"تونس ديكتاتورية ناعمة"

حصلت التونسية سهام بن سدرين، صحفية ومناضلة من أجل حقوق الإنسان، على جائزة يوهان فيليب بالم الألمانية لحرية الفكر والصحافة. سيلفيا كوسكة تحدثت معها حول إقامتها في ألمانيا ومساعي الاتحاد الأوربي للتأثير على السلطات التونسية من أجل الانفتاح السياسي

الصورة: مراسلون بلا حدود
سهام بن سدرين

​​سهام بن سدرين صحافيّة ومناضلةّ في سبيل حقوق الإنسان، وهي من الأعضاء المؤسّسين لـ"المجلس الوطني للحرّيات بتونس " (CNLT) الغير معترف به من طرف الحكومة، والناطقة باسمه حاليًّا. وهي كذلك السكرتيرة العامّة لـ "المراقبين من أجل الدفاع عن حريّة الصحافة" ومديرة الصحيفة الإلكترونيّة "كلمة" الممنوعة في تونس. وقد كان ثمن مواقفها الشجاعة تحمّل المراقبة والمتابعات والإعتداءات والسّجن. ولهذا السبب تمّت دعوتها من طرف "مؤسّسة المضطهّدين السياسيّين" بهامبورغ للإقامة بألمانيا حتّى صيف 2003. وفي خريف السنة نفسها عادت ثانية إلى ألمانيا لتكون أوّل متسلّم لـ"جائزة يوهان فيليب بالمْ لحريّة الفكر والصحافة" التي أنشأها صيدليّ من شورندورف. وقد تمّ اقتراحها لهذه الجائزة من طرف منظمة "مراسلون دون حدود". من وراء إسناد هذه الجائزة تسعى مؤسّسة بالمْ إلى المساهمة في إرساء وحماية حريّة الفكر والصحافة في الدّاخل كما في الخارج إذ تعتبرها الأساس الذي لا محيد عنه لكلّ ديموقراطيّة. في آخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني عادت سهام بن سدرين إلى تونس. في شوندورف أجرت معها سيلفياكوسكة الحوار التالي.

السيّدة بن سدرين، أنت الآن للمرّة الثانية في ألمانيا. ما هي فائدة هاتين الإقامتين بالنسبة لك؟

سهام بن سدرين: عندما كاتبتني مؤسّسة هامبورغ لتقترح عليّ المجيء إلى ألمانيا كان شعوري الأوّل هو أن أرفض؛ هناك اللغة التي لا أتقنها، وكنت خائفة أن تغدو إقامتي في ألمانيا نوعًا من المنفى الذي لا أستطيع التحكّم في مآله. لكنّ زوجي شجّعني بقوله إنّه يظلّ دومًا بالإمكان العودة إلى البلاد في كلّ الأحوال. وأنّه بعد كلّ تلك السنوات التي لم نعرف خلالها لا عطلا ولا آخر أسبوع ولا أمسيات للإستراحة سيكون مهمًّا أن يأخذ المرء لنفسه فترة هدنة وأن يستريح من أجل تجديد الطاقات. وهنا اكتشفت بلدًا أنيسًا ونساء ورجالا كانوا ودودين جدًّا معي؛ وكانت إقامتي إذًا مريحة ومفيدة.

ما الذي ينتظرك أنت وعائلتك بعد العودة إلى تونس؟ هل سيكون لهذه الإقامة تبعات ما على حياتك في المستقبل؟

بن سدرين: عائلتي تتألّم معي طبعًا؛ لقد عشنا معًا كلّ أشكال القمع التي تقع على العائلة: الحرمان من موارد العيش، ومنع التنقّل بحريّة، حرمان الأطفال من الالتقاء بأصدقائهم..إلخ. لكن هذا الذي أتحمّله أنا وتتحمّله عائلتي معي ليس شيئًا ذا بال مقارنةً بما يقاسيه المواطنون العاديّون. فبالنسبة لي كلّما أردت الحصول على شيء بإمكاني أن أحتجّ وهنالك دومًا حملات احتجاج عالميّة لحمايتي. أمّا المواطنون العاديّون فلا أحد يعرفهم وليس لهم أيّ حقّ، فالقانون مجرّد إطار للزّينة؛ السلطة تفعل ما تريد، ويمكن لحياة هؤلاء المواطنين أن تدمّر كلّيًّا. يمكن أن يجرّ الواحد إلى السجن لا لشيء إلاّ لمجرّد احتجاج ضدّ عنصر أمني قد شتمه. إذا سألت فقط: لماذا تهينني؟ تؤخذ إلى السجن ويقع تعذيبك هناك، وفجأة أنت بعدها دون عمل وعائلتك قد دمّرت، للا شيء!

وعندما نعلم بذلك، أنا والفريق الذي أشتغل معه، ثمّ نذهب لمقابلة المعنيّ كي نحقّق في المسألة ونحصل على أكثر المعلومات، ثمّ نسأله إنْ بإمكاننا أن ننشر وقائع حادثته، فيكون الجواب دومًا: لا، لا، لا،أرجوكم لا تذكروا شيئًا من هذا الأمر، أخاف أن يعودوا للانتقام منّي.

تونس دكتاتوريّة "ناعمة"soft- أعني في وسائلها؛ أي أنّهم لن يزجّوا بي في السجن بعد عودتي لأنّ ذلك مكلّف بالنسبة لهم، لكنّهم سيضيّقون عليّ الخناق؛ إذا أردت أن أشتغل في مكان ما سيمنعون الناس من العمل معي، وفي كلّ مرّة أريد أن أدعو أصدقاء إلى بيتي سيضعون أعوانهم أمام البيت. ويمكنهم أيضًا أن يحجزوا جواز سفري. لكنّها جملة من مسائل صغيرة تعوّدت عليها. عندما يعيش المرء شيئًا ما يكون الخوف منه في المرّة اللاحقة أقلّ.

عندما وصلت إلى ألمانيا، هل كان لديك شعور بأنّ الناس هنا على علم بما يجري في تونس عدا وجود الشواطئ والنّخيل؟

بن سدرين: للأسف لا. الجميع يعرف أنّ السوّاح الألمان بمليون زائر في السنة يشكلون القسط الأكبر من زوّار تونس. التونسيّون يعرفون جيّدًا الألمان، لكنّ الألمان لا يعرفون التونسيّين جيّدًا. صحيح أنّه لم يكن هناك أيّ عمل من شأنه أن يفتح أعينهم على واقع هذا السّجن الكبير الذي انغلق على ساكنيه. لكنّني أعتقد أنّ هذا هو عملنا نحن أن نكشف للرأي العام عن الوجه الحقيقيّ لواقع هذه البلاد لتي تمنح للسوّاح وجهًا آخر مشرقًا.

لكن بالنسبة لشخص مثلك قادم من بلاد تنعدم فيها حريّة الفكر والصحافة، أليس أمرًا مخيّبًا للأمل أن تكتشفي أنّ الإمكانيات الإعلامية متاحة هنا في ألمانيا للإطلاع على ما يجري ومع ذلك لا يُستفاد من هذه الحظوة؟

بن سدرين: مسألة الحريّة والإعلام قائمة في كلّ بلدان العالم. ففي البلدان الديموقرطيّة، نظرًا لأنّ الصحافة أداة ذات قدرة قويّة في مجال تشكيل الآراء فإنّه توجد نزعة لدى المجموعات الماليّة والإقتصاديّة للسيطرة عليها. وبالتّالي فإنّ القضايا التي تتعلّق بمصالح كبرى والتي لا يراد أن تسلّط عليها الأضواء لا يمكنها أن تجد مكانًا لها داخل وسائل الإعلام.
أمّا في بلدان الأنظمة الاستبداديّة فإنّ وسائل الإعلام مقيّدة وتستعمل لغرض الدعاية، وبذلك يحيد بها عن مهمّتها الأصليّة. لكنّني لا أفقد الأمل مع ذلك لأنّني اكتشفت خلال مسيرتي النضاليّة أنّه مهما كانت الموانع التي توضع أمامنا تظلّ هناك دائمًا فجوات يمكن العثور عليها، وهذا هو ما عثرت عليه هنا في ألمانيا: وجدت فجوات كثيرة. لذلك فإنّني لن أشتك، فقد وجدت تضامنًا لدى صحافيّين ألمان من مؤسّسات إعلاميّة هامّة قد نجحوا رغم كلّ شيء في فتح أعمدة صحفهم لنضالنا في تونس ولإنارة الرأي العام الألماني حول هذا النضال الذي نخوضه هناك.

ما هي حسب رأيك أهمّية الأنترنيت، بالرّغم من الرّقابة الحاليّة، في مجال النضال من أجل حريّة الرأي والصحافة في تونس؟

بن سدرين: أنا شخص مناهض للعنف. لا أعتقد أنّ الحرب والعنف بإمكانهما أن يحلاّ المشاكل. وسلاحي الوحيد ضدّ الدكتاتوريّة هي الكشف عن أعمال الدكتاتوريّة. نحن مجموعة كبيرة من المعارضين التونسيّين الذين يحاولون كسر الطّوق المضروب على المواطنين التونسيّين. سلاحنا الوحيد هو الإعلان عن كلّ انتهاكات الحريّات العامّة والفرديّة ونشر الوقائع التي تتعلّق بانتهاكات حقوق الإنسان وتجاوزات القانون التي يقترفها الحاكمون في البلاد.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّه لا توجد أيّة حريّة انتظام، ولا أيّة حريّة للصحافة؛ ليس هناك صحيفة مستقلّة واحدة في تونس حاليًّا، وبطبيعة الحال ليست هناك إذاعة أو قناة تلفزيّة حرّة، وبالتّالي فإنّ النوافذ الوحيدة التي استطعنا أن نجدها هي الأنترنيت. بفضل الأنترنيت وكذلك كلّ تلك المنظّمات غير الحكوميّة لمساندة حريّة الصحافة وللدّفاع عن حقوق الإنسان، استطاع صوتنا أن يخترق الجدار وأن يُستمع إليه على المستوى العالمي. وبطبيعة الحال لم تظلّ الحكومة مكتوفة الأيدي أمام هذا الأمر، لأنّه لا شيء يزعجها مثل شيء يسيء إلى السمعة التي تروّجها عن نفسها. هكذا أحدثوا جهازًا يدعى الوكالة التونسيّة للإعلام الخارجيّ (ATC). وهي وكالة دعاية بالخارج خُصّصت لها ميزانيّة هائلة من أجل شراء الصحافيّين، ودعوة صحافيّين وأشخاص من ذوي النفوذ إلى تونس، ومن أجل تلميع السّحنة.

في الداخل اعتمدوا طبعًا وسيلة القمع؛ كلّ مناضلينا قد تعرّضوا للملاحقات القضائيّة، وتعرّضنا جميعًا للمحاكمات والاعتقالات، وأشياء من هذا القبيل؛ اعتداءات جسديّة من قبل أعوان البوليس الذين يراقبون بيوتنا بصفة دائمة، حرماننا من مورد العيش، إلى غير ذلك.

في مثل هذا الظروف كيف ترين حظوظ مواصلة نشاط صحيفتك الإلكترونيّة "كلمة "؟

بن سدرين: صحيفتنا يحرّرها فريق من تونس، لأنّ التحقيقات تجري في تونس، والأخبار تحدث في تونس. لكن نظرًا لكونه يوجد لدينا في تونس بوليس يشتغل بإغلاق كلّ مواقع المعارضين، فإنّه لا يمكننا إدخال محتوى الصحيفة الجديدة إلى الموقع انطلاقًا من تونس. وبالتالي فإنّ ما أقوم به الآن هو، بعد أن ننتهي من تحرير محتوى الصحيفة، أن أسافر إلى الخارج وأتحايل كي أخفي ذلك داخل قرص CD-ROM وانطلاقًا من ألمانيا أدخل المحتوى إلى الموقع. صحيح أنّ الأمر سيطرح صعوبات جديدة بعد عودتي إلى تونس، لأنّه سيكون علينا أن نجد حلولاً جديدة. لكنّني أظلّ محتفظة بالأمل في أنّه سيكون دومًا بإمكاننا، حتّى ضمن حالات انغلاق قصوى، أن نجد حلولاً.

ما هي حسب رأيك الإمكانيّات التي يمكن أن تمنحها معاهدة التعاون التونسي-الأوروبيّ لممارسة ضغوطات على النظام التونسيّ؟

بن سدرين: إلى جانب الانعكاسات الإعلاميّة هناك مواقف سبق أن اتّخذها البرلمان الأوروبيّ. فخلال سنتي 2000 و 2001 كانت هناك ثلاث قرارات بإدانة انتهاك حقوق الإنسان من طرف النظام التونسي. وهناك أيضًا مواقف الأمم المتّحدة من خلال ثلاث مقررات : المقرّر الخاصّ بممارسة التعذيب، والمقرّر الخاصّ بحريّة التعبير، والمقرّر الخاصّ باستقلال القضاء، وثلاثتهم قد قدّموا تقارير تُدين الحكومة التونسيّة بسبب الانتهاكات التي اقترفتها.
كلّ هذا حصل خلال سنتي 2000 و2001. لكنّ كلّ هذه الأصوات لاذت بالصمت بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 وفي الوقت الذي ظهرت فيه بدايات تأثيرات على الحكومة التونسيّة التي بدأت تعد بإصلاحات وبفكّ الحصار عن حريّة الصحافة ومنح حريّة التنظيمات – كلّ التنظيمات التي ننتمي إليها ممنوعة.

بعد هذا التاريخ (11سبتمبر) فإنّ النظام التونسي الذي سبق أن وعد منظمة الأمم المتّحدة والبرلمان الأوروبي والأميركيّين بأنّه سيجري تغييرات، بدأ يشعر بأنّه لم يعد ملزمًا بشيء من وعوده، وأنّه بات حرًّا في مواصلة القمع، ولم يحدث أيّ تغيير يذكر ذلك أنّ أوروبا وأميركا الآن، وحتّى منظّمة الأمم المتّحدة لم تعد تذكر انتهاكات الحريّات في تونس، ولا كلام لها إلاّ عن محاربة الإرهاب، ونظام بن علي يقدّم نفسه كبطل في مقاومة الإرهاب.

هل هناك قاعدة ملزِمة تخوّل للإتّحاد الأوروبي بمطالبة الحكومة التونسيّة باحترام حقوق الإنسان في بلادها؟

بن سدرين: تونس مرتبطة بمعاهدة شراكة مع أوروبا. ومعاهدة الشّراكة هذه تنصّ في بندها الثاني على أنّ أوروبا وتونس ملزمتان قطعيًّا باحترام الديمقراطيّة وحقوق الإنسان. وهناك العديد من التقارير التي تصل إلى اللجنة الأوروبيّة من طرفنا كما من طرف المنظّمات غير الحكوميّة التونسيّة والمنظمات غير الحكوميّة العالميّة؛ كما نرسل تقارير بصفة منتظمة عن الانتهاكات إلى المجلس الأوروبي. أوروبا لا تحترم البند الثاني من معاهدة برشلونة، لأنّها لو كانت تحترمه لطالبت الحكومة التونسيّة بتوضيحات حول هذه الانتهاكات. يوم 30 سبتمبر الماضي انعقد مجلس الشراكة التونسيّة الأوروبيّة لتقييم نتائج التعامل. أرسلنا وفدًا إلى البرلمان الأوروبي وإلى الاتحاد الأوروبي لنشرح لهم الأوضاع قبل انعقاد اجتماع مجلس الشراكة، كي يمكنهم أن يعبّروا على الأقلّ عن احتجاجهم في إطار هذا الاجتماع. اجتمعوا يوم 30 سبتمبر وأصدروا بيانًا يمكنني أن أطلعك عليه: كلّ شيء على ما يرام، ولا شيء يُعاب على تونس.

سؤال أخير للختام: حصلت الإيرانيّة شيرين عبادي على جائزة نوبل للسلام، فإلى أيّ مدى يمكن لمثل هذه التكريسات أن تؤثّر بصفة حاسمة خاصّة في أوضاع المرأة في العالم الإسلامي التي تناضل في العديد من البلدان من أجل احترام الحريّات الإنسانيّة في المقام الأوّل؟

بن سدرين: جائزة نوبل التي منحت لشيرين عبادي كانت إشارة قويّة الدلالة بالنسبة لكلّ المسلمات اللاتي يناضلن من أجل قيم حقوق الإنسان. وهي من شأنها أن تجعل من هذه القيم قيمًا كونيّة لا قيمًا غربيّة وافدة على المشرق. إنّها إذًا إشارة ذات دلالة قويّة بالنسبة لنا وأهميّة كبرى من شأنها أن تساعد على تصالحٍ، بالذات بين هذا الشمال وهذا الجنوب، هذا العالم الإسلامي وهذا العالم اليهودي-المسيحيّ، وهي أداة نضال قويّة.

السيّدة بن سدرين، أشكرك على هذا الحوار وأتمنّى لك أفضل ما يمكن بالنسبة للمستقبل.

أجرت الحوار سيلفيا كوسكة
الترجمة عن الفرنسية علي مصباح

صحيفة كلمة الإلكترونية بالفرنسية والعربية
TUNeZINE مجلة إلكترونية باللغة الفرنسية