وصفة القذافي السياسية- المال لشراء الولاء واستمالة الأعداء

 يستعرض الكاتب الليبي المعروف مصطفى الفيتوري في هذه المقالة أهم المحطات السياسية والعسكرية في حياة العقيد الليبي القذافي الذي بدأ حكمة وهو في الثلاثين من العمر ليستمر في السلطة نحو 42 عاما. غير أن سياساته اتسمت بالتذبذب والتقلب، ما أكسبه الكثير من الأعداء وجفاء الأصدقاء.

الكاتبة ، الكاتب: Mustafa Fetouri



عندما تولى الملازم معمر القدافي السلطة في ليبيا مطيحا بعرش الملك إدريس السنوسي صباح غرة سبتمبر (أيلول) من عام 1969 لم يبلغ من العمر عقده الثالث وبرز كقائد لمجموعة من الضباط الوحدويين الأحرار يقودهم مجلس يتكون من اثني عشر ضابطا برئاسته. وبحلول الثالث و العشرين من أغسطس (آب) من عام 2011 أمضى الرجل 41 عاما و11 شهرا و23 يوما في السلطة. وكانت اللجنة العليا للاحتفالات تعد لاحتفالات الذكرى 42 لتوليه السلطة بعد أسبوع، إلا أن وقائع الحرب كانت أسرع منه فأجبرته على ترك طرابلس قبل دلك بأيام قليلة. وفي العشرين من أكتوبر انتهى الرجل كما قال إنه سينتهي قتيلا في بلده. ولكن كيف تمكن هذا البدوي من الاحتفاظ بالسلطة أكثر من أربعة عقود متواصلة فشلت خلالها عدة محاولات انقلابية للإطاحة به وعدد من محاولات الاغتيال أبرزها قصف الولايات المتحدة الأمريكية لبيته عام 1986.

غداة بداية حكم الملازم معمر القدافي ــ قبل أن يرقي نفسه لرتبة عقيد ــ لليبيا كانت هده الدولة العربية تٌكنى بصندوق الرمل ومن أكثر دول العالم فقرا وتشكل الصحراء الجزء الأكبر من مساحتها و يلتهم المرض والفقر حياة أهله وتفتقر لأدنى مقومات الحياة بالرغم من النفط الدي تم اكتشافه فيه في خمسينيات القرن الماضي. وهذا المناخ جعل من عموم الناس في ليبيا مستعدين للترحيب بأي قادم ينشد إنقاذهم، إذ المهم أن يخلصهم من حالهم آنذاك وهو نفس المشهد الدي تكرر في الإطاحة بالعقيد نفسه. وهكذا وفور إعلانه لبيانه الأول صبيحة سبتمبر حقق الرجل تأييدا شعبيا واسعا سيستمر معه حتى نهاية العقد الثاني من حكمه وكان هو موفقا في اختياراته لمن يعمل معه من التكطنوقراط ورجال الدولة.

مرحلة الانحدار

الصورة ا ب
"في منتصف التمنينات وتراكم الأخطاء الجسيمة في إدارة الاقتصاد وفي العلاقات الدولية بدأت تؤثر علي شعبية القذافي بين الليبيين"

​​ركب القدافي موجة التأييد الشعبي الواسع التي ساعدها على تحقيقها تدفق النفط الذي مكنه من الإنفاق بلا حدود على تطوير الطرق وبناء المدراس والمستشفيات و شبكات الاتصالات والمساكن المدعومة واستمر هذا التأييد الشعبي حتى نهاية العقد الثاني من توليه السلطة. غير أن منتصف التمنينات وتراكم الأخطاء الجسيمة في إدارة الاقتصاد وفي العلاقات الدولية بدأت تؤثر علي شعبيته بين الليبيين، إضافة الي ما بدأ يظهر من قسوة أجهزته الأمنية في مواجهة أي تحد لسلطته وحتى عام 1993 لم تكن التحديات كبيرة عدى عن بعض محاولات انقلابية فاشلة أو محاولات اغتيال لم تكلل بالنجاح.

وطبيعة القذافي البدويه مكنته من الاستفادة من خصلتين أساسيتين: أولهما حسه البدوي وثانيهما قدرته على التنبؤ بالخطر وتفاديه وشدة قمع مصادره مهما كانت. ففي أواخر تمانينيات القرن الماضي وبينما بدأ الاتحاد السوفييتي ــ نصيره الدولي الأكبرــ يتصدع أدرك القذافي الخطر واتخد بعض الخطوات لتخفيف قبضته الأمنية على الليبيين فأطلق أغلب السجناء السياسيين وأعاد جوازات السفر المصادرة ورفع قيود السفر. وقد كانت تلك الإجراءات جرئية في وقتها عجز عنها بعض قادة العالم الذي كانوا في نفس وضعه. وفي إدارته اعتمد القدافي على الولاء المطلق له ولهذا لم يكن يثق بالكثيرين وكان يفضل الولاء على المعرفة أو العلم في توزيع المناصب ولهذا السبب فإن بعض الذين عملوا معه لم يتقاعدوا أو يستقيلوا حتى نهاية أيام حكمه، بل إن الموظفين المدنيين في مكتبه الخاص لم يكونوا سوى مجموعة من الأفراد الذين يختارهم هو بنفسه وأغلبهم من محدودي الثقافة والاطلاع.

تحديات أمنية

وكان العقيد القدافي يعتبر أمنه الشخصي أهم مشاغله ولهدا كانت كتيبة "امحمد المقريف" بأسرها متفرغة لحمايته وكان في تنقلاته بالسيارة يختار الطريق بنفسه وفي بعض الأحيان يحدد توزيع الحراسة علي الطريق تفاديا لأي طارئ في حين كان موكب رحلاته الخارجية يتكون من ثلاث طائرات ليصعب تحديد في أي منها يركب العقيد. واجه حكم العقيد القذافي أخطر تحدياته عام 1993 عندما قاد مجموعة من ضباط الجيش من قبيلة ورفلة أكبر قبائل ليبيا محاولة انقلابية كان على رأسها العقيد رمضان العيهوري ومحمد بشير و مفتاح قروم، إلا أن المحاولة فشلت مما دفع بالعقيد القذافي إلى شن حملة انتقام واسعة من أبناء ورفلة طالت عددا كبيرا منهم وحرم ميدينتهم بني وليد من مياه النهر الصناعي بالرغم من مرور أنابيه بأراضيها وأقصى أغلب أبنائها عن أية مناصب قيادية. أما أسر الذين شاركوا في المحاولة الانقلابية فقد ذاقوا الأمرين، إذ هدمت بيوتهم وصٌودرت ممتلكاتهم وهٌجرت عائلاتهم إلى خارج بني وليد ليعودوا بعد عقد كامل!

الصورة ويكيبيديا
"عربيا تميز القدافي بتقلب سياساته تجاه العرب والجامعة العربية"

​​وبفطرته البدوية كان القذافي يفهم التركيبة القبلية لليبيا ويجيد استخدامها جيدا فنجح في كسب ولاء بعض القبائل واستخدمها ضد بعضها بعضا متى كان ذلك في مصلحته، إلا أنه احتفظ دائما بمسافة مناسبة من الجميع إلا متى تغيرت الظروف ولهذا السبب ألّب مصراته ضد ورفلة مستخدما العداء التاريخي بين القبيلتين بعد أن فشلت محاولة انقلاب عام 1993. وكان المال في سلطة القذافي أداة مهمة لشراء الولاءات وإسكات الأفواه المنتقدة وقد برع رجاله في استخدامه بلا حدود. فعم الفساد كافة مفاصل الدولة وشمل كل قطاعاتها وقد نجح المال كثيرا في حل بعض المشكلات، إلا أنه لم ينجح في النهاية بعد أربعة عقود من السلطة شبه المطلقة.


البعد الدولي

أما دوليا فقد كان الرجل مشهورا بأرائه الغريبة وطريقة لباسه وتحليلاته الجريئة ولعل خطابه الوحيد في الأمم المتحدة قبل عامين كان ناريا وقاسيا بكل المقاييس واكتسب الرجل من جراء ذلك النوع من الخطابات عداء عدد من زعماء العالم. ولاحقت حكمه شتى أنواع التهم من تمويل ودعم الإرهاب إلى قلب أنظمة الحكم في إفريقيا وهو لم ينكر الكثير منها، إلا أن أخطر تلك التهم هي إدانة أحد موظفي جهاز الأمن الخارجي الليبي عبدالباسط المقرحي بالضلوع في تفجير طائرة البام عام فوق لوكربي بأسكتلندا عم 1988 والدي حٌكم بالمؤبد وأطلق سراحه مند عام ونيف وهو طريح فراش الموت الآن في طرابلس.

الصورة د ب ا
"بفطرته البدوية كان القذافي يفهم التركيبة القبلية لليبيا ويجيد استخدامها جيدا فنجح في كسب ولاء بعض القبائل واستخدمها ضد بعضها بعضا متى كان ذلك في مصلحته"

​​وتحرك المال أيضا على الساحة الدولية حيث قبل الغرب عودة القدافي إلى الساحة الدولية طمعا في ثراوت ليبيا الهائلة من النفط والغاز والمشاريع الاستثمارية. ولكنه قبول المكره، إذ كانت الدول الغربية تتحين الفرصة للتخلص من الرجل الذي ناصبها العداء لعقود وكان مصدر قلق وإزعاج لسياساتها خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وإقليميا كان الرجل مناصرا قويا لوحدة المغرب العربي وكانت مشاريعه الوحدوية العربية والأفريقية أكثر من أن تٌحصى إلا أنها اتسمت بالتسرع وتميزت بالغلو السياسي وإبراز الذات أكثر من كونها مشاريع استراتيجية مستقبلية. غير أن تجربته السياسية الغنية سمحت له في السنوات العشر الأخيرة من حكمه بلعب دور مهم في أفريقيا أكسبه حنق بعض الدول الأوروبية وخاصة فرنسا. وبعد أن شارك في تشكيل حكومات إفريقية عديدة ولعب دور المخرب لسياسات فرنسا بصفة خاصة عاد وبدأ يلعب دورا توحيديا وتنمويا مفيدا للغرب بقدر فائدته لليبيا ولإفريقيا عموما.

وعربيا تميز القدافي بتقلب سياساته تجاه العرب والجامعة العربية وقد شتم الجامعة العربية أكثر من مرة متهما إياها بالعجز وأهان عددا من الزعماء العرب في أكثر من مناسبة، إلا أن سنواته الخيرة اتسمت بسياسة عربية تصالحية نتج عنها نجاحه في استضافة القمة العربية للمرة الأولى عام 2009 . غير أن موقفه من الثورتين التونسية والمصرية مطلع هذا العام أفقده احتراما شعبيا كان يتمتع به خاصة في تونس.

 

مصطفى الفيتوري

مراجعة: هشام العدم

حقوق النشر: قنطرة 2011

مصطفى الفيتوري: اكاديمي ليبي وحائز على جائزة سمير قصير لحرية الصحافة عام 2011