلاء في حاجة إلى رأى الدبور وأسلوبه، ونحن بصدد التحضير للانطلاق في هذا المشروع.

 

حاوره: بيورن تسيمبريش

تحرير: علي المخلافي

حقوق النشر: قنطرة 2014

 

أعاد جوزيف مكرزل إصدار مجلة الدبور عام 2000. وذلك بعد أن انقطع اصدارها عام 1977 أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. وكانت هذه المجلة الانتقادية تأسست على يد عمه يوسف مكرزل سنة 1922. وكان المؤسس قد ولد في مصر وتأثر بالنهضة العربية (نهضة ثقافية بدأت في القرن التاسع عشر). وعمل في مصر كمحام، لكنه كان يتوق إلى العودة إلى لبنان. وسرعان ما حقق حلمه الأول وهو العودة إلى وطنه الأم لبنان وذلك في عام 1921، وحقق حلمه الثاني بتأسيس مجلة "الدبور" عام 1922 في بيروت.  وكان يتبع رؤياه التي تكمن في تحقيق حرية التعبير كخطوة أولى نحو الديمقراطية.